قبسات من حياة الوالدة فتحية حسن طه الفكي

 


 

 

 

 

تمرُ علينا هذه الأيام ذكرى عيد الأم وهي ذكرى سنوية رمزية تدعو للاحتفاء بمكانة الأم وتقدير دورها في الأسرة والمجتمع . اكتسب الاحتفال ألقاً في الآونة الأخيرة بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي فكانت فرصة لتذكر فضل وبِرّ الأمهات الأحياء والتواصل معهنّ ومحاولة ردّ جمائلِهنّ ، كما أنها فرصة للترحم على الأموات ومحاولة إظهار فضلهنّ وتذكر ماقدموه لأسرهِنّ وأبناءهنّ. 

في آواخر يناير من هذا العام ، انتقلت إلي جِوار ربها الوالدة فتحية حسن طه الفكي إثر علة ٍ مفاجئة بعد حياة عامرة بالبذل والعطاء تجاه أُسْرتها الصغيرة والكبيرة وأهلها وجيرانها حيث كان لفقدها الجلل أثرٌ عظيمٌ ليس علي إسرتها فحسب ، بل علي الكثيرين ممن عرِفوا فضلها وفضائلها عبر دروب الحياة المختلفة رغم أن أيام العزاء كانت مليئة بالحزن علي فراقها إلا أنها كانت فرصة للتعرف علي الاتصال الإنساني والوجداني الذي خلّفته ورائها ، والتفكر والتذكّر من أبنائها وبناتها حول حياتها الممتدة المليئة بالبذل العطاء .
رغم أن الفقيدة تمثل معاني الأمومة المخلصة التي تتوفر في كثير من الأمهات ، إلا أنني رأيت أن في حياتها الكثير من الدروس والعبر التي لا شك تصلح أن تكون منهجاً ونبراساً للكثيرين لا سيما أنها تمسّ أشياء جوهرية في حياتنا مثل تنشئة الأسرة ، التدين ، التعامل مع الأخرين وحسن الخلق . كان قوام هذه القبسات أهمية الأسرة وتنشئة الأبناء كأول ركيزة في المجتمع ، وثانيها حسن الخلق ودبلوماسية التعامل ، وثالثهما النظافة ، النظام وحب الجمال بكل معانيها ورابعها روحانية التدين الفطري السليم كغذاء للروح والجسد حيث كان الركيزة لكل ما سبق . وبما أن الأمومة والتربية الأسرية ركيزة أساسية للأسرة والمجتمع فالأوجب أن نبرز دورها حتي يتسنى للاخرين أن يحذوا حذوها :
الأمُّ روضٌ إن تعهده الحيا بالريِّ أورق أيمّا إيراقِ الأمّ مدرسةٌ إذا أعْدَدتها أعْدَدت شعباً طيب الأعراقِ
وُلِدت الوالدة فتحية حسن طه لأسرة شريفية عريقة من أهل أمدرمان ، حيث كان لجدها لأُمها : الشريف أحمد موسى الأثر البالغ في حياة الأسرة اتّصل تأثيره حتي أحفاده ، خطّ طريقهم في الحياة من بساطة في العيش وحلو المعشر وحسن للاخلاق والتعامل . ورغم أن تعليم الفقيدة لم يتخط َالمرحلة الوسطى ، إلا أن ذكائها وشقيقتها الصغرى كان واضحاً لم يشفعْ لهما بمواصلة التعليم العالي بسبب تقاليد ذلك الزمان السحيق ، فآثرت بعده الزواج وهي في عمر الصبا فسافرت إلي المملكة المتحدة في معيّة زوجها المبتعث لتبدأ رحلةً الزواج والأسرة التي كانت رسالة حياتها الأولى بلا منازع.
الأسرة :
طوال حياة الفقيدة شكّلت الأسرة ركناً مهماً في حياتها فكان همُّها الأول أن تهتم برعاية أبنائها والإهتمام بصحتهم ، تربيتهم وتنشئتهم ، وكانت تفتخر دوماً بأنها كانت تضع أبناءها وبناتها أولاً قبل الأخرين ، ولا تفكر في بِشر أو سَمرٍ عندما كانت بنات جيلها لا يفوتهن مرحٌ أو فرحٌ ، وكانت تحكي في فخر كيف أن رفيقاتها كنّ يلمنها عندما ترفض أن تصاحبهن عندما يلمُّ بأحد أبنائها أعراض المرض وكيف كانت تتداعى له بالسهر حتي تغيب عنه أثر الحمى . وكانت تحرص منذ الصغر أن تغرس في أبنائها وبناتها مبادئ الاستقامة ، التهذيب والأدب عبر قصص الاستعارات المجازية التي ما فتئت عن ترديدها وهي تستلهم أهمية الأخلاق في تربية النشء :
علموا النشء علماً يستبين به سبل الحياة وقبل العلم أخلاقاُ
كان زواجها من الوالد التربوي الضليع المرحوم عبد الجبار عبد الهادي أبلغ الأثر في حياتها حيث ألهمها أهمية التعليم في الأسرة والمجتمع ، فعضّت عليه بالنواجذ وأخذت توفر البيئة المناسبة لأبنائها للدرس والقراءة ، وتخدمهم بنفسها أيام احتدام وتيرة االتحصيل ، وتتحايل على أصدقائهم لتبعد عنهم رفقاء السوء ومبددي الوقت بالهذْرِ والمذْرِ. فكان نتاج كدّها ومثابرتها في الظلام أن وجدت نور التعليم في آخر الطريق ، فحصدت ما زرعت فأثمر غرسها البنين والبنات فحصل جلّهم علي تعليم عالٍ بشهادات جامعية وفوق الجامعية من أم الجامعات في الخرطوم ، تبوّأ معظمهم مناصب رفيعة داخل السودان وخارجه فأدت ضريبتها نحو الوطن كأحسن ما يكون . وكانت الفقيدة طوال الوقت تحمد الله وتشكره علي نعمة التوفيق والسداد لأبنا ئها ولسان حالها ما انْفك يردد:
نِعْم الإلهِ علي العبادِ كثيرةٌ وأجَلّهنّ نجابةُ الأبناءِ
وتزيد :
العلمُ يرفعُ بيتاً لا عمادَ له والجهلُ يهدمُ بيت العزِّ والشرفِ
وبعد أن كبُرَ أبناؤها أمتدّت أيادي تربيتها لأحفادها فواصلت غرس المبادئ والأخلاق التي أرضعتها لأبنائها فكانوا قُرّة عين لها تفاخر بأدبهم، سلوكهم وأخلاقهم قبل تفوقهم ونجابتهم. وكانت ترشدهم أن جمال العلم والأخلاق يسبق جمال الشكل والخِلْقة :
ليسَ الجمالُ بأثوابٍ تزيّننا إنّ الجمالَ جمالُ العلمِ والأدبِ
فن التعامل وحسن الخلق :
كانت الوالدة يرحمها الله مدرسةً في فنونِ التعاملِ ثمثّلها الأخلاق السودانية الأصيلة في البساطة ، الطيبة ، السماحة ، الجود و الكرم فكانت تحرص أن تعامل الجميع بحُلوِ المعشر وحُلو الحديث وتحرص أن تًكرم الزائر العابر وتُقْرِي الضيف السامر في بيتها العامر . وكانت تمثل حجرَ الزاويةِ لأسرتها الصغيرة والكبيرة تجسد دور الأم الروؤم والمهدِ الحنون .ومكّنها ذكاؤها الفطري أن تتصل بقلوب الكثيرين من جيل أبناءها و بناتها وأصهارِها وجلّهم من المهنيين لقدرتها علي متابعة مجريات الحياة الحديثة من أخبار عبر قنواتها المختلفة و استخدام تجربتها ومعرفتها بتقلبات الحياة في النصح ، التقويم والارشاد بدبلوماسية خبرتها عبر السنين . وكانت حريصة أن لا ينقطع حبل ودّها مع الناس الذين تسعد بوجودهم حولها والاطمئنان علي حالهم وأحوالهم ، وعندما أصبحت وسائل الأتصال الحديثة متاحة ، برِعت في استخدام الأجهزة الحديثة بكل امكانياتها في الارتباط بأبنائها ، أهلها وجيرانها فكانت المنارة التي ينتهي عندها سفين الحيرة و الهموم فترشدها بسديد الرأي والقول .
وبما أنها كانت بشراً تحب وتبغض إلا أنها ما كانت تفعل ذلك صراحةً ، فإن استحسنت شيئاً ما فتئت تذكر محاسنه وميزاته ضمنياً فتحببه للقلوب وترغّبه في أذان السموع ، فإن كان لنفسها سارع أبناؤها وبناتها وأحفادها إلي استرضائها لإدخال البهجة والسرور لقلبها ، وإن كان لغيرها استرجع المَعْنِي بالأمر البصر كرتين قبلها ، وإن استكرهت أمراً يخص من تحب في دروب الحياة المختلفة ، لم تبادر بانتقاده مباشرة خشية أن يؤدي ذلك لضيق في الصدر واستعجال لقضاء الأمر ، بل تلتف حوله بالحيلة والذكاء وضرب الأمثال وتجارب الأجيال ، فإن صُرف الأمرُ استبشرتْ وإن وقع ماتخشى ساندت وعاضدت فحبل وَدَّها متصلٌ بالجذوعِ قبل ضعيف الأوراق و الفروعِ .
كما أنها كانت تستخدم ذكاءها الاجتماعي في التوفيق بين الفرقاء من الأهل والأسرة والجيران ولمّ شملهم عندما تستشعر الجفوة والخصام ، فما برحت تذكّر أحدهم بفضل الآخر عليه حتى تقرّب الشُّقّة وتباعد البغضاء والشحناء عن القلوب ليعود الصفاء ، المحبة والوئام . فعلت ذلك وهي قاب قوسين أو أدنى وهي تخطو خطواتها الأخيرة عن دنيانا الفانية.
النظافة ، النظام والجمال :
كانت النظافة ، النظام والجمال منهجاً مَهِمّاً للوالدة يرحمها الله ، فأهتمت بنظافة البدن ، الملبس والمظهر الحسن حتي صار سمةً لها ، وكانت تجتهد في بلوغ أقصى درجاته حتى أنْهكها ، وشدّ ما كان يعجبها أن يكون بيتها ومسكنها في أزهى صورة فتجتهد في الترتيب والتوضيب و أكثر ما كان يكدرها منظر الفوضى وعدم النظام ، فعندما تهب العواصف الترابية صيفاً فتملأ بيتها كدرا ً وطيناً ، تتكدّر حتي تُسترضَي ليرجع بعدها صفواً نظيفاً . وكانت كثيرأ ما تحكم على " ست البيت" في لمحة من البصر عبر اهتمامها ببيئتها وبيتها قبل نفسها وزوجها ، وكانت تحرص عند سفرها أن تجلب معها كل ما هو جميل ليزيّن بيتها لا سيما الأواني و الزهور التي كانت متيّمة بأشكالها وأنواعها المختلفة.
وكان قلبها مفطوراً على حبِ الجمالِ والإجمالِ : "والذي نفسه بغير جمالٍ ، لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً " ، فعند سفرها المتكرر لأوروبا ودول الخليج كان شدّ ما يعجبها النظام والجمال في الحدائق ، الشوارع ووسط المدن ، فتاخذ في الصمتِ والتأمل المذهل و المكلوم : "فالصمتُ في حرمِ الجمالِ جمالٌ " ، وكانت دوماً ما تتحسر أن بلادنا ترزح في نيرِ الفقر والفوضى بينما الآخرين قد بلغوا العُلْا و الثريا، فتدعو الخالق أن يبدل الحال والأحوال ولو بعد حين. .

الدينُ والتدين :
كان الدين والتدين يمثل صراطاً مهماَ في حياة الفقيدة وغذاءً روحياَ مكنها من شق وعِرِ الدروب و شائك المسير عبر طرائق الحياة المختلفة . و كان جوهر هذا المذهب إنّ الحلالَ بيّنٌ والحرامُ بينٌ والأفضلُ أن تتقي الشبهات ، فآثرت أن تربي أبناءها وبناتها على الاستقامة ، الصدق والأمانة في زمنٍ ردئٍ شحّت فيه الأخلاقُ وماتت فيه الفضائلُ . وهي إن آثرت جمْرَ هذا المذهب فقد كانت تعلم من تجربتها الذاتية أنها قد تخسر عرض الدنيا في سبيل إيمانها المطلق بمبادئ الدين .
فكانت تحكي تجاربها في تربية أولادها بالحلالِ بكل السبل وحتى إن واجهت شَظَفَ العيش . وكانت تروِي كيف أن غيرهم اختار أقصر الطرق فلم تفزع أو تجزع ، ولم تقارن أو تساوم ، وكانت تفتخر كيف أنها كانت عبر السنين تردُّ الرشاوي الصريحة والضمنية التي تاتيها من أولياء أمور الطلاب والطالبات من الشباك ، بعد أن يرفضها زوجها التربوي الصارم من الباب . فكان نتاج ثلاثين سنةٍ من الحياة الزوجية وأربعين سنة في حقل التربية و التعليم ، أن انتهى معاشُ زوجها لبيت بالإيجار في حيٍ شعبي بأطراف أمدرمان ! ورغم قساوة التجربة إلا أنها ما لانت ولا هانت وكان كل أملها أن يثمر غرسها فيعلو شأنها . وكانت تضع كل أملها في الحي الذي لا يموت أن يبدل حالها بأحسن منها فاستجاب الرحمن لدعائها فأصبحت في غمضةِ عينٍ تحجّ وتعمر وتجوب مختلف الدول والبلدان بصورة متكررة ففي ظرف سنواتٍ وجيزة.
عكفت بعدها لسنوات طويلة في مداومة العبادات وقراءة القران وختمه أمام أبناءها وبناتها وأحفادها والدعاء لهم بالتوفيق والسداد . ومن ما يدعو للعجب والاستغراب و يشير إلي صلاحها ، الظروف والملابسات التي سبقت رحيلها . فقد خيّرها أبناؤها وبناتِها بأن تزورهم في أوروبا أو الخليج ، أم تعمّر وتزور بيت الله ونبيه فاختارت أكثرهم أحبُ إلى قلبها لتُبِر أصغر أبنائها بالفضل . فرافقت أبناءها وبناتها وأحفادها في أجواءٍ روحانية مفعمة بالبهجة بوجودها ، فعمّرت عمرة مقبولة إنشاء الله ، وصلّت الصلوات في المسجد الحرام والنبوي ، ودعت لنفسها ولأبنائها وأحفادها وكان أحب الدعاء لنفسها عند تذكر الموت : أن تمضي " من القُوّة للهُوّة " وتعني قُوّة كمال الجسد و هُوّة ظلمة القبر فيجنّبها الله الضعف والخِور فلا تكون عالةٍ على أحد في كبرها . فاستجاب الله لدعائها فلم تمضِ أيام من رجوعها الميمون و زيارة المرافق المقدسة وهي في أتم عافية ، إلا وإن ألمّ بها سبب الموت المفاجئ فتوفاها الله بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء وحولها من تحب و ترضى.
الأ رحم الله الوالدة فتحية حسن طه الفكي بقدر ما قدمت لأسرتها وأبنائها وغفر الله ما تقدم من ذنبها ، وأسكنها فسيح جناته ، ووفقنا أن نداوم بالدعاءِ والاستغفار لها ، وجعل ما قدمته من صدقات عديدة عملا جارياّ ، وجعل ذِكْرها بعض العلم الذي ينتفعُ به ، وألهمنا الصبر والسلوان وحسن العزاء .


hamadhadi@gmail.com

 

آراء