قصة قصيرة: المرآة لا تكذب لكن فرويد عنده رأي

 


 

 

تفحصت المرآة هنيهة والمشط في يدي قبل الخروج للعمل وما كنت ادري إن مفاجأة من الوزن الثقيل ستطل علي وتصفعني علي وجهي بقوة زلزال يفوق ما عند ريختر من درجات وتصبب العرق مني مدرارا رغم أن الشتاء كان في أوج عظمته وقوة شكيمته واحتجت أن استند علي الدولاب حتي لا تستقبلني أرضية الغرفة وانا في هذه الحالة من الترنح الارتدادي .
رغم زغللة العينين وتسارع ضربات القلب والفوضى الخلاقة التي تمكنت مني وجعلتني كملاح تائه إلا أنني وبمحاولة انتحارية ثبت المرآة تماما أمام ناظري ورحت اتفرس داخلها بتركيز عالي وإرادة وتصميم للتحقق هل ما أراه حقيقة ام خيال وهل أنا أنا ام شخص آخر أراه حيث كان ينبغي علي حسب نواميس الكون أن اري شخصي الضعيف بوجهي المألوف لدي ولدي كل الأهل والمعارف والأصدقاء والجهات الرسمية .
كلما دققت النظر في المرآة يظهر امامي تماما انسان قابلته قبل سنين عديدة في مطار دولي وقد تقدم مني طالبا أن كان عندي عملة معدنية لانه يريد أن يجري محادثة تليفونية علي التلفون العمومي . واعطيته ما طلبه وعاد مرة أخري بعد المحادثة ليشكرني ثانية وليتجاذب معي طرف الحديث . كانت تقاطيعنا تكاد تكون متطابقة لكن لكنة في حديثه تدل علي أنه من عرقية أخري لا تمنع من أن نستمتع باغانيهم وفنونهم الشعبية وبلدهم به من الإبل مثل ما عندنا والحرب مزقت بلادهم مثل ما فعلت بنا ولكنهم نجحوا في ارض الشتات واستعادوا أنفاسهم في بلاد اليانكي وادخلوا بنتهم اليان عمر الكونجرس وكانت تكره ترمب كما كان يبادلها نفس الشعور .
مازلت انظر في المرآة وانا مذهول وكاد عقلي أن يطير فوق عش المجانين و الصورة بالداخل ليست لي بل لهذا البروفسور الذي قابلته في المطار الدولي وشربت معه الشاي واجرينا مقارنة بين رئيسه محمد زياد بري وقائد مسيرتنا الظافرة ( ابو عاج ) الذي جاب الموية للعطشان واللقمة للجيعان والذي رحل الفلاشا من معسكر ود الحليو عن طريق روما ومن ثم الي تل أبيب .
وقال لي كلهم دكتاتوريون دفعة ١٩٦٩ أتت بهم انقلابات ساهم كبيرهم الدكتاتور الساحر جمال عبد الناصر في هندستها مما جعل افريقيا المنكوبة تنتج القذافي وبوكاسا وعيدي امين وادريس دبي وغيرهم من النكرات الذين تبناهم الغرب وسلطهم علي شعوبهم فصاروا ينهبون خيرات بلادهم والغرب يقض الطرف لانه ينهب معهم ويشاركهم في التركة الهاملة.
هذا البروفيسور الذي طال العهد به منذ أن قابلته في الثمانينات وهو قادم من ارض الأحلام ترانزيت ليعبر لبلاده التي لم تعد دولة والتي تفرقت ايدي سبا ورحل معظم أهلها الي أمريكا حيث وجدوا حق اللجوء وبما عندهم من جرأة صاروا أصحاب بلد واسسوا مدارسهم الخاصة بهم ومساجدهم واسواقهم العامرة وصار لهم صوت انتخابي معتبر وصارت ولاية منسوتا اكبر معاقلهم .
هو بلحمه وشحمه يحتل وجههه الابنوسي صفحة المرآة امامي ولا أثر لوجهي أنا صاحب الحق علي حسب العرف والقانون .
ومع كل هذه الربكة واختلاط الاوراق وتبادل الأدوار سمعت طرقا علي الباب يصم الاذان هرولت لاستجلي الأمر والمرأة في يدي وفتحت الباب بيد مرتعشة وقلب واجف وانفاس لاهثة وشرود وكان البروفسور الابنوسي الذي قابلته في القرن الماضي بالمطار الدولي والذي احتسيت معه كوب الشاي والذي أعطيته العملة المعدنية ليجري بها محادثة علي تلفون عمومي كان واقفا متاهبا لتحيتي بحرارة ومودة وكأنه يريد عبر السلام الحار والتعبير بكلمات منتقاة أن يدلل علي أن لقاءنا العابر بالمطار يمكن أن يتكرر في مناسبات كثيرة وأننا اصلا منبتنا واحد ولكن سمحنا للغرباء أن يدخلوا بيننا لتقوم تلك الفواصل الملعونة التي مازالت وستظل تفاقم من ماساتنا وتشتت من شملنا مادام نفر منا في خدمتهم ضد إرادة أهله وهذه هي المأساة والطامة الكبرى والبلية العظمي والتي مازال مسلسلها يعزف فينا لحن الخلود .
مد كلتا يديه ليكون السلام احر من شمسنا المشرقة ولحظتها شعرت بدوار البر والبحر وارتطم جسدي بقوة علي الارض الحجرية خارج الدار .
وافقت وجماعة حولي في غرفة مكيفة كأنها في الإسكيمو وسرعان مافهمت اين انا وكنت مازلت اصرخ :
( اين العم فرويد .. اريد تفسيرا لما جري ) .
شعرت بغرزة علي ذراعي مع ألم ورحت في سفر طويل عبر مطارات العالم .

حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
افريقيا فقط علي الخريطة في الواقع لا !!..
ghamedalneil@gmail.com

 

آراء