كتب د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
wadrajab222@gmail.com
بينما كان المزارعون في ولاية سنار يجرّون سبائط الموز الخضراء من المزارع قبل أن تنضج ثمارها، عبر مياه الفيضان إنقاذاً لما يمكن إنقاذه، كان فنّيو وزارة الزراعة والري في 30 سبتمبر 2025م يصوغون بياناً يبرّر الفيضان بأنه نتيجة لزيادة وارد الأمطار وفيضان النيل الأبيض.
المزارعون الذين تكبّدوا خسائر مليارية لم يجدوا في البيان الرسمي سوى عبارة باهتة تدعوهم إلى “توخي الحيطة والحذر”. لم يأتِ أحد ليعزّيهم في فقد موسمهم، ولا أحد تصدّى لمعرفة السبب الجذري لفيضانٍ هاج بعد أن انقضى موسمه. كأن لم يطرأ جديد على ظهر الهضبة الإثيوبية، ولم تسجّل محطات الرصد ارتفاعاً استثنائياً في المنسوب، ومع ذلك غمرت المياه المزارع وهدمت الجسور.
كان الفيضان، في جوهره، اختبارا سياسيا ومعرفيا لمدى إدراك السودان الرسمي للعلاقة بين (المياه والسيادة والأمن الإنساني). هذا ما فشل تكنوقراط الري في إدراكه، بينما أدركه المزارع في سنار بحسّه التلقائي المبني على ما يُعرف في أدبيات إدارة مخاطر الكوارث بـ التقويم الموسمي (Seasonal Calendar)؛ فالمزارع يعرف بخبرته المتراكمة متى يبدأ الفيضان ومتى ينحسر. غير أن بيان الوزارة، الذي اكتفى بإلقاء اللوم على تقلبات المناخ، كشف عن عجزٍ في قراءة النهر ككيان تتجاذبه السياسة لا كمجرى مائي فحسب.
البيان السوداني: فنية بلا موقف
بيان وزارة الزراعة والري بدا أقرب إلى نشرة طقس مطوّلة منه إلى موقف دولة تواجه فيضانا خارج موسمه الطبيعي. أشار إلى “تأخر الخريف” و”زيادة الأمطار على الهضبة الإثيوبية”، وذكر أن تصريف سدّ النهضة بلغ 750 مليون متر مكعب في اليوم، متجاوزا قدرة سدّ الروصيرص التي لا تستطيع ان تصمد في وجه تلك التصرفات. لكنّه أحجم عن تسمية الفعل الإثيوبي باسمه: فتح اضطراري للبوابات بعد امتلاء البحيرة، في توقيتٍ كفيل بتحويل التدفقات إلى فيضان مدمّر.
تجاهلُ البيان لهذه الحقيقة جرّد الحدث من دلالته السياسية، وهيّأ المسرح لمغالطة “المنقذ” التي سمحت لإثيوبيا بالظهور بمظهر المُحسن حين قالت إن السدّ أنقذ السودان من كارثة أكبر. هكذا استبدل السودان الموقف بالوصف، وأطلق فراغاً سردياً ملأته أديس أبابا بادعاء البطولة.
أما رئيس الوزراء، فمرّ على الكارثة مرور الكرام، مكتفياً بالحديث عن “التعاون مع مصر وإثيوبيا” دون مساءلةٍ أو مراجعة، لتبدو الدولة كمن يتلقى الضربة ويجزل لمسددها آيات الشكر والثناء.
دموع التماسيح الإثيوبية
في بيان بتاريخ 4 أكتوبر 2025م، أعربت وزارة المياه والطاقة الإثيوبية عن أسفها لفيضانات السودان، زاعمةً أن “لولا السدّ لكانت الكارثة أعظم”.
لكن هذا التعاطف لم يكن سوى دموع التماسيح؛ فعندما تزدرد التماسيح ضحاياها تذرف دموعها لا ندماً بل تمويهًا.
فالمياه التي أغرقت سنار وسنجة خرجت بوابات السدّ ذاته بعد امتلاء بحيرته، واضطرت أديس أبابا لتصريف الفائض.
هكذا تحوّل الفيضان في خطابها إلى دليل على الفضل لا على المسؤولية، وإلى تبرير سياسي مغلّف بإنسانية مصطنعة، أرادت به إثيوبيا أن تُظهر نفسها حاميةً للسودان بينما هي في الواقع المتسببة في معاناته.
مغالطة “المنقذ” وتزييف الفيضان
لم يكن البيان الإثيوبي بريئاً في منطقه حين ادّعى أن سدّ النهضة “أنقذ السودان من كارثة أكبر”، فذلك القول قلبٌ للوقائع على رؤوسها.
إذ لو كان السدّ فعلا أداة لتقليل الفيضان، لما شهدت البلاد هذه الزيادة المفاجئة في المناسيب، بل لحدث العكس تماما؛ إذ كان يُفترض أن يمنع الفيضان لا أن يصنعه.
إنّ تصريف سبعمائة وخمسين مليون متر مكعب في ذروة الموسم لا يمكن أن يُفسَّر على أنه إجراء وقائي، بل هو تصريف مضاعِف للأثر الهيدرولوجي، جاء في توقيت حرج فحوّل الفيضان الطبيعي المتدرّج إلى موجة مائية مركّزة لا يمكن امتصاصها.
إنّ الزعم بأن “لولا السدّ لكانت الكارثة أكبر” يقوم على معادلة زائفة، فهو يفترض أنّ كل فيضان طبيعي كارثي بالضرورة، وأنّ السدّ وحده من يملك مفاتيح الإنقاذ.
والحقيقة أن الفيضانات الموسمية كانت جزءا من النظام البيئي النيلي، تُدار بالتدرج والزمن، وكان يمكن التخفيف من أثرها عبر تشغيل منسّق لخزانات السودان لو توفّر الإخطار المسبق عن التصرّفات الإثيوبية.
بهذا المنطق، تحاول أديس أبابا إعادة تعريف الفيضان نفسه؛ فتقدّمه كظاهرة طبيعية “تحت السيطرة بفضلها”، بينما الواقع أنّ ما حدث هو تحكّم سياسي في المياه بغطاءٍ هيدرولوجي، إذ تمّ اختيار توقيت التصريف بما يضمن ضغطاً مائياً على السودان في لحظة امتلاء السدّ وتراجع قدرة الخزانات السودانية على “المناورة”.
إنّ الجمع بين ادّعاء “التحكم” وادّعاء “الإنقاذ” تناقضٌ بيّن؛ فمن يخفف الفيضان لا يطلق مياهه دفعة واحدة في ذروة الموسم، ومن يملك النية الحسنة في إدارة مشتركة لا يحجب المعلومات عن جيرانه.
تلك هي المغالطة الكبرى التي ينبغي أن تُقرأ لا بعين الهيدرولوجيا وحدها، بل بعين السياسة التي تستثمر الماء أداةً للهيمنة لا للتنمية.
السيادة المزعومة.. التطبيق العملي
لم يكن الموقف الإثيوبي وليد هذه الأزمة. فمنذ سنوات أعلنت أديس أبابا، على لسان وزير المياه والري والطاقة سليشي بيكيلي (Seleshi Bekele) عام 2020، أن “النيل الأزرق أصبح تحت السيادة الإثيوبية”.
كان ذلك التصريح جوهرياً؛ إذ كشف أن إثيوبيا لا تتعامل مع سدّ النهضة كمشروع فني بل كأداة سيادية تُمارس من خلالها سلطة على مجرى النهر نفسه، رغم أنه نهر دولي.
وقد تجلّى هذا التوجّه بوضوح في توقيت تصريف المياه، حيث اتُّخذ القرار في أديس أبابا دون تشاور أو إخطار مسبق، رغم أن أي تصرف مائي بهذا الحجم يغيّر المعادلة الهيدرولوجية في السودان خلال ساعات.
وبينما كانت إثيوبيا تطبّق سيادتها عمليا على المجرى، كان السودان يكتفي بتوصيف فني للأحداث، غافلا عن أن الأمن المائي لا يُدار بمقاييس التصريف وحدها، بل بفهم العلاقة السياسية التي تحكم حركة المياه، والتي تترجم — في لحظات الأزمات — إلى موازين قوة لا إلى “نشرات تنبؤ”.
الثقل الفني والثقل السياسي: فجوة الفهم السوداني
لقد كشفت الكارثة الأخيرة عن اختلالٍ خطير في التوازن بين الثقل الفني والثقل السياسي في إدارة ملف المياه.
فبينما يدير الفنيون السودانيون الملف بعقلية “المهندس”، التي تقيس السدّ بارتفاعه وسعته وفائدته المحتملة في تقليل الطمي “وتنظيم الجريان” وتوليد الكهرباء، يديره الإثيوبيون بعقلية “صانع القرار”، الذي يرى في السدّ أداة لترسيخ السيادة واستعراض القدرة.
فالفرق بين الفريقين هو الفرق بين من ينظر إلى المياه كوسيلة إنتاج ومن يتعامل معها كوسيلة سلطة.
إثيوبيا أعلنت سيادتها على النيل الأزرق وهي في منتصف التشييد، واحتفلت بالسدّ بينما المياه تتدفق من مفيضه في مشهدٍ استعراضيٍّ صُمم ليقول للعالم: هذه مياهنا.
أما في السودان، فما زال الخطاب الرسمي يراوح مكانه بين “فوائد السدّ” و”التنسيق الفني”، كأن السيادة مسألة هيدرولوجية لا سياسية، وكأن الأمن المائي لا علاقة له بالأمن الوطني.
وهنا يستدعي المقام ما أورده كاتب هذا المقال في كتابه «السدّ الإثيوبي والحق المقدس لفاعلي العولمة» (ص. 94)، حيث نبّه إلى أن “الموقف السوداني ما يزال أسير وهم الفوائد الفنية للسدّ، غافلا عن أن ثقل السدّ الحقيقي سياسي لا هندسي، وأنه سيظل مرتهنا للآخر ما دام يحاكم السدّ بمنطق الهيدرولوجيا لا بمنطق السيادة”.
وقد جاءت كارثة فيضان 2025 لتؤكد تماما ما ذهب إليه ذلك التحليل: أن من لا يفهم السياسة الكامنة في الهيدرولوجيا سيدفع ثمنها مضاعفا في الواقع والسيادة معا.
خاتمة: عندما يفيض النهر بالمعاني
لقد أثبتت كارثة فيضان 2025 أن النهر لا يفيض بالماء وحده، بل بالمعاني التي تختبر الدول: من يمتلك قراره؟ من يحدد مصيره؟ ومن يفهم أن السيادة انعكاس للقوة وقدرة على الفعل في مجرى التاريخ ومجرى الأنهار؟
في المقابل، ظل المزارع في سنار وود مدني وشمال الجزيرة هو الخبير الحقيقي بالمواسم، يدرك بحسّه ما لا يدركه الفنيون، ويعرف أن الفيضان هذه المرة لم يكن قدرا من السماء بقدر ما كان رسالة من أعلى الهضبة — رسالة تقول بوضوح إن السيادة المائية قد صارت أيلولتها عمليا إلى مطابخ القرار في مدينة الزهرة الجديدة.
د. محمد عبد الحميد
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم