لا عزاء للأخوة العرب!

 


 

هاشم علي حامد
22 December, 2018

 


حديث الثريا

(من ارشيف الكاتب - مواضيع تتجدد بها الاحداث)

سألني صديق عربي حزين على ما تجري به الأحداث المتسارعة في السودان نحو انفصال الجنوب .. أين المثقفين السودانيين، أين النخبة التي من المفترض أن يكون لها رأي وصوت مسموع تجاه ما يحدث ؟.. فإذا فاتها التأثير على الواقع فليس اقل من تبني موقف ينحاز إليه التعاطف وخيمة يهرع لها المعزون..! قال ذلك وقد تخطت قضية السودان وما يشهده من مآسي مساحة الحسرة السودانية إلى حسرة عربية..
قلت له واقع السودان الحالي يرسمه الآخرون عازمون,وتوقع على وثائقه الحكومة ملوية الذراع منصاعة , ويتفرج عليه السودانيون مكرهين ومجبرين ومحمولين على ذلك ..
نحن في السودان قد أصابنا داء الخنوع الذي ظل ملازما لبعض البلدان العربية , بل وفي الوقت الذي أصبحت تتحرر فيه بعض الدول كمصر ليخرج أبناؤها في تظاهرات واحتجاجات تملا أسماع العالم وشاشات الفضائيات نحن في السودان أصبحنا مشغولين بأمور واهتمامات أخرى ..
بالأمس كان شعب السودان متميزا عن غيره من شعوب في تبني مواقف قومية ووطنية تنحاز للصالح القومي العربي لا ترهبه سطوة سلطان ولا جبروت حكومة عن السعي فيما يراه من حقوق سواء على نطاق المكاسب الحياتية أو نطاق القضايا القومية .. وفي الوقت الذي كانت فيه دول أخرى تكمم أفوه مواطنيها لتتحدث باسمهم في المحافل الدولية ذله وخضوع, كان السودانيون يفجرون الأرض تحت أقدامهم في تظاهرات رفض , ومسيرات احتجاجات , وتتعالى هتافات حناجرهم لتصل إلى أسماع المستضعفين في كل مكان , وتتناقل وكالات الأنباء وفضائيات الإعلام تلك الثورات بإعجاب وإكبار ومادة إعلامية لا تبور
كان الخروج عفويا لا يرتب له عبر ميزانيات مفتوحة ولا عبر أكياس مغلقة ..! بالأمس كان السودانيون يثورون مدافعين عن حقوق الضعفاء والفقراء في خبزة عيش إذا انتقص وزنها أو حفنة سكر إذا زاد سعرها, يغيرون بسبب ذلك الأوضاع .. وكانت أنفاس الديمقراطية تعبق أجواء الخرطوم في المقاهي والمساجد وساحات الجامعات, حينما كانت شعوب أخرى ترزح في قيود الواقع العربي-ولسان شاعرها يقول:-
أه ما أقسى الجدار عندما ينهض في وجه الشروق..
ربما ننفق كل العمر كي ننقب ثغرة..
ليمر النور للأجيال مرة..
ربما لو لم يكن هذا الجدار..
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق..!
قلت لصديقي العربي.. نظام الإنقاذ في السودان بدأ قويا حينما كان اعتماده على الإنسان السوداني في أول عهده .. يتبادل معه الإنصاف متبنيا لتطلعاته وأماله الوطنية والقومية , وحينما انحرف الأمر لتطفو على السطح غايات أخرى في تكريس السلطة وغفلة الزمان.. تضعضعت القوى و ضاعت الآمال التي لم تجد من يحرسها, وقد أبعد المواطن قسرا عن معادلة الحقوق لتنفرد الحكومة بتوقيع التنازلات لقوى دولية تعرف كيف تحقق أطماعها وهي تنفرد بالحكومات دون شعوبها..!
ويأتي ومن جملة توابع التردي وكموسيقى خلفية لانفصال الجنوب الذي اصبح واقع ينتظر تاريخه.. حديث إشاعة التشتت وبث الكراهية , ففي الوقت الذي يحتاج فيه السودان إلى زيادة الجرعة القومية في الخطاب الحكومي , وهو يشهد أخطارا حقيقية على خارطة الدولة يجيء من جملة المآسي التي أوصلته إلى حال واقعه حديث وزير اتحادي بل الوزير الناطق باسم الحكومة وإعلامها , قائلا بحرمان المرضى من أهل الجنوب وهم من جملة الشعب السوداني حقوق العلاج وحقن الملاريا, مما كان له أثر مباشر على نزوح مئات الآلاف من أبناء الجنوب لا يزال يتدافعون راحلين من الشمال إلى قراهم في أصقاع الجنوب محتمين بالحركة الشعبية وداعمين لصوت الانفصال ..
فالأمر لن يتوقف على الجنوب الذي كان من الممكن أن يكون متحدا مع الشمال لا منفصلا إذا احسن التعامل مع اتفاقية السلام , بل الأخطر أن مشوار الفاقد القومي لا يزال في بدايته إذا ظل الحال على ما هو عليه.. وحيينها لا عزاء للأخوة العرب..
فمحو الجنوب من خارطة السودان.. يعني طرؤ تعايش جديد مع دويلة الجنوب وهي في فتوة الطموحات التي تصاحب عادة نشأة الدول الوليدة , أو يعني ظروف حرب- من نوع جديد كما وصف ذلك أحد القادة الجنوبيين- على جملة المصالح والحقوق المتداخلة, إضافة لما هو متوقع من انعكاسات ذلك الانفصال على ولايات سودانية أخرى في الغرب والنيل الأزرق من بقاع انتماء قومي هش .. و يعني كذلك خروج 90% من الدخل القومي السوداني من خزينة الدولة والذي كان يمثله البترول وهو ما أشار له الخبراء الاقتصاديين واصفين ذلك بالكارثة.
الأنظمة والحكومات كالأفراد في محراب الطاعات والتجرد.. الانحراف والظلم يترتب عليه عقاب طال الزمان أم قصر, والغفلة تنسي حقائق الواقع ومعادلاته, فتتوالى التصرفات الخاطئة كل تصرف خاطئ يقود إلى ما هو اكبر خطئا وهي قاعدة يعرفها أهل القانون, وتخرج الكلمات في زهو السلطة لا يحسب لكلمة واحدة موقعها حتى تردي بالوطن إلى متاهات الضياع, والأجيال القادمة هي التي تدفع الثمن .. ماذا تنتظر ممن ينحرف عن جادة الطريق وممن هو عاق لأبيه ومقيدا لحركته هذا ما قاله لي صديقي العربي !
حكومة الإنقاذ في مسيرتها غير الموفقة غفلت عن الإنسان في زحمة المظاهر , فانفرط عقد الحقوق والواجب ما بين الدولة والمواطن , فبقدر ما حصدته من عطاء ومثابرة من المواطن السوداني وهي تتخطى المراحل في بداية عهدها , بذلا وتضحية غفلت عن أهم الجوانب في الحرص على رعاية حقوقه حرا طليقا في أداء رسالته , حيث خلى الشارع السياسي من الرأي الناصح , ونضبت منابر الجامعات من الوعي المنبه للسياسة, وكان لابد أن يكون هناك عوضا للتفريغ الإجباري للصوت السياسي فطرأت النعرات العنصرية يعمق جراحها إصرار في تجاهل الاصطلاح , ويزكي نارها تفلتات المسؤولين دون أن يترتب على أقوالهم إقالة أو عقاب.
الدولة العصرية هي التي تهتم بإنسانها في وعيه ورآيه، أما ما يقال عن طرق وكباري وأعمدة كهرباء فلا قيمة لذلك في غياب عنصر الإنسان.


hashimh640@gmail.com

 

آراء