لماذا ظل الإنقاذيون متربعين على سدة الحكم في السودان ؟

 


 

 


badayomar@yahoo.com

عمود : محور اللقيا
قبل أسبوع مضى مرت الذكرى الثامنة و العشرون لإنقلاب الإنقاذ و إستيلائه على السلطة في صمت مطبق جرى على غير العادة , هل السبب إنطفاء جذوة الإنقاذ , أم هو إنشغال القيادة بالأزمة الخليجية الحالية بين المملكة العربية السعودية و حلفائها و بين دولة قطر , أم هي أزمة الفريق طه عثمان الحسين التي لم تفصح عنها الدولة اية إيضاحات حتى الآن و لم تلتزم فيها بالشفافية التي صارت هدفا للحكومة الجديدة ؟ لقد كتبت بعض الأقلام و عددت أهوال التجربة الإنقاذية منذ إنقلاب 30 يونيو 1989 و إخفاقاتها التي أودت بالبلاد إلى شفا جرف هار , و كتبت اقلام اخرى و نطقت ألسنة و أكدت أن التغيير آت لغد افضل و على الناس تناسي الماضي الإنقاذي المملؤ بالأخطاء فكل بني آدم خطاؤن , متناسين بقية الحديث النبوي الشريف أن خير الخطائين التوابون , و أن الأخطاء في الشان العام تتطلب المحاسبة و لا يكفي فيها التحلل فقط .
لذلك سوف أتطرق الآن إلى جانب مغاير و هذا الجانب ينصب في العوامل التي أدت إلى بقاء نظام الإنقاذ طيلة الثمانية و عشرين عاما الماضية , و العلم عند الله كم سوف يبقى بعد الآن . إن النظام الإنقاذي يشبه في تركيبته نظام الدول التي سادت ثم بادت في القرون الماضية قبيل إستنارة القرن العشرين و ظهور الأنظمة الديموقراطية , و أوجه الشبه في ذلك كثيرة , فقد إتبعت الدولة الإنقاذية طريق القوة في الإستيلاء على السلطة و فرضت نفسها بقوة السلاح , و أتت بأعضاء جماعتها فمكنتهم من مفاصل الدولة , و عزلت الآخرين , و فرضت هيمنتها و رفعت ساريتها و دعت المتوالين أن هيا أركبوا , و لكن هل تأمن الإبحار في بحر الظلمات ؟ لقد أضحى المنحنى العمري للدول لعالم الإجتماع عبد الرجمن بن خلدون في حكم الكلاسيكي بعد أن رأينا دولة داعش ( دولة الإسلام في العراق و الشام ) تنهار و هي في عنفوان شبابها نتيجة لضربات المجتمع الدولي و ليس نتيجة لعبورها مرحلة النمو إلى مرحلة القوة ثم إلى مرحلة الضعف و ذلك نتيجة للقوانين الجديدة التي أتت بها العولمة , و لذلك صار من المحال للأنظمة الشمولية المتشددة و الديماجوجية القامعة لشعوبها أن تنجو من عقوبات أو ضربات المجتمع الدولي الذي صارت مصالحه لا تمثل له كل شئ بجانب ضغوطات الرأي العام و منظمات حقوق الإنسان و تقارير مراقبي الأمم المتحدة . إليكم الآن العوامل التي أدت إلى بقاء نظام الإنقاذ من وجهة نظري :
1 – المكر و الخداع . لقد كانت قيادة حزب الجبهة القومية الإسلامية تعلم علم اليقين أن وزن عضويتها خفيف و لا يتيح لها فرصة الإستمرار في الحكم إذا ما إنقضت عليه و أعلنت عن حقيقتها الحزبية كنظام حكم أوليجاركي للأقلية , لأنها عند ذلك لن تجد السند من الأحزاب الأخرى و لا من عامة الشعب , و لذلك إلتزمت جانب المكر و الخداع فأدخلت عناصر غير منضوين للجبهة القومية في مجلس قيادة الثورة و في دواوين الحكم و أشاعت أن منفذي الإنقلاب هم من الضباط الوطنيين المتدينين و أنهم ضد سياسات الأحزاب الرعناء فحلوها كلها ثم كان الإتفاق الشهير أن يذهب البشير للقصر رئيسا و يذهب الترابي للسجن حبيسا كما قال الأخير في شهادته على العصر ! لقد إنطلت تلك الخدعة على الناس سواء داخليا أو خارجيا و وفرت كثيرا من الدعم و التأييد للحكام الجدد الذين ظهروا و كأنهم أتوا لإنقاذ السودان تدفعهم في ذلك وطنيتهم المتجردة . للأسف لقد إستمرت أساليب المكر و الخداع مع نظام الإنقاذ أحيانا لكسب الوقت و أحيانا لتمرير بعض القرارات و أحيانا لتعدي الأزمات , و علاج المكر و الخداع في يد الحزب الحاكم و يكون عن طريق إلتزام مبدأ الشفافية و العمل به .
2 – القبضة الأمنية القوية . لقد كان للقبضة الأمنية القوية القدح المعلى في إستمرارية نظام الإنقاذ , فمنذ الوهلة الأولى تم حل النقابات و الإتحادات كما الأحزاب و قد كانت تلك هي التي تؤلب الشارع و تحركه , و تم إعلان حالة الطوائ و الإستعدادات القصوى و إستمر الحال كذلك لعدة سنوات , ثم كانت الإعتقالات السياسية و التي تميزت بأنها صارت في أماكن غير معلومة و تباشر فيها كل أنواع التعذيب , كما وقد صدرت قوانين جديدة ضد الحريات و التجمعات . منذ قبل ثلاثة أعوام كانت دعوة السيد رئيس الجمهورية للحوار الوطني و قد إعتبره سوف يقود لحلحلة كل مشاكل السودان و سوف يكون بمثابة وثبة إلى الأمام , فانضم البعض للحوار و انتظر الآخرون من المعارضين حتى يتم تنفيذ مطلوبات الحوار أولا كي يكون حرا ديموقراطيا , المهم قد توصل المتحاورون إلى مخرجات الحوار و منها توصيات عن مهام الأجهزة الأمنية بالعودة إلى دستور 2005 , و إلى الآن يظل الأمر عالقا .
3 – الإحالات للصالح العام . لقد كان الغرض من الإحالات للصالح العام هو إقصاء النشطاء المعارضين عن أماكن أعمالهم التي فيها نقاباتهم و تجمعاتهم و التضييق عليهم ماديا حتى ينشغلوا بأمور المعيشة الصعبة و معنويا حتى يصابوا بالإحباط و ينزووا أو يغادروا البلاد في هجرات قد زادت و لا زالت . كانت نتيجة هذه الإحالات للصالح العام أن تضعضعت الخدمة المدنية و ضعف أداؤها و هذا ما إعترفت به الدولة فأوقفت هذه الإحالات بعد أن إنتفى دورها في تعزيز بقاء النظام .
4 – سياسة التمكين . التمكين أتى مترادفا في أحايين كثيرة مع الإحالات للصالح العام , فالثانية تفتح المجال للأولى , خاصة في الوظائف العليا . التمكين كان لكوادر الجبهة القومية الإسلامية الأمينة على تطبيق برامج الحكومة و إنزالها للمحك العملي و إتباع السياسات الحزبية للجبهة القومية و كتابة التقارير السرية و ستر ما يراد ستره و تمويه و تعمية ما يراد تمويهه و تعميته . هنا صارت الفرص في التعيين لأهل الولاء و ليس لأهل الكفاءة و هذا ما أخل بالعمل في دواوين الدولة فأدى إلى ضعف الأداء و إلى القصور المهني و إلى تردي الخدمة المدنية و إلى الفساد في المال العام . لذلك و بعد مراجعات داخلية إتخذ نظام الإنقاذ قرارا بترك سياسة التمكين و أن يكون التعيين للوظائف عن طريق لجان للتوظيف محايدة , و لكن تبقى الشفافية و يبقى التطبيق المرتجى .
5 – الهجرات إلى الخارج . لكل مهاجر أو مغترب أسبابه الخاصة التي دفعته إلى مفارقة الوطن , و معظم هؤلاء قد أكرهوا إلى الهجرة عن طريق التضييق عليهم و قطع عيشهم مع تردي الأوضاع الإقتصادية في البلاد و عدم وجود فرص للعمل متاحة لغير كوادر الجبهة القومية و الموالين لهم . أدى أمر الهجرات إلى إبعاد المعارضين لنظام الإنقاذ عن الحراك السياسي الوطني و تأليب الشارع و تنظيم صفوفه و أدى من جهة اخرى لإضعاف الأحزاب المعارضة علما بأن العدد المقدر للمغتربين و المهاجرين السودانيين يتراوح بين 5 إلى 10 ملايين شخصا حسب الإحصاءات المتضاربة . لقد صارت الهجرة في صالح النظام بناء على ذلك و أيضا بناء على ما يضخه المهاجرون من عملات صعبة تساعد على تقوية النظام , و لكن يجب أن لا ننسى دور الهجرة السلبي في هدر عقول الوطن .
6 – الإنشقاقات داخل الأحزاب المعارضة و الحركات المسلحة . عملا بمبدأ ( فرق تسد ) سعى نظام الإنقاذ و بذكاء حاذق إلى إضعاف أحزاب المعارضة و الحركات المسلحة عن طريق ضربها من الداخل بتأجيج النزاعات و تشجيع و إغراء الفرقاء لإحداث الإنشقاقات و الإنقسامات التي تؤدي إلى إضعاف تلك الأحزاب و الحركات المسلحة حتى تتفتت و تتشظى , و غالبا تكون الإغراءات في ذلك بالمناصب الحكومية و بالدعم المادي , و لا زال فعل الإنقسامات مستمرا ..
7 – دعم الحلفاء عقائديا . لقد ذكر قياديو الإنقاذ و تبجحوا و أسمعوا الشعب كلمات ليست كالكلمات في مناسبات عدة أنهم لما أتوا إلى السلطة وجدوا خزينة الدولة شبه خاوية و أنهم رغم ذلك إستطاعوا أن يستمروا في الحكم و أن ينجزوا الكثير . كيف حدث ذلك ؟ سؤال مهم لأنه قد مرت بنظام الإنقاذ أزمات عدة و لكنهم إستطاعوا تجاوزها فحرب الجنوب قد كلفتهم الكثير ثم أتت بعدها حرب دارفور ثم حرب المنطقتين و لكن ظل نظام الإنقاذ ثابتا بمساعدة التسليح الإيراني و تشييد مصنع اليرموك للتسليح الحربي مقابل التغاضي عن ترويج إيران للمذهب الشيعي و تكوين الحسينيات حتى تم أخيرا التحول إلى جهة القبلة . أما عن الأزمات الإقتصادية و المالية و التي كانت سببا في إنهيار حكومات سابقة فقد تم تجاوزها عن طريق الودائع القطرية و المنح و الإستثمارات التركية و وراء كل ذلك التنظيم العالمي للأخوان المسلمين الذي يعتبر نظام الإنقاذ أول تجربة للأخوان المسلمين في الوصول إلى الحكم و لذلك لا بد من دعم هذه التجربة و الوقوف خلفها حتى لا تنهار . لقد كان لهذا الدعم القدح المعلى في إستمرارية نظام الإنقاذ حتى الآن , و لكن فقد ظهرت مستجدات على الساحة حديثا و ربما كانت إفرازاتها في غير صالح نظام الإنقاذ .
لقد صار نظام الإنقاذ واقعا معاشا و رغم تكالب المشاكل الداخلية و الخارجية عليه , يبدو أنه قد تدارسها و أوجد الحلول في التغيير الديموقراطي الشامل لأطروحات و سياسات الدولة و مشاركة المواطنين في ذلك خلال التحاور الذي سوف يفضي إلى شكل جديد آخر من الحكم عملا بمقولتهم ( تصفير العداد ) و إن حدث هذا فسوف يكون الرئيس عمر البشير قد حذا حذو الرؤساء أورتيقا و أوباسانجو و محمد ولد عبد العزيز الذين إستولوا على الحكم عن طريق إنقلابات عسكرية ثم تحولوا إلى الحكم الديموقراطي الشفاف . هذه المرحلة الآن تتشكل في إجتماعات ثابو أمبيكي مع الحركات المسلحة بإيعاز و ضغوط من دول الترويكا و الكرة في ملعب الحكومة إن أرادت التغيير الديموقراطي حقا فعليها بإتخاذ سبيله , خاصة و قد أشيع كثيرا في مؤتمرات حزب المؤتمر الوطني التنشيطية أن عضويتهم تفوق الخمسة ملايين شخصا و سوف تزيد تحالفات التوالي الثاني الحالية من أعدادهم , فمن ماذا التخوف ؟ حتما لن تسقط القضايا الإجرامية التي وقعت ضد المواطنين و ضد الوطن و سوف تأخذ العدالة مجراها . الوضع الأمني داخل السودان وضع هش و السلاح متوفر للجميع و كذا أموال الذهب و لذلك لا بد من تجنب الفوضى الخلاقة . في إنقلاب 17 نوفمبر 1958 لم يكن للحكام حزب سياسي قبل أو بعد إنقلابهم , و في إنقلاب 25 مايو 1969 لم يكن للحكام حزب سياسي قبل إنقلابهم و لكنهم كونوه بعد إنقلابهم , أما في إنقلاب 30 يونيو 1989 فقد كان للحكام حزب سياسي قبل إنقلابهم و إستمر حزبهم السياسي بعد إنقلابهم و لكن تحت مسمى آخر, و لذلك فإن تغيير النظام الإنقاذي بواسطة حكامه لن يكون أمرا سهلا إلا بمجاهدة نفس قادته الذين إستمرأوا الحكم و نسوا أمر المواطن الذي يعاني الأمرين من صعوبة الحياة المعيشية , و إلا فلن تتبقى غير التجربة الرومانية التي أطاحت بشاوسيسكو بعد إنتفاضة كان وقودها آلاف القتلى من الشعب .
أخيرا أكرر و أقول : إن الحل لكل مشاكل السودان السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية يكون في العودة إلى مكون السودان القديم وهو التعايش السلمي بين العروبة و الأفريقانية و التمازج بينهما في سبيل تنمية الموارد و العيش سويا دون إكراه أو تعالٍ أو عنصرية . قبل ألف عام كانت في السودان ثلاث ممالك أفريقية في قمة التحضر , و طيلة ألف عام توافد المهاجرون العرب إلى الأراضي السودانية ناشرين رسالتهم الإسلامية و متمسكين بأنبل القيم , فكان الإحترام المتبادل هو ديدن التعامل بين العنصرين العربي و الأفريقاني مما أدى لتمازجهم و كان نتاجه نحن , و أضحت هويتنا هي السودانوية . إن العودة إلى المكون السوداني العربي الأفريقي اللاعنصري تتطلب تغييرا جذريا في المفاهيم و في الرؤى المستحدثة و في الوجوه الكالحة التي ملها الناس !


/////////////////

 

آراء