ماهي الرسائل التي حملتها زيارة (حميدتي) إلى أديس أبابا في ظل رمادية مواقف امريكا من الأحداث بالسودان؟ 

 


 

 

يعتقد البعض من المتابعين أن زيارة (حميدتي) إلى أديس أبابا يومي السبت والأحد تعكس حاجة السودان الملحة إلى التهدئة السياسية، بينما هي تعبر أيضا عن حاجة إثيوبيا إلى ذلك، فالأوضاع الداخلية الحرجة التي يمر بها البلدان حاليا تفرض تقويض التوتر ولا تدعمه. من المؤكد أن حميدتي لا يتحرك وفق رؤية سودانية واضحة فهو يتحرك وفق رؤية اماراتية تخدم أغراضه الشخصية ، لا يختلف اثنان في أن هذه الزيارة رسمت من قبل اسرائيل الامارات ،فالاخيرة سهلت وفتحت له قنوات للحوار والتواصل اكثر مع حكومة ابي أحمد لتلميع صورة قائد مليشيات السحل السريع لتجعل له قبول وشرعية في الاقليم لترتيب أن يكون ذراعهم في حال غادر البرهان المشهد السوداني وهذا ما سيحدث حسب التقديرات الآن ، هذا الأمر يظهر جليا حالة التعارض  والتخبط الحاصل في ادارة العلاقات( الاثيوسودانية) بسبب طريقة تعامل القوي الانقلابية مع ازمة الحكم  الداخلي في السودان التي تجاوزت سلوك الجنرالات و عصابات المافيا التي توظف جهاز الدولة لخدمة شبكة مصالح عابرة للحدود وهذا ما يعكس سوء ادارة ملف العلاقات الخارجية للسودان الآن.

لا أعتقد أن سبب الزيارة هو أن هناك محاولة للحفاظ على المصالح السودانية الإثيوبية، لأن تلك المصالح في إطار ضيق جدا والسودان لا يستفيد كثيرا من إثيوبيا، بل إن الاستفادة الأكبر من تلك العلاقات هي لإثيوبيا، وإن كانت هناك مبادرة من خارج البلدين فهي تسعى للحفاظ على المصالح الإثيوبية في السودان وليس العكس، لأن السودان هي معبر إثيوبيا الذي تأتي من خلاله كل الإمدادات إلى أديس أبابا والدعم الأممي للنازحين بالمعسكرات السودانية ودعم شعب تيغراي بالتنسيق مع السودان، علاوة على احتضان السودان الآلاف من اللاجئين الإثيوبيين سواء المسجلين بشكل قانوني أو غير المسجلين.

بات واضحا مؤخرا  أن حميدتي يركن للخارج كثيرا بغية إضفاء الشرعية على دوره في الاقليم برغم مشاركته ودعمه لانقلاب البرهان في 25 اكتوبر الماضي كذلك الرجل متهم هو ومليشياته بقتل المظاهرين وبفض اعتصام القيادة العامة عام 2019، ولذلك يحرص بالهروب من هذه الجرائم بتقديم نفسه بوصفه الرجل الذي ضحى بمليشياته كثيرا  في جهود الحرب على الإرهاب بالمنطقة ووقف تسلل مجموعات المهاجرين الى اوربا. يمكن الجزم بأن حميدتي ما كان ليجرؤ على القيام بزيارة رسمية لاثيوبيا (بينما شقيقه ذهب لإسرائيل )بهذا التوقيت لولا الضوء الأخضر  الاسرائيلي الإماراتي. يتناغم الخطاب الاماراتي الموجه لأفريقيا في الآونة الأخيرة مع الخطاب الإسرائيلي، حيث يطرح الطرفان على طاولة اللقاء مع أي مسؤول أفريقي موضوع الأمن، وضرورة تنسيق الجهود من أجل محاربة الإرهاب في القارة الأفريقية!!. التواصل الإثيوبي مع حميدتي يمكن أن يحقق رغبات إثيوبية غير معلنة، ربما بنوا عليها فكرة الزيارة، حميدتي يبحث عن أرضية لعمل اقتصادي واستثماري كبير، وهو ما يتوفر في إثيوبيا. كما أن الزيارة تؤشر إلى علاقة (غير مستقرة) بين حميدتي ومصر وبالطبع  حميدتي هو الرجل الثاني في مجلس السيادة، واختيار علاقاته الإقليمية، كان ينبغي أن تكون محسوبة بدقة،زيارة حميدتي وإن بدت ذات طابع شخصي، فهي ذات علاقة بالتوتر الواضح بين مصر وإثيوبياوهذا مؤشر مزعج للتقديرات المصرية، لأنه يخل من وجهة النظر المصرية بالتوازن القائم بين الدول الثلاث. إثيوبيا قد قصدت (حرق سرية الزيارة) كما حدث من قبل وقام حميدتي بزيارة اثيوبيا عندما شغل منصب رئيس اللجنة الاقتصادية ابان حكومة المستقيل عبدالله حمدوك في رسالة موجهة للقاهرة، فحواها (لدينا علاقة قوية برجل بمثل هذا الثقل)، فسرّبوا خبر الزيارة وصوّرها لوسائل إعلام غير رسمية بادئ الأمر وسارع رئيس وزراء اثيوبيا بالكتابة على صفحته الشخصية بتويتر مرحبا بزيارة حميدتي،هذه الزيارة فيها  أشياء كثيرة مزعجة، فهي تحمل رسالة ذات مدلول واضح لمصر. بلا شك أن القاهرة تتصف بعدم رغبتها في استقرار العلاقات بين البلدين، وأن مصلحتها تكمن في استمرار التوتر الأمني والسياسي في الخرطوم واديس ابابا. ويرى متابعون للشأن الأفريقي أن السياسة الخارجية السودانية تحولت مؤخرا مرة أخرى حول مواقفها من الميل نحو القاهرة بعيدا عن أديس أبابا، ربما جاءت الزيارة لتلمس نقطة في منتصف الطريق تخلق توازنات تخفف التوجس الأمريكي والغربي والإسرائيلي من انفجار حدودي يهدد الأمن العالمي .

لم تعد نظرية إذا أردت أن توحد شعبا فاصنع له عدوا خارجيا رائجة أو جديرة بالتسليم بها في الوقت الراهن، لأن العدو في حالتي السودان وإثيوبيا كان جاهزا، مع ذلك لم تتمكن السلطة في البلدين من توحيد شعبيهما، فقد أخفقت الاشتباكات الحدودية في منطقة الفشقة والتباين الشاسع في أزمة سد النهضة في توفير حماية داخلية للسلطتين. وجد كل طرف عدوا خارجيا جاهزا  لا يحتاج إلى اختراعه، وحاول الاستثمار فيه على أمل التغلب على بعض من جراحه، ونفخ كلاهما في أزمتي الحدود وسد النهضة إلى أبعد مدى ممكن، غير أنهما  لم يفلحا في تهيئة البيئة الداخلية التي تدعم توجهاتهما. فلا حكومة آبي أحمد في أديس أبابا تمكنت من الحد من الاحتجاجات على تصوراتها وتصرفاتها من جانب القوميات المختلفة، ولا مجلس السيادة الذي يرأسه الفريق أول عبدالتفاح البرهان في الخرطوم تخطى العقبات التي تواجهه في الشارع السوداني وأوقف التظاهرات، فكلاهما يواجه تحديات في الداخل والخارج في وقت واحد. عند هذه النقطة قد يقول قائل أن كل طرف أدرك أن البناء على التصعيد المستمر لن يكون مفيدا، وانقلب إلى عبء ثقيل، حيث تحول عدم القدرة على إطفاء الحرائق المشتعلة والفشل السياسي في معالجة المشكلات إلى أزمات مركبة في ظل الضغوط الشعبية التي تواجهها السلطة في البلدين وارتفاع مستوى عدم الرضاء من قبل المجتمع الدولي. وجه آبي أحمد دعوة مفاجئة للسلام مع كل من مصر والسودان قبيل زيارة حميدتي إلى أديس أبابا، وبدا  فيها متفائلا أكثر من اللازم بحدوث تغير في العلاقات معهما، وطي صفحة قاتمة ضاعفت من حدة المشكلات وحولته من رجل للسلام إلى زعيم للحرب.

لا أعلم هل جاءت زيارة حميدتي استجابة لدعوة آبي أحمد أم لا، لكن في الحالتين لن تستطيع الحكومة المركزية الاستثمار السياسي في التصعيد مرة أخرى، والذي كرسته مع كل من القاهرة والخرطوم وتأكدت من محدودية نتائجه، فلم يعصمها من اندلاع الحرب في إقليم تيغراي، ولم يساعدها على التفاف جميع الأقاليم حولها. كما أن مجلس السيادة يعاني بصورة مزدوجة من ضغوط القوى الثورية واستعجال المجتمع الدولي تسليم المكون العسكري السلطة للمدنيين، وبالتالي فمواصلة التصعيد على الجبهة الإثيوبية لن يؤدي إلى تعويم قائد الجيش، لكن يمكن أن يقود تخفيف التوتر مع أديس أبابا إلى إقناع بعض القوى التي تضغط عليه بأهميته الإقليمية.

تبحث كل من أديس أبابا والخرطوم عن الطريق الذي يقود إلى تحسين العلاقات الخارجية وتقليص الخلافات مع بعض القوى الدولية، ووجد كلاهما أن انحناءة سياسية قد تتكفل بهذا الدور، لأن الجهات المنخرطة في أزمتي السودان وإثيوبيا واحدة تقريبا، فالولايات المتحدة من أكثر الدول التي تقوم بتحركات مكوكية على الجبهتين. أصبح دور المبعوث الأميركي الجديد إلى القرن الأفريقي ديفيد ساترفيلد محصورا في مدى قدرته على استيعاب التوترات داخل السودان وإثيوبيا ونجاحه مرهونا بهذه المهمة، ولن يتمكن من تحقيق اختراق واضح في غياب التهدئة المشتركة بينهما، وهو ما يفسر تزامن التطورات التي تصب في هذا المربع أخيرا، والتي توحي وكأن بشائر ساترفيلد بدأت تهل على المنطقة قبل أن يقوم بأدوار ملموسة في جولته الرئيسية.

يحتاج السودان إلى التهدئة بنفس القدر الذي تحتاجه إثيوبيا، لأن المرحلة المقبلة سوف تكون معنية كثيرا بترتيب الأوضاع في البلدين، وما لم تكن هناك أجواء إقليمية مواتية سيصبح من الصعوبة التفاهم مع الخصوم في الداخل، فآبي أحمد يستعد للشروع في مفاوضات صعبة مع جبهة تحرير تيغراي لامتصاص الضيق الدولي منه، ولا يريد أن يدخل هذا المنحنى الخطر وظهره مكشوف مع السودان.

يريد نائب رئيس مجلس السيادة أن يظهر في صورة الجهة المرنة التي تتفاهم مع الخصوم، ويؤكد للمجتمع الدولي أن من يستطيع التفاهم مع إثيوبيا بعد مرحلة من التجاذبات وصلت إلى حد الاقتتال سيكون قادرا على حل إشكالياته مع القوى المدنية في الداخل، وهي الرسالة التي ربما حملتها زيارة حميدتي إلى أديس أبابا، لأنها لن تخوض في جوهر الخلافات. يحرص الجانبان على توصيل إشارات إيجابية ظاهرة على وجه السرعة، والغمز من قناة السلام أكثر من الدخول في تفاصيل الأزمات والسعي نحو حلها، فمطلوب أن تصل الرسائل التي تنطوي عليها التهدئة المشتركة مباشرة لمن يهمهم الأمر، بصرف النظر عن إتمامها عمليا، لأن الوصول إلى هذه المرحلة يحتاج إلى المزيد من الوقت. من هنا يتجلى الفرق بين الحاجة إلى التهدئة وبين العمل على حل الأزمات من جذورها، فالدعوة التي وجهها آبي أحمد للسلام مع كل من مصر والسودان لم تحمل أفكارا محددة للتسوية المنتظرة أو تقدم برنامجا واضحا يمكن البدء فيه فورا لتجاوز العقبات التي حالت دون التوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة. كذلك لم تتطرق أديس أبابا إلى الخلاف الحدودي مع السودان، ولم تعكس رغبتها المعلنة في السلام أي تحول في المنطق الذي تستخدمه في إدارة الأزمة منذ فترة، ما يعني أن الثوابت لا تزال على حالها، وكل أسباب التأزم موجودة ولم تتزحزح من مكانها، بما يشير إلى أن خطاب التهدئة لا يضمن حدوث تغير في المواقف المبدئية.

يتطلب تحويل التهدئة من الاستهلاك السياسي المحلي إلى الفعل الحقيقي جملة من الخطوات، ولم تظهر أديس أبابا أو الخرطوم حرصا عليه حتى الآن، وكل ما طفا على السطح من إشارات لا يتعدى الرغبة في تسكين الأزمات وطمأنة المجتمع الدولي بالحرص على السيطرة وعدم الوصول إلى مرحلة الفوضى أو الانفلات. يفرض إخراج خطاب التهدئة من التكهنات إلى الإجراءات القيام بمجموعة من الممارسات العملية، أبرزها الاستعداد الكامل للحل حسب معايير القانون الدولي وليس وفقا للحسابات الداخلية، واحترام عدم الإضرار بمصالح الغير سواء كانت المائية أو الحدودية، وتجاوز الحلقات الضيقة لتفويت الفرصة على الضغوط الخارجية، لأن تثبيت التسوية لن يكون عبر الكشف عن النوايا الحسنة فقط، بل من خلال مصاحبتها بتحركات تضمن بلورتها في خطوات وتنفيذها على أرض الواقع.

فتور العلاقات بين الخرطوم وأديس أبابا على خلفية الصراع الحدودي على منطقة الفشقة، تسبب في تباطؤ الاتحاد الأفريقي في التدخل لحل هذه الأزمة على وجه السرعة، بحكم احتضان إثيوبيا  لمقر الاتحاد، إضافة إلى تأثره بمحور روسيا والصين.

( من جهة اخرى ) .. ماهو سبب رمادية مواقف امريكا من الأحداث بالسودان ؟

يبدو أن الإدارة الأميركية تعلمت من درس الانقلاب العسكري في السودان بعد أن جاء رد فعلها رماديا عليه، والذي شجع قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان على عدم الاستجابة مبكرا  للتراجع عن إجراءاته بحق القوى المدنية.

بدأت عملية الاستدارة تتوالى من قبل واشنطن وتصبح أكثر حسما باتجاه دعم المدنيين، وصرامة مع العسكريين، ما يعني أن الأيام المقبلة ستشهد تحولات واضحة في التعامل الأميركي مع السودان، لأن المنطق الرمادي أثر سلبا على خطاب إدارة جو بايدن في مجال دعم الديمقراطية الدائم. ونتذكر هنا كلمات بلينكن في مناسبة الذكرى الثالثة لانفاضة ديسمبر المجيدة التي أكد فيها عدم تخلي الإدارة الأميركية عن دعم المتظاهرين، وأنها لن تتوقف عن دعم المدنيين في استلام السلطة وفقا لتوقيتاتها المعلنة، ولن تكلّ عن توفير الضمانات الكافية لتحول السودان إلى دولة ديمقراطية، وتحويلها إلى نموذج في منطقة تعج بصراعات وأنظمة قمعية، والتشديد على الرسالة المركزية للولايات المتحدة في دعم الحكومات المدنية.

عززت واشنطن هذا التوجه بإصدار بيان رباعي الخميس الماضي وقعت عليه بريطانيا والسعودية والإمارات بجانب الولايات المتحدة، خاص بالسودان ودعم الحكم المدني فيه، يضاف إلى بيان أول صدر في أوائل نوفمبر الماضي، أي بعد أيام قليلة من حدوث الانقلاب العسكري في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي والذي لم يرق للدول الأربع، وفهم قادة الجيش السوداني أن إصرارهم على عدم التراجع سوف يؤدي إلى المزيد من الضغوط الواقعة على المؤسسة العسكرية.

وكما كان البيان الرباعي الأول نقطة تحول في التراجع عن الانقلاب يمكن أن يكون البيان الثاني مفصليا في تأكيد أن المجتمع الدولي لن يقبل بالتفافات سياسية بديلة عن الانقلاب العسكري، في ما يتعلق بتعهدات الجيش حول تسهيل مهمة الحكومة الجديدة التي يقودها عبدالله حمدوك، والتي لم تتشكل حتى الآن، على الرغم من مضي نحو شهر على اتفاقه السياسي مع البرهان، وهو ما يزعج الإدارة الأميركية. ترى واشنطن أن عدم استخدامها المزيد من الخشونة السياسية والاقتصادية مع عسكريي السودان بعد انقلابهم في أكتوبر الماضي كاد أن يكبد الإدارة الأميركية خسائر باهظة في توجهها المحوري حيال دعم الديمقراطية، فقد كشف موقفها من الانقلاب عن حذر وتردد كبيرين بما لا يتناسب مع خطابها العام الذي تتبناه.

أثرت الرمادية الظاهرة في التعامل الأميركي على صورتها، وفسرت على أنها تمثل دعما لعسكريي السودان وتخليا عن القوى المدنية، والأخطر أن قادة الجيش فهموها رسالة تأييد للتمادي في إجراءاتهم الإقصائية، لأن توقيت الانقلاب لعب دورا مهما، حيث جاء بعد ساعات قليلة من زيارة قام بها إلى الخرطوم المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان واجتماعه مع البرهان.

وقتها خسرت الإدارة الأميركية جولة كان من المفترض أن تكسبها وتظهر من خلالها قدرتها على الضبط والربط بالطريقة التي تتسق مع خطابها في دعم القوى المدنية، ولا تريد الآن أن تتكبد خسارة جديدة في الجولة الثانية ، وهي الرسالة التي تعني أن تصرفات الجيش السوداني ستكون تحت الأضواء الأميركية، بما يدفع المتظاهرين إلى التدفق بغزارة في الشارع. وعندما عدلت واشنطن موقفها في الجولة الأولى لجهة دعم القوى المدنية لم تكسبها، لكن بموجبها بدأ الجيش يضبط بوصلته لتجنب الصدام معها، وتعويله على المناورة بورقة روسيا لم يجلب له مكاسب حقيقية وقتها، بل دفع الولايات المتحدة إلى التكشير عن أنيابها حاليا، وتأكدت أن مراعاة الحالة السودانية المضطربة التي دفعتها إلى عدم ممارسة ضغط كبير على الجيش قد يدفع بالأخير إلى خانة بعيدة تتناقض مع حساباتها.

يأتي التحول في الموقف الأميركي من المؤسسة العسكرية في السودان من مجموعة محددات أسهمت بدور كبير في تغيير الآلية التي لجأت إليها واشنطن في البداية، أبرزها ردود الفعل السلبية على موقفها المتراخي من الانقلاب الذي أوحى بوجود انفصام بين خطابها في دعم الديمقراطية في العالم ومصالحها في السودان، ما أحبط القوى المدنية وعدم ثقتها في إدارة بايدن، إذ بدت كأنها بطة عرجاء في جزء أساسي في هوية الحزب الديمقراطي الحاكم. في ظل الخسائر التي منيت بها واشنطن في منطقة الشرق الأوسط وجدت أن خسارة ورقتها الناعمة المتعلقة بدعم القوى المدنية سوف تكون مكلفة إذا تكرر الإخفاق، وتصبح غير قادرة على التدخل العسكري وفاشلة في ترتيباتها السياسية، ما يفقدها ما راكمته من سياسات وتصرفات في المنطقة، وتذهب حصيلتها إلى منافسيها.

وقوبلت الإدارة الأميركية خلال الفترة الماضية بردود فعل سلبية عديدة في الداخل، أجبرتها على تعديل منهجها في التعامل مع السودان، وهو ما جعلها مرتاحة لمشروع الكونغرس الأخير بشأن فرض عقوبات فردية على المتسببين في عرقلة المسار السياسي في السودان ،تسبب تساهل الإدارة الأميركية النسبي مع قادة الانقلاب بالسودان في توصيل إشارات بأنها  لن تمانع أي خطوات مماثلة في دول المنطقة، الأمر الذي يمنح الراغبين في القيام بانقلاب علامة إيجابية لتنفيذ مخططاتهم، كما يوصل إلى الأنظمة الدكتاتورية رسالة أمان والمضي قدما في إجراءاتهم التعسفية في مجال الحريات وحقوق الإنسان. بدت النتائج التي أفرزتها الانطباعات حول وجود تقاعس أميركي في التعامل مع انقلابيي السودان خطيرة، من زاوية الارتدادات التي تنطوي عليها، فخسارة هذا البلد تتجاوز حدود النموذج الديمقراطي إلى منح صك لروسيا والصين للتحرك في مجال دعم الأنظمة التي تحقق لهما مصالحهما أو جزءا منها.

ولعل استغلال الخارجية الأميركية لمظاهرات الاثنين 24 يناير في السودان كمناسبة تعزز بها دعمها للقوى المدنية والفوز بهذه الجولة وهو ما أكدت عليه مساعدة وزير الخارجية الأمريكي  بقولها : ستترتب عواقب وخيمة على قادة السودان العسكريين جراء العنف ضد المتظاهرين و أن بلادها  لن تتوقف عن دعم المتظاهرين السلميين، أملا في تصحيح ما وقعت فيه من ارتباكات سابقة، وإعادة الثقة فيها من قبل القوى المدنية التي واصلت طريقها، على الرغم من أن الضغوط الخارجية، وفي مقدمتها الأميركية، لم تكن على المستوى المطلوب، أو أقل من الطموحات. يشير تصميم القوى المدنية على تحدي المؤسسة العسكرية في السودان والصمود في مواجهة الإجراءات القاسية التي اتخذت إلى أن حماسها لم يفتر، وأهدافها لم تتأثر، والحرص على الوصول إلى حكم مدني لن يكون بعيد المنال، ما يفرض على واشنطن عدم التفريط في فرصة قد تعيد إليها الاعتبار وتنهي اللغط حول تفسير موقفها السابق. وعليه سنتابع لنرى هل رسالة الدعم الأميركي للمدنيين مناورة أم بداية تغيير في الموقف؟!.

مخرج:

سيأتي الضياء برغم الغيوم .. ويزهو النيل بذاك القدوم

 ((أن من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، وذلك "أن الله جلت نعمه خلق الإنسان حرا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل. الكواكبي))


mido34067@gmail.com

 

آراء