لم أكن من مؤيدي سياسات د. البدوي وزير المالية السابق، الرأسمالية، القاضية بإتباع سياسة السوق الحرة وتقليص دور الدولة في أنشطة الحماية الإجتماعية، كما أعتبر أن اتجاهه في الدعم المباشر ما هو إلا تخدير لعملية جراحية يستيقظ بعدها المريض وقد بُترت من جسمه اعضاء مهمة. وأنها ذات الوصفة التي يوصي بها البنك الدولي Adjust with human face التكيف بوجه إنساني، والتي تعطي الفقراء بضع الالاف من الجنيهات عديمة القيمة الشرائية في سوق يتصاعد يومياً ليعيشوا بها كيفما شاءت لهم قوى السوق وميكنزماته أن يعيشوا. غير أن تغييره لن يعني بأي حال أن هذه السياسات ستتغير، ولا أتعشم في ذلك كثيرا، لأنها لم تصبح سياسة دولة عامة فحسب ، بل التزام سوداني حكومي رسمي أمام المجتمع الدولي و أمام المانحين "الشركاء". لذلك لن أهلل بخروجه من الوزراة. ولن أدعي بأن بعد ذهابه ستتبنى الدولة سياسات اكثر حمائية ورأفة بالشرائح الضعيفة، وأن الشبح الذي كان يتجول مع سياساته سيذوي و يختفي مع استقالته.
ولأن الرجل ربما يدرك حقيقة أن ما أرساه قد صار سياسة دولة State's Policy واجبة الاتباع إن كان هو على رأس وزارة المالية أو مغادراً لها، فقد تقدم للشعب السوداني برسالة رقيقة، تضفي على مغادرته نوعا من الثقة التامة بجدوى ما كان يفعله على أقل تقدير - من وجهة نظره - باعتبارها قناعة استطاع أن يرسي دعائمها في ظروف معقدة لا تتوافر للكثير ممن يستوزرون في دول العالم الثالث. بنفس القدر والمستوى إذا كانت توجهات وسياسات د. أكرم وزير الصحة السابق، الصحية هي توجهات وسياسات دولة، فستكون سياساته - فيما يُعرف أو يحاول البعض تصويرها بأنها محاربة "مافيا الدواء" - ستستمر بغض النظر عن وجود أكرم أو ذهابه. لأن السياسات ليست امزجة شخصية بل هي توجهات تسترشد بها الدولة في تنفيذ الخط المرسوم بناء على رؤية كلية وأهداف موضوعة مسبقا لا تعتمد على وجود زيد أو عبيد. فإذا كان هنالك اتفاق عام و بشكل موحد على السياسات الكلية Overall polices و للمنهج الذي ارساه د. اكرم هنا فقط تنتفي النزعات الشخصية، و تسقط دعواي التهويل للبطل المنقذ، وتستمر السياسات بغض النظر عمن ينفذها. إن محاولة صناعة بطل من شخص أعتلى كرسي الوزراة بدعوى أنه يحارب "مافيا" بعينها، وأن ذهابه يشكل هزيمة لتلك السياسة، فهذا هراء في دولة تحترم نفسها وتنفذ سياستها الكلية بمهنية ومرجعيات واضحة. ومحاولة رخيصة لتسويق وخلق ايقونات في عالم لم يعد يعترف بالأيقونة وإنما بجدوى السياسات وتحقيقها لمصلحة القطاعات الأعرض من الشعب. كما لا تترك للوزير المغادر أثرة عند من فوضوه، أو أجبروه على المغادرة. وتعطي انطباعا امام العامة، و أمام التاريخ بأن ما كان يفعله إنما هي نزوات وليست سياسات. وتصور رحيله على أنه أمثولة لبطل مطعون من الخلف، بدلا عن رجل الدولة الذي يرسي الدعائم الثابتة في وظائف متحركة. د. محمد عبد الحميد