اطلعت منذ فترة علي مقالات رصينة لصديقي العزيز الدكتور النور حمد والتي اختار لها عنوانا جذابا، كدأبه أبدا، هو "التغيير والقيد الرعوي". وأحرص علي ألا تفوتني مقالة من مقالات الأخ النور أو كتاب من كتبه وذلك لرصانة فكره وأصالة آرائه التي ينثرها بالكثير من الشفافية والجرأة والإقدام، وهذا ما نحتاجه لنخرج به من ورطتنا الراهنة. ولا شك أن كل من اطلع علي كتابه الأشهر "مهارب المبدعين" يوافقني علي ذلك.
كما اطلعت علي المقالات العشر بذات العنوان التي بعث بها الي الأخ الدكتور النور، وعلي تعقيب صديقنا وأخينا الأكبر الأستاذ عبدالله علي إبراهيم علي المقال الأول منها.
وها أنا ذا "أدلي بدلوي" ) وهذا تعبير بدوي، ولكنا معشر أهل الحضر لا زلنا نستخدمه "للإدلاء" برأينا(. فقد كان الرأي بئرا لا ينضب معينها، و"جرابا" تنتضي منه الحكم والمآثر، فصار إسفيرا ينسرب من خلال القنوات الفضائية المتشابكة والمشتبكة. ولكل المجالين (البئر/الجراب، من ناحية، والإسفير، من ناحية أخري) لغته ومفرداته ووسائل وأساليب تعبيره. ولا مناص من بعض التداخل، قل أو كثر، بين القيدين و بين المزاجين، وبين النفسيتين الرعوية والحضرية، لا سيما في المجتمعات، كالمجتمع السوداني، التي تكثر فيها وسائل وآليات استعادة الماضي وتقمصه وإعادة إنتاجه. وذلك علي طريقة "تمشي خطوة، اتنين مستحيل"، كما في أغنية المرحوم الفنان خلف الله حمد المعروفة بإسم "الليل يا زمان" ... وهكذا نبدو وكأننا "نرعي بي قيدنا". أو كما قال طرفه: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتي لكالطول المرخي وثناياه باليد
ومن عجائب الصدف، وليس في الأمر عجب، أنني اطلعت علي المقالة الأولي من مقالات الصديق النور بعد أيام من بدء مشاورات "إسفيرية" بيني وبين الأصدقاء نجيب خليفة محجوب وعوض محمد الحسن ويوسف الياس بشأن تجديد عزمنا علي إحياء مشروع كنا قد بدأناه منذ ما يزيد علي الأربعين عاما، ألا وهو إصدار كتاب بعنوان: "كيف تكون سودانيا مع سبق الإصرار". وهذه ترجمة بتصرف للعنوان الأصلي للكتاب الذي اقترحه الصديق عوض محمد الحسن منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ألا وهو: “How to Be A Sudanese, And Get Away With It”! ولا بد أن أنوه بأن فكرة ذلك الكتاب عنت لنا، الأصدقاء عوض محمد الحسن ويوسف الياس ومروان حامد الرشيد وأنا، منذ أن كنا بجامعة الخرطوم في ستينيات القرن الماضي وذلك بعد اطلاعنا علي كتابين هما: How to Be An Alien للكاتب الإنجليزي ذي الأصل المجري جورج ميكاش، وHow To Be A Nigerian للكاتب النيجيري بيتر أناهورو. وعند ذهابي الي فرنسا في نهاية ستينيات القرن الماضي اطلعت علي كتاب آخر هو Les Carnets du Major Thompson "مفكرات الميجور تومسون" لمؤلفه بيير دانينوس. وكل الكتب الثلاث تتناول السلوك الاجتماعي للشعب البريطاني والنيجيري والفرنسي بصورة ظاهرها هزلي الا أنها أسست لضرب من السخرية الاجتماعية التي تعمل علي تشريح المجتمع المعني وإظهار ممارساته وعيوبه الخفية في شكل يؤدي الي المعافاة الاجتماعية وفي نفس الوقت يشكل نوعا من النقد الذاتي في شكل مرآة يري فيها المجتمع نفسه من الداخل ويكشف عوراته بنفسه. وربما يكون من قبيل الصدفة أن كتاب "جورج ميكاش" قد نشر في عام ١٩٤٦ عشية خروج بريطانيا من الحرب العالمية الثانية، وأن كتاب "بيير دانينوس" فقد نشر في عام ١٩٥٥وبعد عدة سنوات من انتهاء تلك الحرب، أما "بيتر أناهورو" نشر في عام ١٩٦٦ بعد أعوام قليلة من حصول نيجيريا علي استقلالها. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن كلا من الكتب الثلاث قد صدر في مرحلة تحول سياسي واجتماعي في كل من البلدان الثلاث، وهي تلك المرحلة التي يبدأ فيها المجتمع الي الوعي بأن شيئا ما، جديدا أو مختلفا، في طريقه الي الحدوث. وبينما يعمل الباحثون والأكاديميون علي البحث في أسباب ذلك التغيير ونتائجه المحتملة، مستعينين في ذلك بشتي السوابق والنظريات، فإن بعض كتاب السخرية الاجتماعية يسلكون طريقا آخر للتعبير عن تلك التحولات سواء في شكل كتب أو مسرحيات و أفلام سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية تعمل علي تقريب تلك التحولات الي أذهان الجماهير بصورة مبسطة ومضحكة وقابلة للهضم، حتي إذا كان الانسان يضحك علي نفسه فإنه يضحك ملء شدقيه ثم يعود الي أهله قرير العين هانيها كما لو أنه أحرز نصرا كبيرا، حتي وإن كان ذلك النصر هدفا في مرماه هو “own goal”. وهذا يقرب مما أسماه قدما الإغريق، وسار علي نهجهم شكسبير (الذي يصر البعض علي تسميته "شيخ الزبير" في سعيهم الي الحاق كل إنجاز عالمي كبير بأمة الأمجاد المسلوبة) الذي اسماه قدماء الاغريق، وعلي رأسهم "أرسطو"، Catharsis أو التعافي من المعاناة، وكثيرا ما يجد "بطل" الرواية في المسرح الإغريقي أنه هو المسئول عن معاناته بنفسه، وهذا ما يطلقون عليه مصطلح Anagrosis. ومن هنا تطور مفهوم المسئولية الشخصية بمعني: أبدأ بنفسك قبل أن تلوم الآخرين. وهذا مفهوم أساسي في التربية المدنية وفي السلوك الاجتماعي، إذ أنه يجب عدم الخلط ما بين التضامن أو التكافل الاجتماعي وبين أن يكون كل واحد مسئولا عن سلوكه الشخصي، وأن تكون "كل شاتن معلقه من عصبتا". "ومن يفعل مثقال ذرة خيرا يره ومن يفعل مثقال ذرة شرا يره". صدق الله العظيم.
ولكن بعض الناس ينشغلون بالآخرين أكثر مما ينشغلون بتنقية أنفسهم وتزكيتها من شوائب الغل والنرجسية والحسد، وأولي بهؤلاء أن يعيدوا أنفسهم "الي الورشه عطبره" لصيانتها وسمكرتها حتي تعود سالكة لا تكدرها الرواسب ولا النفايات الذهنية أو النفسية أو العاطفية. فكما أن الحديد يتأكسد، علي متانته، فإن النفوس تتأكسد كذلك ويعلوها الصدأ، فلا تحس الا إحساسا مريضا، كالفم المريض تماما. وأكسدة النفوس أكثر خطرا، إذ أن الإنسان حينها يضيق بنفسه كما يضيق بالآخرين ويسلم نفسه بنفسه الي الكآبة والسأم والإحباط، ولا يجد ما يسري به عن نفسه أفضل من أن ينفث أفكاره المتأكسدة فيزيد الساحة قتامة علي قتامتها، وربما لا ينجو من أكسدته أقرب الناس اليه، بما في ذلك الذين شاطروه التضحيات الجسام وظلوا معه في خندق واحد علي مدي سنين طويله.
هذه المقالة: ولا بد من أن أوضح أن هذه المقالة ليست تعليقا أو تعقيبا علي مقالات الدكتور النور السبع، بل إن تلك المقالات قد شحذت ذهني وهمتي لكي أشرع في تفصيل تلك الفكرة التي ظلت تختمر (استغفر الله) في ذهني منذ فترة طويلة، ألا وهي العلاقة بين الفضاءين الرعوي والحضري، من ناحية، وتساكنهما في العقل الواحد والذهن الواحد والمخيلة الواحدة، من ناحية أخري، ليس في بلادنا فحسب، وإنما في العديد من البلدان التي تتشابه تركيبتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية مع حالتنا، ومنها الصومال التي أشار إليها الدكتور النور صراحة في بعض مقالاته. وبما أنني صاهرت المجتمع الصومالي منذ أربعين عاما، فإنني يمكنني أن أقول أن الدكتور النور قد أصاب في بعض ما ذهب إليه في تحليله لأثر العقل الرعوي علي المجتمع الصومالي، والنتائج التي نراها الآن علي تحلل الدولة وتفكك المجتمع في ذلك البلد الشقيق، ولكن هذا جزء من قصة طويلة تتداخل فيها عوامل محلية وإقليمية ودولية ومواريث تاريخية شكلت البيئة الحاضنة للمأساة الصومالية. ولا شك في أن الدكتور النور محق في أن القضية الرئيسية تكمن جزئيا في كون القيد الرعوي يشكل عائقا يحول دون إحداث النقلة المطلوبة لتلك المجتمعات نحو الحداثة. وسوف أتطرق لاحقا الي تصوري للمبادئ والمرتكزات الأساسية للحداثة والي ما يجعل الحداثة بعيدة المنال في المجتمعات التي لا يزال يسيطر عليها العقل الرعوي.
وأود أن أقول إن هذه المقالة ليست أكاديمية، كما أنها ترمي الي تبسيط اللغة بقدر الإمكان، إذ أننا معشر المثقفين مطالبون في عصر الانترنت وفيسبوك وتويتر وما الي ذلك بأن نستخدم لغة أكثر بساطة، وأن نسعي الي التقرب من القارئ بقدر الإمكان حتي يتمكن من فهم ما نرمي اليه، من ناحية، وأن يتفاعل تفاعلا حميما مع القضايا التي نعالجها، من ناحية أخري.
ولأقرب الي الأذهان الفكرة التي أسعي لمعالجتها أود أن أحكي قصتين (مرة واحده).
القصة الأولي حدثت لي منذ ثلاثة او أربعة سنوات حيث دعوت صديقين من قيادات الرحل من جنوب دارفور الي الغداء في أحد مطاعم العاصمة. وعندما أحضر الطعام ومعه "الشوك والسكاكين" نظر الصديقان الي نظرة ذات مغزي ففهمت وبدأت آكل بيدي، فتنفسا الصعداء، وحكي أحدهما لي القصة التالية: "عندما جاء أول مفتش انجليزي الي منطقتنا دعا جدنا ناظر قبيلتنا لتناول طعام الغداء. وكانت تلك المرة الأولي التي يشاهد فيها جدنا الناظر الشوكة والسكين أو يأكل العصيدة بالملعقة. وعندما ملأ الملعقة بالعصيدة وأدخلها في فمه شعر بحرارة العصيدة مع حرارة الملعقة، فأخرج الملعقة من فمه وقال بانفعال شديد مخاطبا الملعقة: "الله ينعلك، لا تودي خبر لا تجيبي خبر!" وهذا كشهد من مشاهد اللقاء الأول بين العادات البدوية التقليدية وبين أدوات من أدوات الحداثة. وهذا إن دل علي شيئ فإنما يدي علي أن اللقاء الأول بين الجانبين يكون دائما محاطا بالكثير من التعقيدات، بل والمواجهات في بعض الأحيان.
القصة الثانية حكاها لي صديقي نجيب خليفه قائلا إنه منذ سنين طويلة قبل تقنين حزام الأمان في السيارات في السودان كان في طريقه هو وأخوه الأكبر المرحوم الدكتورسامي خليفه في طريقهما الي مسقط رأسهما في رفاعه لمناسبة اجتماعية. وبما أن كلاهما عاشا في "بلاد بره" فقد ربطا حزام الأمان وانطلقا في طريقهما الي رفاعة. وفي الطريق توقفا في قرية من القري لشراء بعض الفاكهة وإذا بأحد الباعة المتجولين يصيح داعيا أصحابه للحضور قائلا: "تعالوا .. تعالوا .. شوفوا الجماعه ديل مربطين كيف زي المجانين!"
فكما أن القيد الرعوي يبدو غريبا في مجال حضري، فإن القيد الحضري في مجال رعوي يكون غريبا كذلك وخارجا عن المألوف. ولكن يتم "التجسير" بينهما عن طريق الحوار والتآلف ونقل المعرفة والخبرات. وسنتطرق الي كل ذلك لاحقا.
والطريق بينهما ليس ذو اتجاه واحد إذ أن الانتقال من جانب الي آخر، أو من الضفة الي الأخرى، فكريا أو ذهنيا، أو نفسيا، أو جسديا يتم كل يوم من قبل الأفراد أو الجماعات. كما يتجلي ذلك في حركة العودة الي الطبيعة، حيث يتباهي بعض سكان المدن والمناطق الحضرية بالعودة الي الممارسات الريفية أو البدوية لأنهم ضاقوا ذرعا بحياة المدينة.
وقد رأينا في الانتخابات الأمريكية الأخيرة كيف أن الفكر الانعزالي التقليدي لا يزال سائدا، والدور الذي لعبه سكان الولايات "المهمشة" التي ظلت خارج نظام العولمة أو تضررت منها في فوز دونالد ترامب الذي يجسد، رغم مظهره الحداثي، فكرا ماضويا يرمي الي العودة الي قيم وسلوكيات المجتمع القديم التي هي أقرب الي الفكر الرعوي. في جولة لإحدي قنوات التلفزيون علي ولايات "حزام القمح" التي صوتت لدونالد ترامب زارت احدي القري في منطقة خلوية، وقد عرضت تلك القناة صورا لبعض اهل تلك القرية وهم "يسلخون" خروفا وفقا للطريقة التي تعودنا عليها في السودان منذ قرون طويله. واذا كان ذلك مشهدا مألوفا في السودان، فإنه غير ذلك في أمريكا التي أصبح فيها كل شيئ يدار بالتقنية الحديثة، ويكاد ذبح الخروف وسلخه علي الطريقة التقليدية يرقي الي مرتبة جريمة القتل، خاصة من قبل منظمات الرفق بالحيوان. كما أن من "إنجازات" الحداثة والتطور البشري التي أدت كذلك الي فوارق كبيرة بين المدن والحضر تباعد المسافة بين الصانع والمصنوع، والآكل والمأكول، بل والقاتل والمقتول. فقد دخلت الآلة كوسيط في عملية التصنيع والأكل وحتي القتل، إذ أن عملية الذبح تعتبر جريمة بشعة ومنفرة، أما استخدام الأسلحة الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل تعتبر أكثر نبلا "وإنسانية" من القتل بالسلاح الأبيض، علي سبيل المثال.
ورويدا رويدا تتباعد الشقة بين تلك الرغبة الجارفة، بل قل الغريزة الجامحة، التي تدفع الإنسان نحو المزيد من البحث والكشف والتطور العلمي والتقني، والي تبديل خلق الله والي المزيد من الاستهلاك واستنزاف موارد الأرض وتدمير بيئتها، وبين فطرته (البدائية) التي تجذبه نحو الحفاظ علي الطبيعة، والي "الضغط برفق" والحفاظ علي استدامة الموارد الأولية. ولكن نعلم ما حدث وما هي النتيجة المحزنة لذلك. وقد كان "رينيه ديومون" محقا عندما كتب منذ ستين عاما في كتابه "افريقيا السوداء علي الطريق الخاطئ": "إن أولئك الذين سيملكون المستقبل هم الذين يكتفون بالقليل". ولا عجب في أن الديناصور قد انقرض بينما النمل لا يزال يتكاثر، وكلما ازداد الاستهلاك كلما ازدادت احتمالات الهلاك. والفضاء الرعوي أقل استهلاكا من غيره. وتتفاوت معدلات الاستهلاك ما بين الريف والمدينة، وما بين الدول الغنية والدول الفقيرة. وتزداد مسئولية إفساد البيئة وفقا لمعدلات الاستهلاك. ولكن مع تآكل "شبكات الأمان" بالنسبة للمجتمعات البدوية والريفية تتصاعد احتمالات النزاع حول الموارد التي تزداد شحا يوما بعد يوم. ويحتدم الصراع داخل تلك المجتمعات فيما بينها، من ناحية، وفيما بينها وبين المجتمعات الحضرية.