ليلة الجنرالات .. الطابور الخامس، ورابح ود قاسم

 


 

 

 


عفو الخاطر:

لك ما تشاء ومن تشاء

يا من تبرج بالحلول
من كان مثلك رقة وقداسة
أحرى بأن يلقى القبول
أن تسترق له العقول
"ايمان ادم خالد"

حينما عيّن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الفريق محمد فوزي قائداً عاماً للقوات المسلحة المصرية غداة كارثة 5 يونيو/حزيران 1967 خلفاً للمشير عبد الحكيم عامر، قالت صحيفة التايمز الإنقليزية: "ان الفريق فوزي هو الضابط الوحيد في العالم العربي الذي تحق له الخدمة في الجيش البريطاني برتبته نفسها، إذا تسنى له ذلك." كانت التايمز يومئذِ تهز عروشاً وتسقط حكوماتٍ وتؤخذ بعين الاعتبار عند اتخاذ القرار، ليس في بريطانيا وحسب، ولكن في مشارق الأرض ومغاربها. حكم الصحيفة البريطانية على قدرات القائد العسكري المصري لم يأت من فراغ، بل من متابعة دقيقة لمسيرة الرجل المهنية وتقارير أجهزة المملكة المتحدة على اختلاف مستوياتها ومتابعتها الدقيقة والمستمرة لأصحاب المناصب أو من قد يكون له حظ بالمناصب في بلدان العالم قاطبة حتى تتمكن من تعزيز نفوذها أو الحفاظ على مصالحها أو درء مخاطر خطوات غير محسوبة يقدم عليها أشخاص يأتون الى مواقع السلطة من كنف الغيب. وكانت كلمات الصحيفة عن الفريق فوزي حكماً قاسياً على العسكرتاريا في بلاده، مصر، وفي الوطن العربي، وعلى جيوش يسيّر حركتها الرتباء ويتحكم في خطاها على الأرض صف الضباط، بينما هناك ضباط في بعض تلك الجيوش يصبح اتقانهم لرقصات الفالس والسامبا من عوامل ترقيتهم الى رتبة أعلى إذ ما انفكت تُفتتح بها احتفالات التخرج من الكلية العسكرية. ومن دهاء الانجليز أن سمحوا لأبناء الملوك والامراء والرؤساء وأهل السلطة في العالم الثالث الالتحاق بساندهيرست، الكلية العسكرية البريطانية الأشهر ولكن لدورات قصيرة لا تتعدى السنة في أحسن الأحوال، ثم يعودون الى بلدانهم وقد تكللوا بالشرف الرفيع يضاف الى سيرهم الذاتية فقط لا غير؛ الا انهم لا يخدمون لثانية واحدة في صفوف فروع القوات المسلحة البريطانية وجيوشها، كما يفعل أبناء العائلة المالكة البريطانية، الذين يبتدئون بمسح سطح السفن الحربية، والمشاركة في قيادة الطائرات السمتية، والجلوس خلف قادة المدرعات، والسير طويلاً في طوابير المشاة والخيالة، ثم بعد ذلك يأتي الانخراط في صفوف القوات التي نُشرت في مواقع القتال كأفغانستان ومشاركة الجنود كتفاً بكتف في الغارات والمعارك، وبعدها البقاء ضمن قوات الاحتياط لتلبية النفير اذا ما دعت الحاجة.
دار بخلدي هذا التقويم للضابط المصري السامي وأنا أشهد العدد الوفير من جنرالات الجيش السوداني عقب الإطاحة بحكم عصابة عمر حسن أحمد الذي نصب نفسه مشيراً لجيش لم ينتصر في نصف معركة منذ استيلاء الغوغاء على السلطة؛ جندي تمرد وخان الأمانة وانقلب على الدستور وعلى سلطة جاءت بها صناديق الاقتراع، ولم يمثل حتى اليوم أمام محكمة عسكرية تنظر في أمر ما أرتكب من جرم شنيع. رأيت عدداً كبيراً من العسكريين وأشباههم يحمل رتبة اللواء وما فوق، وتتناثر الصقور والسيوف والنجوم على أكتافهم، بعضهم درس العلوم العسكرية في الكليات الحربية وآخرون جُلبوا من البوادي بعد أن جردهم الذين أتوا بهم من أثواب الرعاة، وألبسوهم أزياء عسكرية ورسماً على الكتفين، لكنهم لم يستطيعوا أن يخلعوا عليهم شرف الجندية الرفيع ومناقبها العالية. لم يتخل هؤلاء عن السياط والسيوف بعد حملهم الأسلحة النارية، فاهتز كل شيء فيهم واختلطت عليهم الأمور ليتحولوا الى وحوش ضارية عمياء لا تميّز بين البرية والحاضرة، فما بقوا رعاة مسالمين يتميزون بالصبر والاناة وحسن الوفادة وما تنطوي عليه البادية من مكارم الاخلاق، ولم يصبحوا جنوداً منضبطين يؤدون الواجب على سنقة عشرة وفقاً للأوامر التراتبية الصارمة.
لم يعانِ الجيش السوداني من تخمة الرتب الرفيعة التي أصابته بتلبك معوي حاد ودوار الرأس قبل قبض الضباع على مقاليد الأمور. كان جيشاً محترفاً يعرف قيم الجندية ويُضرب به المثل في الضبط والربط والفداء والإثار والشجاعة والإقدام والتضحية ونظافة اليد واللسان. لكن ذلك كله بدأ في التداعي على يد جعفر نميري وطغمته واستمر في التردي الى درك سحيق. فبُعيد انقلاب 25 مايو 1969 ارتدى مدنيون البزة العسكرية بدون مسوغ يبرر ذلك. رأيت يوماً سيارة عسكرية بالقرب من مطبعة جريدة الرأي العام يجلس بداخلها الشاعر والصحافي الراحل منير صالح عبد القادر، الذي أطلق عليه الاديب محمود محمد مدني، كعادته التي درج عليها في نحت الاوصاف على من يحب ومن يكره، اسم "ايفان الرهيب"، وذلك لشبه تراءى له بين الاثنين، دون أن يقصد من وراء ذلك قدحاً أو ذماً، بل تحبباً ومداعبة. كان الأستاذ منير صالح يرتدي زياً عسكرياً وتعلو كتفيه رتبة النقيب. عجبت لذلك وسألته ما الآمر، فأجابني بأنه التحق بجريدة "القوات المسلحة" محرراً، ولابد لمن يعمل بها أن ينخرط في صفوف القوات المسلحة ويحمل رتبها، وهذا ما جرى للصحافي محمد محجوب الذي أنعم عليه النميري برتبة رائد، وظل يرتقي سلم الاقتراب من جعفر نميري حتى عتبات المنفى في مصر التي لقي حتفه فيها تحت أنقاض مبنى سكن فيه بالقاهرة وانهار على ساكنيه. وكرت المسبحة الى أن وصلنا الى ما نحن فيه وعليه.
نُثرت الرتب على أهل الثقة وليس حسب الجدارة فاختل ميزان الكفاءة، لا سيما بعد التصفيات التي أعقبت حركة 19 يوليو/ تموز 1971، وما تلاها من محاولات انقلابية وزحف من خارج الحدود. كان الجيش السوداني ينزف أنهراً وروافد، حتى أتت عصابة البغي والعدوان في 1989 ليتحول الجيش والشرطة وقوات نظامية أخرى من سجون وغيرها الى مكسر عصا لهؤلاء الضباع، فأحيل الى الاستيداع بدعوى "الصالح العام" خيرة الرتباء وصف الضباط والضباط إلى الطرق السالكة والوعرة والى المجهول. وحينما أضرم هؤلاء النيران في أرجاء البلاد كافة واحتدمت المعارك، كان الجيش قد أثخنته السكاكين جراحاً، فلجأوا الى "الدبابين" وغيرهم من جيش شعبي وكتائب ما أنزل الله بها من سلطان لتضيع الطاسة في حمام سوق النخاسة، رصاصاً طائشاً يصيب جسم القوات المسلحة الواهن أول ما يصيب. وكانت الطامة الكبرى ليلة بات فيها الهمج موكلين بالحرص على وحدة البلاد، فزادوا الطين بلة. هنا أغدقت عليهم سلطة الجريمة والفساد الرتب العسكرية والسلاح والمؤن والذخائر التي ضنت بها على من يستحق. وكلما ازدادوا ضراوة وشراسة وفتكاً بالآمنين العزل، مدت لهم السلطة الحبل على الغارب. لم يكونوا ممن يحسن الحديث، ولا من يحفظ أرواح الناس، ويصون أواصر القربى وعُرى المودة بين أبناء الأهل والعشيرة. هم كصواعق أواخر الخريف لا تبقي ولا تذر، تأكل الأخضر واليابس وتحيل الغابات الى صحاري دون أن يرمش لهم جفن. هم كمن قال:
حديث الناس كتير ولينا قلَ قرارا
واحنا حديثنا ماسورةً تلاعب نارا
صواقع الوخري البترعى الغِيّبْ بخدارا
عِن نهرتنا حالاً بنحلج مسمارا
ذلكم فخر الهمجي الباطش المتوحش، الذي لا يقيم حرمة للدماء، بل يلغ فيها كالضبع تماماً، لا يرتوى، ولا يرعوي. انهمرت عليهم العطايا من كل حدب وصوب بعد أن تعدت شراستهم الحدود، واختالوا برتب عسكرية لا يدركون كنهها، ولا يعرفون أصولها وحدودها ومسؤوليتها وتبعات تصرفاتها، فغدروا بمن بات آمناً فجر وقفة العيد والناس نيام وصيام.
العيد وافى فأين البشر والطرب والناس تسأل أين الصارم الذرب أضحت تلك الرتب الرفيعة أسيرة عنف البادية وهمجية الأغراب والأعراب. كانت ليلة الجنرالات بنت ليالٍ كثيرة مثلها في غرب السودان خصوصاً، فهل تكون الخرطوم وارسو أخرى أم هامبورق الثانية؟ لكن الفرق هو أن الضحايا شهداء مسالمين وشهيدات حرائر، تعرضن للاغتصاب بعد أن فارقن الحياة. أي مخلوقات تلك التي ارتكبت هذا الإثم العظيم؟
اليوم يعيث الطابور الخامس فساداً في البلاد، فمنذ أن أرسى الاعتصام أوتاده في ساحة القيادة العامة، استنفرت جميع أجهزة الاستخبارات، في المحيط وما وراء البحار، قواها، ترسم الخطط وتحيك المؤامرات وتنسق نشاطها، لا سيما الموساد الذي بنى محطة مهولة في البلاد، قوامها كثير من الوجوه السودانية، إن لم يكن جميع أفرادها منهم. لم يُقتلع نشاط الموساد من السودان بكشف صاحب "بون مارشيه" بسوق الخرطوم الافرنجي في ستينيات القرن الماضي، بل تغلغل بدراية ودربة في كل أقاليم السودان والحدودية منها على وجه الخصوص، فأصبح حاضراً في كل مفاصل الحياة وأجهزة الدولة المدنية والعسكرية؛ وحذت حذو الموساد استخبارات بلدان أخرى، فقيرة كانت أو غنية، تعبث بأمن البلاد والعباد، يعينها في ذلك بعض ضعاف النفوس. وبعد الاعتصام بدأت الحرب النفسية والسياسية تستعر رويداً رويداً، حتى بلغت اليوم ألسنة نيرانها عنان السماء، يؤجج أوارها أنبوب متدفق من المال يصب في جيوب من ارتضى التضحية بمصلحة السودان في مذبح الآثام لا الغفران. أخذت أجهزة الاعلام السودانية الرسمية، والجزيرة، وقنوات الإذاعة والتلفزة الأجنبية الناطقة بالعربية ترًوج اطروحات الضباع على لسان بعض اجنحتهم الناشزة أو المتفلتة أو الكامنة ودولتهم العميقة، وتدس السم في الدسم بدعوى الموضوعية كما الرأي والرأي الآخر. بدأت انياب هذا الطابور الخامس تبرز أكثر فأكثر اليوم محاولةً شق الصفوف، لا سيما صفوف الشباب منهم، من خلال مجموعات ترفع شعارات "ثورية" مدروسة، لكنها تضمر الإحباط والاستسلام لما تدبره العسكرتاريا الكذوب ودعمها السريع المتنمر.
قال الراوي: أغار بعض الهمباتة بليل على قطعان من الإبل، لكن حظ أحدهم العاثر ألقى به في أيدي أصحابها، بينما ظفر رهطه بها. جيء بالهمباتي صباح اليوم التالي الى قاضي الإدارة الأهلية، الذي عُرف بحبه للمال وجنيه له بكل الوسائل والسبل ومنها الرشوة. كان جشعاً يتقاسم مع الناس حلالهم ويتمتع بذمة أوسع من ثقب الأوزون وبذكاء لمّاح. أما الهمباتي فكان رابط الجأش وذا فراسة لا تخطيء، سأل حراسه عن قاضيه، فعلم عنه ما يعرفه الناس من سيرة يتداولونها سراً وجهراً. سأل القاضي الهمباتي عن اسمه: "شن سموك يا جنى؟" فرد الهمباتي في لمح البصر "رابح ود قاسم". لم يستغرق حكم القاضي الا ثانية واحدة: "على الطلاق ما سرقتهن، فكوه!" شفرة تضاهي شفرة دافنشي، ورسالة بالواضح في ذات الوقت. لم يقسم رجل الإدارة الاهلية بالله ولم يحلف بالمقدسات ولم يرمِ يمين الغموس، بل حلف بالطلاق. وتلك هينة يسيرة، يطلق زوجه اليوم ويردها غداً. فتأمل يا هذا في مؤتمرات الجنرالات الصحافية وأنظر الى أيديهم بعدسات كاشفة، فأثار الدماء عليها لا تغسلها مياه المحيطات ....

elsouri1@yahoo.com

 

آراء