ما قبل صفقة التطبيع .. وما بعدها (1/2)

 


 

 

 

 

كما أسلفنا في مقال سابق بالأمس، أن التطبيع مع اسرائيل من عدمه ليس هو القضية الأولى والكبرى في اللقاء والاتفاق الذي تم بين البرهان ونتنياهو في عنتيبي. فما أهم منها هو دلالاتها في سياق مستقبل الدولة السودانية انطلاقاً من راهنها الانتقالي.

وأكاد أقول أن الحديث والجدل حول التطبيع مع اسرائيل هو حديث عابر، ويحدث كل يوم بين من يؤيدونه ومن يرفضونه جملة وتفصيلاً. ولكل فريق منهما مبرراته وحججه الوطنية. ورغم ذلك ليس بينهم من هو عميل أو مأجور؟.
* من يؤيدون تطبيع العلاقات مع إسرائيل يرون بأن القرار الأمريكي والغربي بفك الحصار عن السودان، وتدفق المال للتنمية يمر عبر مضيق اسرائيل، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، هم يرون أن الدول المجاورة لإسرائيل لها علاقات طبيعية مع اسرائيل، بينما نحن بعيدون عنها ولم يسبق أن نشبت حرب مباشرة بيننا وبينها، ولم تحتل لنا أرضنا مثلما تفعل "الشقيقة" مصر. ولكننا كنا نشارك اخوتنا من الدول المجاورة حروبها مع اسرائيل، التي تحتل جزءا من أراضيهم. وبالتالي ما مبررنا نحن لعدم التطبيع مع اسرائيل إذا كان أولئك قاموا بالتطبيع معها؟!. ما الغبينة والثأر الذي بيننا وبينها، إذا ما تعاهد أصحاب المشكلة أنفسهم مع عدوهم، وتطبيع العلاقات بينهما؟!.
* أما من يعارضون التطبيع فبعضهم ينطلق من مبادئ أخلاقية، إذ أن أننا ينبغي أن لا نطبع مع نظام مستعمر محتل وعنصري. وبعضهم ينطلق من مبادئ دينية اسلامية تحتم عليه العمل على تحرير القدس الشريف أول القبلتين وثاني الحرمين. وثالث مدفوعاً بعروبته يرى أن فلسطين أرضاً عربية يحتلها الصهاينة ولذا فهو يمتثل لواجب العروبة القومي في رفضه للتطبيع. ورابع يرى أن اسرائيل ليست سوى مخلب قط صهيوني للإمبريالية العالمية، وأن مناهضة الاستعمار والهينة الامبريالية هي واجب أممي، وبالتالي فإن التطبيع مع اسرائيل يعتبر بمثابة فتح الباب للسيطرة الرأسمالية على الشعوب المستضعفة.
ثم تأتي ثالثة الأثافي متمثل في صفقة القرن الأمريكية/ الإسرائيلية، لتوحِّد مختلف هؤلاء الرافضين في جبهة واحدة: الاسلامي والشيوعي والقومي العربي والليبرالي، يرفد جمعهم (الرماديون) الذين لا لون سياسي لهم يميزهم.
وكما ترى، فإن المختلفون حول التطبيع إنما يتخذون مواقفهم هذه بدافع وطني، كلهم ينطلقون في اجتهاداتهم لتحقيق ذات الهدف. ولكن اختلفت دروبهم للوصول إلى غايتهم المشتركة هذه.
وإذن فإن الحديث والجدال حول الاجابة على سؤال: هل نطبِّع علاقتنا مع اسرائيل أم لا؟، سؤال مشروع طرحه، ومن حق أي مواطن سوداني أن يجيب عليه بما يرى أنه يحقق مصلحة السودان والسودانيين، ولا علاقة في ترجيح كفة من يختار أيا من الاجابتين بما تراه أي دولة أخرى.
فلكل دولة أن تبني علاقاتها مع الدول الأخرى بما يحقق مصالحها في المقام الأول.
ولا أعتقد، ولا أي عاقل يعتقد بأن مفهوم "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" يدعو في فضاءه الديني إلى أن تكون "إمعة" تابع أعمى لغيرك، حتى لو كان أخاك. فالقرآن يؤكد بما لا يقبل التأويل أن الناس يحشرون فرادى "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا".
ولعل في هذا إجابة على مذيع قناة الجزيرة (لا يحضرني اسمه) الذي يحشر في زاوية ضيقة كل سوداني يوضح له بأن الوثيقة لا تعطي البرهان حق اتخاذ هذه الخطوة، بالسؤال الذي يكرره بإلحاح: ما إذا كان التطبيع مرفوض من حيث المبدأ أم من الطريقة التي اتبعها البرهان ... علماً بأنه يتحدث من قناة، لإسرائيل مكتب تجاري ببلدها؟!. ولا تعرف عن أي موقف مبدئي من العلاقة مع اسرائيل يتحدث!!.
وقد يفقد السيطرة على قيوده المهنية حين يسأل أحد الجنرالات (في نفس حلقة برنامج "المسائية" التي تم بثها مساء الأربعاء 5/ 2/ 2020) الذي أجابه بأن علاقات السودان إذا تم التطبيع ستكون مثل علاقته بأي دولة أخرى. سأله المذيع ما إذا كان ذلك يعني أنه سيكون هناك تنسيق وتعاون عسكري بين الجيشين السوداني والاسرائيلي؟.
هو بهذا لا يسأل ضيفه، ولكنه يريد أن يستنطق ضيفه ليسمع منه رأياً مسبقاً يعتقده هو. وإلا، كيف يستطيع عسكري، مهما بلغت سذاجته، أن يجيب على سؤال هو من اختصاصات السلطتين السيادية والتنفيذية؟!!.
وكما قلنا فإن التطبيع في حد ذاته، كفكرة، لا يثير مشكلة، وهو ليس من الخطايا والمحرمات.
ولكن اختطاف الثورة وبرنامجها وميثاقها المتمثل في الوثيقة الدستورية والسير بها في اتجاه يخدم مصالح فئة، لا يمكن بكل المعايير تصنيفها كفصيل أصيل ضمن القوى الاجتماعية ساس الثورة ورأسها.

(2)
هذا هو الحرام، وهذه هي الخطيئة الكبرى.
وهذه هي الخطيئة التي ارتكبها البرهان بلقائه مع نتنياهو واتفاقه معه، ما صرح به من اتفاقات، وما لم يصرح به، أو يفصح عنه.
الخطيئة الأولى تمثلت في خرقه وثيقة الدستور الانتقالي، التي لم تمنحه هذا الحق. وهذه من "أمهات الكبائر" الوطنية، قبل السياسية. ولا يبررها حسن النية أو نبل المقصد.
ثانياً: الطريقة التي تم بها الاعداد للقاء والاتفاق، تثير الشكوك حول حسن النية المفترض. إذ لا يمكن بالعقل والمنطق أن تفكر في خطوة لخدمة الوطن والمواطنين ، وتشرع في تنفيذها بأسلوب استخباري لثلاثة أشهر، دون أن يعلم لا شعبك، ولا حتى أقرب المسؤولين حولك، حتى يتفاجؤوا بتنفيذها. ثم تقدم لهم ما يشابه الاعتذار متذرع بحسن النية والقصد، ثم تطلع على الناس في مؤتمر صحفي لتدعي بأن رئيس الوزراء وبعض أعضاء الحرية والتغيير كانوا على علم، لتضطرهم إلى إصدار بيان ينفي زعمك!!.
هل هكذا تدار الدول؟ وأين حسن النيّة هنا؟.
ثالثاً: ما رشح من أخبار وما تكشف من معلومات يؤكد أن وراء الأكمة ما ورائها والشواهد أكثر من أن تحصر، وربما تكشف الأخبار المزيد منها في مقبل الأيام، ولكن ما صار معروفاً من سيناريو تسلسل الأحداث يعزز الشكوك، ومنها:
- انعقاد الدورة غير العادية لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري لاتخاذ موقف عربي تجاه "صفقة القرن" يوم (السبت 1/ فبراير). وألقى فيه وزير الدولة بالخارجية السودانية خطاباً كان أكثر حدة من خطاب الرئيس الفلسطيني.
- وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في اتصال هاتفي (الأحد 2 فبراير 2020م) يدعو البرهان رسمياً لزيارة أمريكا.
- في نفس اليوم وقبل أن يغادر نتنياهو تل أبيب في طريقه إلى عنتيبي الأوغندية، قال للصحفيين : "انتظروا أخبارا طيبة لإسرائيل".
- البرهان يلتقي نتنياهو يوم (الاثنين 3/ فبراير) في عنتيبي بيوغندا.
- صحيفة هآرتس الاسرائيلية قالت أن البرهان قدم إلى يوغندا خصيصاً ليقابل نتنياهو، وذلك بطلب من البرهان، وقد ذكر نتنياهو في تويتر
- بعد ساعتين فضح نتنياهو اللقاء على العالم مغرداً على صفحته
- في اليوم التالي للقاء (الثلاثاء 4 فبراير 2020)، اصدر البرهان بياناً مقتضباً ماسخاً لم يقل فيه اي شي ذا بال، وبالأخص لم يبرر تجاهله للمكون المدني في السلطة الانتقالية.
- وفي نفس يوم (الثلاثاء 4 فبراير2020) ، نشرت صحيفة جيرسولم بوست الاسرائيلية تقريراً يؤكد ان اسرائيل والسودان قد كونتا اتيام لإنفاذ اتفاقية البرهان ونتن يا هو للتطبيع بين الدولتين.
- ولتضع في الاعتبار: أن اللقاء جاء بعد أقل من اسبوع على اعلان ترامب ونتنياهو في البيت الابيض في واشنطون صفقة القرن، التي يطلق عليها البعض (وعد ترامب) ، في يوم (الثلاثاء 28 يناير 2020).
كان هذا هو تسلسل وقائع الحدث.

(3)
ولكن ما هي الملابسات التي صاحبته، وبعضاً منها يشكل خلفية الحدث، وبعضها الآخر يعتبر من مقدماته؟.
- البرهان صرَّح بأن المسألة بدأت، قبل ثلاثة شهور... أي أن الزيارة لم تكن وليدة لحظة إقلاع طائرته، أو قبلها بيوم. ورغم هذا لم يكن أحد يعلم عنها شيئاً.
- حسب صحيفة تايمز اوف اسرائيل كانت دولة الامارات العربية المتحدة هي من اقنع الرئيس البرهان بمقابلة نتنياهو في عنتيبي .
- هناك تسريبات بأن طه عثمان الحسين المستشار بالخارجية السعودية بمعية رئيس الاستخبارات في ابوظبي علي محمود الشامسي في معية مستشاره السوداني ومستشار الامير محمد بن سلمان الفريق طه عثمان الحسين زار اسرائيل للتخطيط لهذا اللقاء الذي رحبت به اسرائيل.
- وأن طه الذي لعب دور المايسترو والمنسق بين هذه الأطراف اقنع اللواء أمن في قوات الدعم السريع عبدالغفار الشريف وحميدتي بأهمية اللقاء لتبييض صفحتي حميدتي والبرهان في الملفات الامريكية، وملفات محكمة الجنايات الدولية ، خاصة وهما في القائمة الخمسينية لمتهمي جرائم دارفور. وشجعه على ذلك بعض أعضاء مجلس السيادة من العسكريين.
وهذا يستدعي السؤال لماذا يتم إعلام العسكريين وحدهم دون المدنيين بالمجلس، بل ودون رئيس الوزراء وهو رأس السلطة التنفيذية في البلد ؟؟!!!!.
ما يجعلنا نتوقف أمام هذا السؤال – الذي ينبغي أن تتوقف عنده كل القوى السياسية والاجتماعية الآن – شواهد عديدة سبقته، تشير بوضوح بأن عسكر المجلس الانتقالي يحيكون شيئاً ما بينهم، ويتوزعون الأدوار في تنفيذه دون خشية. فقد كان العسكر وقبل الوثيقة الدستورية في مجلسهم العسكري الانتقالي، يتصرفون وكأنهم:
* قادة انقلاب عسكري استولوا على السلطة بقوة السلاح.
* أو أنهم ارتقوا إليها ضمن صلاحيات "الترقية". فإذا ذهب المشير عمر حسن أحمد للتقاعد تؤول السلطة تلقائياً لمن يليه في الرتبة العسكرية.
* أو السلطة ميراث عسكري، يتوارثه ضابط عن ضابط.
وقد ظلوا على هذا السلوك، حتى بعد أن انتصر الشعب الأعزل على قوة السلاح وبطشه. فقد كانوا يسافرون إلى دول بعينها في مهام لا يُفصح عنها، ويعودون دون أن يعلنوا شيئاً عن نتائج رحلاتهم هذه. كما كان بعض المسؤولين في هذه الدول يزورون السودان ويلتقون بنفس العسكر ويعقدون معهم مباحثات مغلقة لا يخرجون بعدها ليعلنوا للناس شيئاً عن ما دار في تلك الاجتماعات. تحركات أقرب إلى التحركات الاستخباراتية التي تحاط بالسرية وتتم في الظلام. (فلا شفافية في الأمر ولا يحزنون).
وقد كانت بلقيس ملكة سبأ، وهي الملكة والحاكمة التي تتمتع بسلطات تشريعية وتنفيذية مطلقة ، خاطبت قومها ، كما حدثتنا الآية 32 في سورة النمل : قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ".
ويبدو أن البرهان وقبيله من العسكر في السلطة يتمتعون بما لا يتمتع به الملوك الحاكمين من سلطان!.
وكما عبر الفاتح جبرا ساخراً، " بان هذه البلاد قد أضحت (وكالة من غير بواب) فلم تقتصر مسالة اللقاءات والمباحثات والمشاورات (الفردية) التي لا نعلم عنها شيئاً على رئيس مجلس السيادة فالقصة كما يبدو قد (فلتت) وأصبح (كل زول شايت براهو) فها هو نائبه (حميدتي) الذي تحول إلى لاعب أساسي في منظومة الحكم والسلطة قد أقلعت به ومعه بعض حاشيته قبل أيام غير قليلة طائرة إماراتية من مطار الخرطوم، حيث مكث بالإمارات ثلاثة أيام ولا أحد من حكومة (الثورة المجيدة) يعلم ماذا دار هناك، وحتي بعد عودته، لا بيان لا خبر لا توضيح عن أسباب الزيارة وما دار فيها أو تمخض عنها (وكلو كتامي)!"(1).
ومثل هذه الزيارات كثير. ولا أحد يعلم عنها شيئاً، إلا ما يلتقطه الناس من أخبار عن جنود سودانيين في ليبيا على سبيل المثال، مما يؤكد أن هناك تنسيقاً بين هؤلاء على أجندة نجهلها.
ويبقى السؤال: ما الذي تريده الإمارات من السودان؟.
هل تسعى لما يتجاوز مرتزقة تزج بهم في حروبها العبثية التخريبية؟.
ما الذي تحيكه، خاصة إذا ما وضعنا في الحسبان دورها في جنوب اليمن وليبيا وتونس، وما لا يعلم سوى الله أين أيضاً؟.
وفي ما يخص موضوعنا: لماذا سعت إلى هذه الزيارة وفي هذا التوقيت بالذات، علماً بأنها لا ستثير الفتنة بين السودانيين، وتثيرها بين مكونات السلطة الانتقالية، وتثيرها بين السودان والدول العربية الرافضة للتطبيع؟؟!!!!.
من قبل أرادت الإمارات أن تعيد علاقاتها مع النظام السوري دون بقية الدول العربي، فأرسلت البشير إلى دمشق ليعلن وقوفه إلى جانب نظام يعاديه العالم كله، كبالون اختبار، أو "فار معمل".
واليوم تريد نفس الدولة أن تطبع علاقاتها مع اسرائيل، فأوحت إلى البرهان أن يقابل نتنياهو ويعلن الاتفاق معه، بعد أسبوع فقط من إعلان صفقة القرن، ومرة أخرى ها هو عسكري آخر يقبل بأن يكون السودان بالون اختبار أو "فار معمل" لتجرِّب عليه لقاح مواقف الإمارات السياسية الشاذة عن الاجماع العربي والاسلامي، قبل أن تجرب لقاح الموقف على نفسها!!.
فما هو الثمن الذي سيتقاضاه البرهان مقابل هذه التضحية بتجريب دواء يمكن أن يهلكه سياسياً ووطنياً، إن لم نقل وقانونياً أيضاً؟!.
ما الذي وعدته به الإمارات، ووعدت به من سار معها في خياراته؟!.
والسؤال الذي يهم أكثر من غيره هو:
ما دلالات هذه العاصفة التي أثارها اللقاء الساعتين؟.
وما هي الدروس التي يمكن أن نستخلصها منه؟.
هذا ما سنحاول الاجابة عليه لاحقاً.
هوامش
(1) صحيفة "الجريدة" نقلاً عن موقع "الراكوبة" بتاريخ الخميس6/ 2/ 2020.

izzeddin9@gmail.com

 

آراء