محاولات إدخال يوسف فضل لحيز مدرسة الحوليات بالسيف..بقلم: طاهر عمر

 


 

طاهر عمر
11 November, 2022

 

من غرائب الأمور أن تطور الفكر في السودان لم يرتبط أبدا بقيام الجمهورية. يمر السودان بأزمات و يخرج منها دون أن يكون هناك أي تراكم للمعرفة المفضية الى تأسيس قيم الجمهورية. نضرب مثلا بأن توكفيل في الديمقراطية الأمريكية قد لاحظ مسألة التحولات الهائلة في مفاهيم البرجوازية الصغيرة و الارستقراطية فيما يتعلق بفكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و كان يدرك بأن فرنسا تحتاج لنهضة فكرية تجسر ما بينها و ما توصل له المجتمع الأمريكي في تحقيق الديمقراطية. و قد طرح توكفيل كسياسي فكرة انتخابات لغرفتين قد صدقت رؤيته كسياسي يختلف عن ماركس كثوري لا يؤمن من الأساس بفكرة الدولة.
و على مدى خمسة عشر عام قد وصلت فرنسا لأحداث 1848 و قيام فكرة قيم الجمهورية. و استمر الحال بعدها الى لحظة أزمة الليبرالية التقليدية و قد لاحظها كثير من المفكرين في 1880 و من ضمنهم الفابيين و كذلك كانت أفكار أرنولد توينبي الكبير و كان قد انتقد فكرة الاستعمار حيث قال بسبب الاستعمار أهملت الحكومة في بريطانيا طبقة العمال و الطبقات الفقيرة بسبب خروج رؤوس الأموال الى الدول المستعمرة و في نفس الوقت كانت حقبة الاستعمار فيها استغلال غير مبرر لموارد شعوب العالم الثالث و كان ذلك قبل وصول كتشنر الى السودان عام 1898 بثمانية عشرة سنة.
نقد الاستعمار من مفكري الغرب فكرة قديمة و قد كان توماس بين أول من انتقد الاستعمار و بعده أرنولد توينبي الكبير و هما يفرقان ما بين خيانة أوروبا للتنوير و ما أعطته أوروبا من فكر للبشرية. لذلك نقول لمن يحبسون أنفسهم في نقد حقبة الاستعمار فقد سبقكم عليها كل من توماس بين و أرنولد توينبي الكبير و هم من مثقفي الغرب.
بعد انبهار توكفيل بالديمقراطية الأمريكية بقرن من الزمن ظهرت في فرنسا مدرسة الحوليات 1929 متزامنة مع فترة الكساد الاقتصادي العظيم و بنفس طريقة توكفيل في التفكير عن أن هناك كساد سياسي و يحتاج لانتخاب مجلس شيوخ و مجلس نواب كانت مدرسة الحوليات قد رأت أن المنهجية التاريخية كمدمنة على الوثيقة المقدسة تدافع عن الجمهورية الثالثة و كانت مدرسة الحوليات ترى أن زمن الجمهورية الثالثة قد ولى بلا رجعة لذلك يمكننا أن نقول أن مدرسة الحوليات هي جددت فكرة توكفيل في كيفية مواكبة التحول الهائل في المفاهيم.
و بالتالي كانت مدرسة الحوليات طفرة و ثورة متجاوزة لمدرسة المنهجية التاريخية التي ما زالت تسيطر على أعمال المؤرخ التقليدي السوداني. و بالتالي نجد أن مدرسة الحوليات قد ركزت على دراسة التاريخ الاقتصادي و التاريخ الاجتماعي وفقا لتاريخ الفكر الاقتصادي و النظريات الاقتصادية و هذا هو البعد الغائب في سجلات المؤرخ التقليدي السوداني حيث لا تجد أي أثر لادبيات تاريخ الفكر الاقتصادي و كيفية تفسير التحولات في تاريخ المجتمع. يندر أن تجد موؤرخ سوداني يتحدث عن تاريخ الفكر الاقتصادي و يفسر مسألة ظاهرة الاقتصاد و المجتمع و من يفعل يكون مدخله عبر الشيوعية كأيدولوجية متحجرة و قد أخرجتها مدرسة الحوليات من معترك الفكر بعد وضعها لماركس ذات نفسه تحت المراقبة.
مثلا عندما تحدث ماكس فيبر عن فكرة الاقتصاد و المجتمع كان واضح في أن يقول بأن التاريخ منفتح على علم الاجتماع. و يؤكد بأن علم الاجتماع قد أصبح شريعة المجتمع و خاتم العلوم حيث لم يعد للدين و الفكر الديني أي دور بنيوي على صعد السياسة و الاقتصاد و الاجتماع. و مع فكرة أن علم الاجتماع قد أصبح شريعة المجتمع و خاتم العلوم يتضح لك ان المؤرخ التقليدي السوداني ليس له علاقة بمدرسة الحوليات المتأثرة بأفكار ماكس فيبر.
مثلا يمكن للمؤرخ العراقي أن يقول أن علي الوردي عالم الاجتماع العراقي له علاقة بمدرسة الحوليات و خاصة في أفكاره في كتاب من أجزاء لمحات اجتماعية من التاريخ العراق الحديث. و لكن لا يمكن أن تقول أن المؤرخ السوداني يوسف فضل ذو علاقة بمدرسة الحوليات الفرنسية إلا إذا كان ذلك من باب الأماني و الرغبات أن يكون المؤرخ السوداني التقليدي يتشبه بالفلاح و الفالحيين.
لأن علي الوردي في مفهوم السلطة كمفهوم حديث قد أبعد رجال الدين ككهان لأنه مدرك أن مفهوم السلطة كمفهوم حديث يرتكز على تجربة العقل البشري و رأينا كيف قد هاجم رجال الدين في كتابه وعّاظ السلاطين في وقت نجد بحوث يوسف فضل تحوم حول فكرة صحيح الدين. و يكون الفرق بينه و بين علي الوردي كالفرق ما بين الثرى و الثرياء.
علي الوردي كعالم اجتماع مهتم بالتاريخ الاجتماعي لدرجة أن هناك من العراقيين قد وصفوا علي الوردي بأنه قد أصبح مؤرخ أكثر من عالم اجتماع و كان رده أن عالم الاجتماع لابد من أن يكون متشبع بالتاريخ الاجتماعي في زمن قد زالت فيه الحدود ما بين التاريخ و علم الاجتماع و هنا يمكننا القول أن المؤرخ التقليدي السوداني رصيده صفر فيما يتعلق بمعرفته بعلم الاجتماع و هذا ما جعل المؤرخ السوداني يستحق ان نطلق عليه صفة المؤرخ التقليدي كما هو الحال الذي يعكسه يوسف فضل حيث لا نجد أي بعد معرفي له يربطه بعلم الاجتماع و الانثروبولوجي و علم النفس و دوره في تفسير المعادلات السلوكية و نجدها في المنطق الرياضي للاقتصاد.
كذلك يمكنك أن تقول عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي له علاقة بمدرسة الحوليات الفرنسية و لكن لا يمكننا القول أن يوسف فضل له علاقة بمدرسة الحوليات و يمكنك أن تقول محمد أركون له علاقة بمدرسة الحوليات و لكن ليس هناك علاقة ليوسف فضل بمدرسة الحوليات كما زعم كل من احمد ابراهيم أبو شوك و عبد الله علي ابراهيم في قفزاتهم العجولة و غير المبررة من أجل إلحاق يوسف فضل بمدرسة الحوليات.
هشام شرابي في نقده الحضاري و تفكيك بنية المجتمع العربي قد وجد أن الفكر الديني هو حاضنة سلطة الأب و ميراث التسلط و لا يمكن أن نتخلص من الفكر التقليدي في العالم العربي و الاسلامي في ظل سيطرة أحزاب اللجؤ الى الغيب و أحزاب الأيديولوجيات المتحجرة و هنا تتضح لك علاقة هشام شرابي بمدرسة الحوليات و يفارق دربها بانحراف باين يوسف فضل في حديثه عن صحيح الدين و هو يقود المؤرخيين التقليديين السودانيين و قد رأينا بحوثهم عن الطرق الصوفية و فكرة صحيح الدين.
قد رأيناهم قد تم تكريمهم من قبل أحزاب الطائفية كما كرم حزب الامة محمد ابراهيم ابوسليم في دوره التقليدي في ترسيخ فكرة صحيح الدين في وقت نجد مثلا محمد أركون في حديثه عن القطيعة مع التراث و هو قد استفاد من مدرسة الحوليات قد دعى للبحث عن قطيعة الفكر الاسلامي مع نزعته الانسانية و قطيعته مع الحداثة و هذا هو البعد الغائب في فكر يوسف فضل حيث لم نقراء له قول أو دعوة للقطيعة مع التراث. و لا بحث عن نزعة انسانية في تراث الفكر العربي الاسلامي لأن محمد أركون قد حورب و هدد لأنه دربه مفارق لمثل بحوث يوسف فضل المهادنة للخطاب الديني.
الفرق واضح ما بين علي الوردي في استخدامه لعلم الاجتماع و النظريات الاقتصادية و تاريخ الفكر الاقتصادي عن يوسف فضل. حيث لا نجد أي أثر لعلم الاجتماع و فكرة الاقتصاد و المجتمع مفسرة وفقا للنظريات الاقتصادية و أدبيات تاريخ الفكر الاقتصادي في بحوث يوسف فضل.
أما الفرق بين هشام شرابي و يوسف فضل نجده في استخدام هشام شرابي لشعار مدرسة الحوليات بجدارة عندما استخدم قليلا من ماركس لتحليل و تفكيك بنى الثقافة العربية الاسلامية حيث يجد أن المرأة و الطفل على أقل درجة من سلم الاهتمام و نجده قد دعاء لحرية المرأة و في نفس الوقت نجده قد أوضح كيفية تفادي الشيوعية كايديولوجية متحجرة عند شيوعيي العالم الثالث و هنا تظهر عبقرية هشام شرابي في استخدامه لشعار مدرسة الحوليات و هو لا للمسيح لا لماو تسي و لا لتوينبي و قليل من ماركس.
و هنا قد أحضر هشام شرابي ماركس الى حيز بحوثه و لكن ماركس تحت المراقبة كما يقول ورثة عقل الأنوار من أتباع الشيوعية في الغرب حيث أيقنت الأحزاب الشيوعية في الغرب و الاشتراكيين بنمط الانتاج الرأسمالي متأثرين بأفكار غرامشي المتأثر بفكر ماكس فيبر و لا غرابة أن نجد أن فرانسوا ميتران كاشتراكي قد استخدم المقطع الرأسي من النظرية الكينزية فيما يتعلق بالحد الأدنى للدخل.
و عبقرية هشام شرابي تتضح عندما يضع نفسه مع فلاسفة و مفكري الغرب بأن ماركس ليس كما يظن شيوعيي العالم الثالث بأنه الأفق الذي لا يمكن تجاوزه لأنه قد أصبح مؤرخ عادي و أخذ مقعده بين فلاسفة و مؤرخي و مفكري الغرب بشكل عادي لا كما يعتقد شيوعيي العالم الثالث.
و بنفس الطريقة التي جلب بها هشام شرابي ماركس لتحليل سطوة الأبوية و ميراث التسلط في العالم العربي و الاسلامي نجد عمانويل تود قد جاء بماركس تحت المراقبة أيضا كما هشام شرابي لتحليل الأحداث الفرنسية ضد سياسات ماكرون.
هشام شرابي نجد ثأثره بمدرسة الحوليات عندما جاء بمثلث الاقتصاد و الاجتماع و الدين حيث نجده قد وجد في الدين أكبر حاضنة لسلطة الأب و ميراث التسلط و بالتالي كانت أفكاره قطيعة مع التراث القريب منه قبل البعيد عكس يوسف فضل الذي يبحث عن فكرة صحيح الدين كما قلنا و بعد كل هذا كيف يكون يوسف فضل متأثر بمدرسة الحوليات؟
من الواضح أن علاقة يوسف فضل بعلم الاجتماع و الاقتصاد حيث أصبح دينمو مدرسة الحوليات وفقا لبحوثها علاقة معدومة و تظهر الطامة الكبرى و توضح موقع يوسف فضل كمؤرخ تقليدي عندما لا نجد أثر للفلسفة و لا لعلم النفس و علم الأجتماع و الانثروبولوجي كما نجده في مقاربات محمد أركون متأثر بمدرسة الحوليات.
و رغم كل ذلك نجد محاولات عبد الله علي ابراهيم و احمد ابراهيم أبوشوك البائسة و اليائسة في إدخال يوسف فضل كمؤرخ تقليدي الى حيز مدرسة الحوليات بالسيف.
ليس ليوسف فضل كمؤرخ تقليدي و ذو ايمان تقليدي دفعه للبحث عن فكرة صحيح الدين أي علاقة بمدرسة الحوليات عبر كل أجيالها و هذا تؤكده بحوثه و بحوث تلاميذه و من جايله من المؤرخيين السودانيين التقليديين حيث نجد مواقفه التي لا تخرج من حيز صحبة الاسلاميين كحضوره في حوار الوثبة و صمته في فيما يتعلق بإعدام الاستاذ محمود محمد طه مما يؤكد على ايمانه التقليدي كمؤرخ تقليدي.
محاولة إقحام يوسف فضل الى حيز مدرسة الحوليات ما هي إلا محاولة تكفير للأخطاء التي ارتكبها المؤرخ السوداني التقليدي من قبل عبد الله علي ابراهيم كشيوعي تقليدي هو ذات نفسه ليس له علاقة بمدرسة الحوليات بحكم تبعيته للشيوعية المتحجرة التي ترفضها مدرسة الحوليات و كما قال أي عبد الله خرج من الحزب الشيوعي نتيجة أفعال الحزب و ليس لعيب في الشيوعية و هذا يخرجه من جنة و سقط مدرسة الحوليات.
أما احمد ابراهيم أبوشوك فلم نر له بحوث ترتكز على علم الاجتماع و الاقتصاد و تاريخ الفكر الاقتصادي حيث أصبح علم الاجتماع شريعة المجتمع و خاتم العلوم. تبقى مسألة إدخال مدرسة الحوليات لحيز الدراسات السودانية مسألة تحتاج لمفكريين يعافون الترقيع و التلفيق الذي يفضي لتوفيق الكاذب الذي قام به كل من عبد الله علي ابراهيم و احمد ابراهيم ابوشوك في محاولة لاحقة للأحداث لوضع يوسف فضل خلسة في حيز لم يخدمه ذات يوم و لن يخدمه بحكم تاريخه الذي يرزح تحت نير الايمان التقليدي.
في الختام من يستحق بأن يلحق بمدرسة الحوليات من المفكريين السودانيين هو الاستاذ محمود محمد طه لأن كل مقارباته ذات علاقة بعلم الاجتماع و فكرة الاقتصاد و المجتمع. في حديثه عن الحرية الفردية حيث نجد في فكر الاستاذ محمود محمد طه كمون علم النفس المفسر للمعادلات السلوكية للفرد في حيز المجتمع و سلوكه الاقتصادي و نجد فيها انثروبولوجيا الليبرالية في حديثه عن الحرية الفردية و توسيع ماعون الحرية عبر ايمانه غير التقليدي الذي يؤكد على معادلة الحرية و العدالة. لأن فكر الاستاذ محمود محمد طه يكاد يتطابق مع مقاصد مدرسة الحوليات عبر أجيالها المختلفة.
محاولة إقحام يوسف فضل خلسة لحيز لم يخدمه أي مدرسة الحوليات و إبعاد الاستاذ محمود محمد طه و هو الأقرب لمدرسة الحوليات هي خيبة جديدة لنخب سودانية يقودها المؤرخ التقليدي و المثقف التقليدي و المفكر التقليدي الذي لم ينتصر ذات يوم لحرية الفكر يوم إعدام الاستاذ محمود محمد طه و هو الأجدر بأن يضاف الى سجل من كتبوا بنفس من أنفاس مدرسة الحوليات فكر يرفع رأس كل سوداني في مفارقته للايمان التقليدي.
الأستاذ محمود محمد طه متقدم جدا و سيكون لفكره ميادين فسيحة في المستقبل و كما تجاوز الفكر في العالم العربي و الاسلامي طرح كل من طه حسين و حسين مروة و عبد الله العروي و في انتظار ميلاد الجديد من الفكر سيكون جديد الفكر الذي يحل محل قارئي التراث هو فكر محمد أركون و محمود محمد طه و هما ورثة عقل الأنوار و مؤسسان للتفكير النقدي الذي سيكون له شأن عظيم في مستقبلنا.
لأن الأستاذ محمود محمد طه في كل أفكاره يبحث عن نزعة انسانية في كتاب الآداب الكبرى للمسلمين و لا يمكن الوصول إليها بغير القطيعة مع التراث القريب منه قبل البعيد و كذلك يبحث عن معالجة قطيعة العالم العربي و الاسلامي مع أفكار عقل الأنوار و الحداثة و هو نفس الهدف الذي كرس له محمد أركون فكره و هذا يجعل من الاستاذ محمود محمد طه أقرب سوداني عبر بحوثه لمدرسة الحوليات و ستثبت الأيام صحة ما أقول و سيكون لفكر الأستاذ محمود محمد طه المفارق لفكر المؤرخ التقليدي و المثقف التقليدي و المفكر السوداني التقليدي موعد مع التاريخ و موعد مع الحضارات.

taheromer86@yahoo.com
////////////////////////

 

آراء