محيي الدين صابر بين انتحالِ الشهادةِ العلمية واستعارةِ السُّلمِ التعليمي

 


 

 

سيف الدين عبد الحميد

ما أن أرخى ليل انقلاب مايو ١٩٦٩م الحالك السواد سدوله ودان له الأمر دون شرعية ودون مسّوغ موضوعي حتى تهافت مؤيدو الانقلاب المؤدلجون ومدَّعو الثورية على ما زعموه تغييراً ثورياً يقضي على القديم البالي ويمهد الطريق لبضاعتهم المستوردة. وربما كان التغيير في حد ذاته هدفاً بالنسبة لهم وذلك درءاً لكل قديم وتهيئة العامة لتقبل جديدهم المصطنع. وطفق أرباب النظام يُنفّذون مشروعهم ومعول التغيير يهوي على كل راسخٍ تأصَّل وتأثَّل في الوجدان العام فكانت نماذج الناسخ والمنسوخ على المنوال التالي:
* السلم التعليمي المستعار في مواجهة السلم التعليمي الرباعي المحلي.
* كتائب مايو في مواجهة الإدارة الأهلية.
* التأميم في مواجهة الاستثمار الحر.
يعنينا في هذا المقام الموضوع الأول وهو تغيير السلم التعليمي على يد محيي الدين صابر ومعاونيه، وهو تغييرٌ كان في رأيي من أجل التغيير رغم أن السلم التعليمي العتيق العريق قد أثبت جدواه على مدى سنينٍ عدة وشهدت على ذلك كفاءة ودربة وخبرة من نهلوا من معينه من خريجي كلية غردون وخليفتها جامعة الخرطوم. فمحيي الدين صابر الذي كان من بين من جعلوا من قائد الانقلاب صنماً معبوداً لتمرير مشاريعهم العقدية والخاصة -- حتى ولو أتت ضد الصالح العام -- لم يرُق له السلم التعليمي الرباعي المنسق المموسق إذ لا بد من تغييرٍ يحمل اسم محيي الدين صابر ويحفره في الذاكرة الطلابية. ونشهد نحن الجيل الذي ابتدر فينا ذلكم السلم المعطوب أننا لم نرَ فرقاً أحدثه سلم صابر سوى تقطيع أوصال المراحل التعليمية بسلب عامين دراسيِّين من المرحلتين الوسطى والثانوية وضمهما إلى المرحلة الأولية دون دراسة جدوى!
بالطبع صحب تغيير السلم التعليمي تغييرٌ في المنهج التعليمي كان من بعض أهدافه كسب رضا القائد المعبود بإدخال خطاباته الرئاسية داخل المنهج واقتسار مواضيعَ زنيمة داخل ذلكم المنهج كموضوع "التأميم" مثلاً الذي اقتسروه على الصف الخامس الابتدائي دون مراعاة لسن تلميذ تلك المرحلة الذي يصعب عليه استيعاب هذا المصطلح. ومن المضحكات المبكيات وسعياً لكسب رضا القائد المعبود وضباطه الثوار الأحرار أنهم غيّروا لتلميذ الصف الأول الابتدائي طريقة حفظ الحروف الهجائية كتغيير حرف الضاد من "ضَ ضرب" إلى "ضَ ضابط" مع صورة الضابط أبو كِسكِتّة مصاحبة لحرف الضاد المضيوم. ومن هرطقات منهج صابر أنهم أعدوا كتاب تاريخ للصف الرابع الابتدائي حوى كل صور قواد الثورة المهدية وبعض السلاطين كصورة السلطان تيراب إلا أن ذاك الكتاب لم يُدرَّس إلا عاماً واحداً وتم سحبه، وربما كان الهدف من إعداده هو إثبات صورة وطنية لكهنة المعبد المايوي الجديد في المخيلة الشعبية والطلابية.
ولقد شهد الصف السادس الابتدائي دخول قصائد عربية لشعراء مصريين وعراقيين ولشاعر لبناني وآخر ليبي كما شهد منهج الصف الخامس ذات الشيء مع إلغاء نشيد "أصدقاؤنا في السودان" المقرر للصف الثالث الأولي وإحالة الاصدقاء التسعة إلى التقاعد برغم حلاوة إيقاع تلك الأرجوزة القومية التي تبتدئ من "القولد" وتنتهي في "عطبرة"، وكل ذلك كان إرضاءً للنزعة الصابرية المصرية وتغليب تمصير المنهج التعليمي على سودنته، هذا مع اتفاقنا على جمال تلك القصائد العربية وحسن ديباجتها وسهولة حفظها لكن ما كان لتلك القصائد أن تقوم مقام كتاب مثل "الكشكول" المقرر للصف الرابع الأولى والثري بالمواضيع المختلفة والمهضومة والقريبة من وجدان تلميذ المرحلة الأولية المفترى عليها.
لم ينس الوزير الخلوق أن يضع له بصمة بإدخال قصيدة باسمه في كتاب القصائد الشعرية المقرر للصف الثالث بالمرحلة الثانوية العامة "الوسطى سابقاً والمتوسطة لاحقاً" وهي قصيدة بعنوان [بني وطني] التي يقول مطلعها:
أذعها اليومَ قافيةً شرودا
وطوّفها على الدنيا بريدا
فلو كان للوزير الهمام ديوان شعر باسمه يحمل عنوان (الصابريّات) مثلاً لضمَّن فيه تلك القصيدة، فالذي في يده القلم لا ينسى نفسه.
لم يكتف محيي الدين صابر بمدَّ الإجازة الصيفية النهائية إلى ستة أشهر، بإضافة ثلاثة أشهر أخرى (مارس ١٩٧٠م إلى سبتمبر ١٩٧٠م)، لكي يفرغ من وضع سُلُّمه المهلهل المستعار ومنهجه المبتذل ابتذال الانقلابات العسكرية ومناصريها بل فرض على تلاميذ المرحلة الابتدائية زياً رسمياً من رداء وقميص ذويْ لونٍ أزرق سماوي إذ لم يراعِ في ذلك القرار العجول ظروف الأسر السودانية وعدم توفر مثل هذه الأقمشة في الأسواق القروية النائية، وبسبب ذلك فقد تم إلغاء الزي في وقته ودون عامه الأول. وأعقب ذاك القرار الباطل قرارٌ باطلٌ آخر ممثلاً في فرض خمسة وعشرين قرشاً "طرّادة" على كل تلميذ في أنحاء البلاد قيل إنها بدل تأمين صحي.
كان محيي الدين صابر المعروف بتوجهه العروبي مغرماً بالثقافة المصرية في حقبتيها الباشوية والعروبية وهو الذي حظي بنيل فرصة بعثة الملك فاروق التي كانت من نصيب خمسة طلاب سودانيين قُدِّر لهم ان يُبتعثوا إلى فرنسا في عام ١٩٤٩م للاستزادة من المعرفة والتحضير للشهادات العليا في مدينة الفن والجمال باريس، وهم: بشير البكري، عقيل أحمد عقيل، أحمد السيد حمد، إسحاق الخليفة شريف، محيي الدين صابر. ويبدو أن محيي الدين صابر كان في عجلةٍ من أمره لنيل شهاداة الدكتوراه التي يسيل لها لعاب الباحثين في ذلك الزمن إذ روى لنا محدثنا المتخصص في الآنثروبولوجيا والمقيم في أكسفورد أن محيي الدين صابر ارتكب جريمة أخلاقية أحدثت ضجةً كبيرة في الوسط الأكاديمي بجامعة أكسفورد ذلك أن المذكور قد انتحل كتاب سير إدوارد إيفانز بريتشارد Sir Edward Evans Pritchard الذي كتبه عن قبيلة الزاندي وعنوانه بالإنجليزية The Zande Tribe وقام صابر بترجمته [أو ربما تُرجم له] إلى اللغة العربية وتحميل اسمه عليه لنيل شهادة الدكتوراه التي أجيزت له فأصبح محيي الدين صابر دكتوراً بسرقة جهد وعرق الآخرين مما وصفه محدثنا عالم الآنثربولوجيا بالمفردة الإنجليزية plagiarism أي الانتحال. وأضاف محدثنا أن محيي الدين صابر قد التقى به في مناسبةٍ ما وسأله: يا فلان هل حدث أن كنت في جامعة أكسفورد؟ فأجابه: نعم كنت فيها، فصمت محيي الدين صابر إذ عرف أن هذا العالم قد اطلع على الفضيحة الأخلاقية العلمية المجلجلة.

سيف الدين عبد الحميد

abunizar1959@gmail.com

 

آراء