مذبحة تفلنق…. ماذا جرى؟ (2-3)

 


 

 

كتبت قبل مدة ليست بالقصيرة في هذه الصحيفة الرائدة، وفي عمود ومضات، محذراً من مغبة دخول الحركات المسلحة إلى دار الريح، كما تحدثت مع السيد ناظر الجبال البحرية، وأوضحت له كل المحاذير المتوقعة من السماح لتلك الحركات بالدخول إلى المنطقة، سواء من أجل إنشاء معسكرات تدريب أو توزيع سلاح، أو لمجرد تقنين الأسلحة التي بحوزة المواطنين وتسجيلها بأسمائهم باعتبارهم أعضاء في تلك الحركات، التي لا يجوز، وفقاً لاتفاقية جوبا، نزع سلاحها أو توقيف مركباتها والأفراد الذين يتبعون لها. لكن السيد الناظر ضرب بحديثي عرض الحائط، وكانت النتيجة أن استباح أفراد الحركات المسلحة المنطقة وانتشرت الأسلحة الفتاكة، وربما كان هنالك تدريب عسكري للشباب؛ ولذلك حدثت مذبحة تفلنق التي هي نذير شؤم لكل مكونات المنطقة من جاني ومجني عليه، حيث تيتم الأطفال وترملت النساء وزرعت الفتنة وتعطلت المصالح والصلات على كافة المستويات. فتلك الأسلحة لم تميز بين الرجال والنساء بل قتلت حتى النفساء التي لم يبلغ رضيعها أربعين يوماً من عمره، بعد أن فقد أباه الذي لم تكتحل عيناه برؤيته أبداً. فمن المسؤول عن هذه المأساة والفاجعة يا ترى؟
لقد ورد في المقال المشار إليه ما نصه: "إذا اتخذ الحراك السياسي القبلية أو الاستقطاب الاثني مدخلاً فإن ذلك يعد انحرافاً خطيراً، وخطأ فادحاً ومنحى خطير للغاية؛ لأنه قد يجر إلى نزاعات لن يحصد منها الجميع إلا الندم. ومعلوم أن ثمة تحركات قام بها بعض مسؤولي إحدى الحركات الموقعة على وثيقة سلام جوبا، إلى دار الريح مؤخراً، بحجة تفقد عضوية الحركة في تلك المنطقة، إلا أن أحد مستجدي العمل السياسي قد استعجل الأمر فاشعل الأسافير بتسجيل صوتي أوغر حفيظة بعض مكونات دار الريح. وعلى إثر ذلك تدفق سيل جارف من البيانات والبيانات المضادة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، الأمر الذي عكر صفو دار الريح بدون سبب وجيه".
هذه الحادثة تمثل حلقة من مخطط يراد له أن يشعل النار في مناطق كثيرة من غرب السودان، دون اكتراث لقتل النفس أو تدمير الممتلكات؛ لأن من يقف وراءه قد امتهن القتل كأنسب وسيلة لتحقيق مآرب سياسية، منتهزاً هشاشة الموقف الرسمي والميوعة الأمنية التي تسود في ولايات غرب السودان، ولذلك استحر القتل بين الناس من غرب دارفور إلى غرب كردفان وجنوبها وشمالها! وفي جميع الأحوال يكاد يكون الفاعل واحد وهو يستخدم ذات السلاح ويستهدف ذات المكون الاجتماعي! فأين أجهزة الدولة من إدارة أهلية وشرطة وقوات نظامية أخرى مما يجري في هذه المناطق؟
تراخت الإدارة الأهلية وتنازلت عن دورها لجهات غير مسؤولة تبحث عن مواقع مستخدمة مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فهي لا يهمها إلا تحقيق أجندتها الخاصة ولو كان ذلك على أشلاء النساء والأطفال والسير على دمائهم، ولهذا السبب اضطربت الأمور الإدارية واختل الوضع الاجتماعي واختلطت المواقف وبرزت مشكلات منشأها السعي إلى فرض وجهات نظر غير واقعية ولا تمت للعرف ولا الصلات بين مكونات المجتمع المحلي من جميع الأطراف التي كانت متعايشة بفضل الله ثم القيادة الرشيدة لزعامات الإدارة الأهلية والأعيان من المشايخ الذي كان هدفهم الأول والأخير هو الحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي والحيلولة دون الاحتكاكات القبلية أو النزاعات حول الموارد من أرض وماء.
وإزاء حادثة تفلنق فقد سجلت الشرطة موقفاً أقل ما يقال عنه أنه فاضح؛ فشرطة سودري وصلت إلى موقع المذبحة وصارت تتفرج بينما كان الجناة يمارسون قتل الأبرياء بدم بارد ولم تبذل أي جهد للفصل بين الطرفين وكأنها بذلك كانت تشجع المعتدين على مواصلة قتل النساء اللائي واجهنا المدافع والقذائف بكل شجاعة ورباطة جأش فكل المغدورين لم يكن بينهم "مضروباً قفا". أما شرطة أم كريدم فقد لاذت بالفرار لتنجو بنفسها بحجة أن السلاح المستخدم في الاشتباك يفوق قدرتها بكثير، وهذا في واقع الأمر عذر أقبح من الذنب.
من جانب آخر، تقاعست الجهات المسؤولة في حكومة الولاية عن تلافي الوضع منذ وقت مبكر؛ خاصة وأن بعض الاشتباكات قد سبقت تلك المذبحة ولكن حكومة الولاية لم تسع لنزع فتيل الأزمة بتوفير عدد كافٍ من قوات الشرطة، وفض النزاعات حول الحواكير وموارد المياه بل عملت "أضان الحامل طرشاء" حتى وقع الفأس على الرأس، ولم تنتقل إلى موقع الأحداث إلا بعد فوات الأوان وكأن دم الإنسان في دار الريح لا قيمة له. ولو أن صبياً قتل في شوارع الخرطوم لضجت الأسافير وأجهزة الإعلام المسموعة والمشاهدة والمقروءة بالخبر واستنكرت ما جرى، لكن عندما يقتل الرجال والنساء في تفلنق يعد ذلك أمراً معتاداً طالما أنه بعيد عن المركز!
ما حدث في تفلنق وأدى إلى إزهاق أنفس بريئة يعتبر أمراً دخيلا على دار الريح، التي لم تكن تعرف هذه الصراعات الدامية وبالشكل الذي حدث؛ نتيجة لتدخل جهات لا تنتمي لهذه المنقطة وإخفاق الجهات في تحمل مسؤوليتها على الوجه المطلوب.

tijani@hejailanlaw.com

 

آراء