معارضو الحرب مختلفون.. لكنهم ليسوا خونة

الخونة الحقيقيون هم من يخبزون طحينهم بالدماء والدموع، ومن تتعاظم ثرواتهم من مآسي شعوبهم وويلاتها
.
ربما لن تجد إنسانا واحدا، ليس في السودان فحسب، بل في العالم كله، محايدا تجاه عناصر تورطت في جرائم حرب وانتهاكات وجرائم ضد الإنسانية على شاكلة تلك التي ظلت تحدث في مواجهة المدنيين بالسودان..

كل السودانيين بلا إستثناء فيما عدا الكثيرين من أنصار الإنقاذ سابقها ولاحقها لا يساورهم أدنى الشك في أن الجنجويد بكافة مشاربهم إنما هم شرًّ محض.. وأنه “سوف لن يدخل الجنة جنجويدي حتى يلج الجمل من سمّ الخياط” كما ورد في تراجيديا “مسيح دارفور” للقاص الأديب بركة ساكن..

الفرق فقط أن الحرس القديم بالإضافة لقادة الجيش الحاليين، على خلاف بقية خلق الله أجمعين قد تأرجحت رؤاهم مابين الشئ وضده، فقد كانوا بالأمس القريب يرون في الجنجويد أرحاماً وأصهارا.. أصدقاءً وحرّاسا أوفياء للعقيدة وبلاد الحرمين، وكانوا ينفقون أموال الشعب دون مشاورته وتفويضه لتمويل متعلقات تلك الرؤى البائسة المختلة.. الأمر الذي جعل البلاء يستحكم في البلاد ويسري في أوصالها وعروقها كسُمٍّ زعاف.. بالكاد حتى تلك الليلة التي سبقت ذلك الصباح الدامي ليوم السبت الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣..

إن الحرب المندلعة اليوم مابين الجيش والحرس القديم وحلفائهما، في مواجهة الجنجويد لم تندلع لأن الجنجويد قد أصبحوا أشرارا فجأة بين ليلة وضحاها، فالجنجويد أشرارّ ضاربون في القِدم، بل أنها تندلع لأن ثمًة خلاف مفاهيمي قد أشكل فيما بين العبيد والسادة، إذ أن قائمة الجنجويد السوداء “أو الهيت ليست” قد اتسعت بصورة مباغتة لتشمل الحرس القديم ثم قادة الجيش، بالإضافة للمدنيين كضحية لا خلاف حولها أصلا.. ما حدث فقط هو أن السحرة قد أداروا ظهورهم للفرعون، فقد إنقلب السحر على الساحر.

أما فتكها، أي عصابات الجنجويد، وتنكيلها بالمواطن السوداني الأعزل البرئ فإنه لم ينقطع أصلا على مدى عقدين من الزمان، بل استمر على سوئه وقد تمدد كما وكيفا على صعيد الجغرافيا ليطبق على الخرطوم وضواحيها وعلى ولايات كانت من قبل بعيدة عن مرامى شواظها ونيرانها..

إن نيران الجنجويد ومعاولهم ومخاريقهم بدلا من أنها كانت تستخدم للتنكيل بالخوارج وبالمدنيين من ابناء الشعب السوداني في دارفور وجنوب كردفان، كمقاول جنائزي للإنقاذ ولصالح سلطة الإسلاميين في الخرطوم وعلى حسابها، أصبحت تستخدمها لحسابها هي ولصالح قادتها أنفسهم ولصالح من تحالف معها من حواضنها الإثنية ومن تواطأ معها من السياسيين الوصوليين، بما فيهم قادة كبار من إسلامييّ النظام السابق.

أما الموقف الذي يتخذه المتضررون والضحايا ضد استمرار الحرب، فلا يعني بالضرورة ان يكون من يتبناه محايدا في مواجهة من يقتله وينهب ماله وعرضه، إن هذا الإفتراض إما متعجل أو مغروض، رغم أنه لكل قاعدة شواذها، لكن ذلك الإفتراض في رأيي لا تسنده الكثير من الوقائع. فليس من بيننا من لم تنكّل تلك العصابات بأهله وداره ومَوَاطنه.. إن محاولات التحشيد التعبوي التي انتظمت الرواية السائدة، حاولت دعم المجهود الحربي من خلال تنميط الناس مابين وطني داعم للجيش وآخر خائن ودعّامي، في ثنائية متهافتة إنبنت على عجل مدفوعة بحُمّى ذلك التحشيد، مما أضعف من إجماع الضحايا وتضامنهم، على اختلاف رؤاهم ومساهمتهم، في مدافعة العدوان والسعي للنجاة من ويلاته…

إن ذلك التنميط قد تجاوز غرف الحوار والعنف اللفظي لينسدل على الأرض في صورة سرديات للكراهية سرعانما تمثلت في مشاهد انعقاد لمحاكم ميدانية في الشوارع والأحياء، يبدو فيها جلادون بصحبة بضعة شهود عابرين من جانب، ومن جانب آخر جثامين لضحايا عزل منهكين، أجمع المشهد العبثي المتعجل على تصنيفهم كخونة، تصادف ألا تمنحهم المعركة من الوقت ما يكفي لسماع سردياتهم.

لا يعدو الأمر كونه اختلاف في تقدير الخسائر المادية والبشرية التي تجلبها الحرب والمواجهات، وتلك التي بالإمكان أن يوفرها ويتلافاها السلام والمهادنة. بين خيار الإقبال على الحياة أو الإدبار إيغالاً في سرادب الموت.. بين خيار معركة كسر العظم التي تفتقر للخيال وتنظر للأشياء ببصائر الدواب فلا تراها إلا في قالبها الأسود والرمادي.. وبين أن نشتري أنفسنا ودماءنا من عدوًٌ لا خَلاقَ له، مقابل تعويضات وتسوية مادية محسوبة ترضينا وترضيه، بإمكان المجتمع الدولي أن يسهم فيها ويتعهدها، بالقدر الذي يمكننا من الإبقاء على الدماء والأعراض، وعلى ما تبقى من أصول ومصالح مادية، بدلا من أن نتعارك حتى يتحول المسرح إلى رُكام.

لا ضرر من تباين الآراء واختلاف التقديرات.. فلكل منا رؤيته والنوايا يعلمها فالق الحب والنوى.
إنتهى..

nagibabiker@gmail.com

شاهد أيضاً

خطاؤون.. لكنّا لسنا مُكابرين .. محاكم السرديات .. مشانق الحقيقة

ناجي شريف بابكر نوفمبر ٢٠٢٤ إحدى التحديات التي تجابهنا في سعينا للمعرفة والإستنارة والإطلاع هي …