19يوليو 1971 (دراسة في تاريخ السياسة السودانية) .. إعداد: بروفيسور عادل علي وداعه عثمان-جامعة سنار

 


 

 

adilali62@gmail.com

(ا) تكوين تنظيم الضباط الأحرار:
ساهمت ثورة 23يوليو 1952في مصر بتاثير ها المعنوي في شحذ افكار عامة اجتاحت المنطقة الأفريقية والعربية، فقام عدد من الضباط السودانيين بتكوين تنظيم سري يحمل مباديء تحررية وثورية ويهدف الى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي وقيام نظام سياسي جديد يحل محل الصراع السياسي الديمقراطي. تعود الجذور التاريخية لنشاة وقيام تنظيم الضباط الأحرار في السودان إلى أواخر عام 1952فقد أشارت الدراسات التاريخية التي تحدثت عن مولد التنظيم الى أن الغرض والأهداف منه كانت سياسية بحتة،وكان هناك تنسيقا وان كان خفيا بين التنظيم وبين عدة جهات وتنظيمات سياسية وعسكرية مصرية وكان لذلك التنسيق أشكال مختلفة ومتنوعة منها المساهمة في بناء التنظيم والعمل السياسي، وتأمين قادته، والمساعدة اللوجستية من الجيش المصري للجيش السوداني.
في عام 1954اشارت بعض الصحف السياسية الى وجود تنظيم سياسي في الجيش السوداني شبيه بالتنظيم الذي قاد ثورة 23 يوليو في مصر والمحت تلك الصحف الى دور محتمل للتنظيم في الحياة السياسية بل ان بعض الصحف ربطت بينه وبين التيارات السياسية الاستقلالية والاتحادية، وقد نفى وزير الدفاع السوداني وقتها خلف الله خالد تلك المعلومات وقال:ليس هناك أي عمل سياسي داخل الجيش.
ويدل اسم تنظيم الضباط الأحرار الى أن الضباط احرار في اهدافهم الوطنية والاجتماعية وأنهم احرار كذلك في الإنتماء الى أي هيئة أو جمعية أو تنظيم معروف، وكان لنجاح التجربة المصرية وما حققته من انجازات ثورية أثره الكبير في سرعة انتقال مفهوم وأسلوب العمل السياسي داخل الجيوش الأفريقية والعربية، فقد ذكر محمد محجوب عثمان في مؤلفه الجيش والسياسة في السودان أن ولوج اليسار للعمل في داخل الجيش يرجع الى ما قبل ان ينال السودان استقلاله السياسي وتحديدا في عام 1954وما صحبه من زخم سياسي وانفتاح ديمقراطي اتاح الفرصة لعناصر من الحركة الطلابية الدخول إلى المؤسسة العسكرية رغم القيود الثقيلة لقوانين الادارة البريطانية ففي تلك الظروف تفتحت الفرص امام مجموعات من الطلاب ذوي الميول الديمقراطية وآخرين من أعضاء رابطة الطلبة الشيوعيين الدخول إلى الكلية الحربية والتخرج فيها كضباط داخل الجيش، فشكل ذلك النواة الأولى لتنظيم الضباط الشيوعيين ولعب بابكر النور دورا كبيرا فيه فضلا عن الجهد الذي بذله في بناء تنظيم الضباط الأحرار باعتباره وعاء شاملا لتحالف الضباط الديمقراطيين والشيوعيين داخل الجيش السوداني.
جرت أول محاولة لتنظيم الضباط الأحرار للاستيلاء على السلطة في مايو 1957 وكان على رأسها عبدالرحمن كبيدة الذي قاد التحرك ،وكانت أسباب التحرك سياسية بدعوى أن الحكومة قبلت المعونة الأمريكية، وفشلت في تسويق محصول القطن والذي كان مصدرالثروة للاقتصاد السوداني، علاوة على محاولات السفير الأمريكي شراء النواب في البرلمان للتصويت لقبول المعونة الأمريكية،تسربت انباء هذآ التحرك الى مسامع القيادة العسكرية وبدورها استدعت عبدالرحمن كبيدة وحذرته من التمادي في الأمر وتحت ضغط الرأي العام اضطرت قيادة الجيش لاعتقاله مع عدد من الضباط واحالتهم الى التحقيق والمحاكمة.
لقد كانت نتائج تحركات الضباط الأحرار ذات اثر بالغ على الساحة السياسية ووجدت تعاطفا واسعا من بعض القطاعات السياسية خاصة العمال والطلاب والمهتمين بالشان السياسي لا سيما وان البلادلا زالت حديثة الاستقلال واذا بهاتعاني من الخلافات والصراعات السياسية واحزابها ضعيفة في مواجهة المخاطر التي تحيق بها، ولعب تنظيم الضباط الأحرار دورا كبيرا في دفع الجيش الى الانحياز للشعب بعد اندلاع انتفاضة 21أكتوبر 1964.
(ب)الأوضاع السياسية في السودان قبيل انقلاب 25مايو 1969:
بدا التحضير لانتفاضة أكتوبر 1964ومن ثم القضاء على الحكومة العسكرية الأول1958-1964 بتكوين الجبهة الوطنية المتحدة والتي ضمت بين ظهرانيهاالقوى السودانية في نوفمبر 1969 ،كصيغة للتحالف السياسي المرحلي العريض ،والذي تمليه ظروف الواقع السياسي المعقد، مما يتطلب معه العمل الجماعي، وبتصاعد الأزمة السياسية والاقتصادية تهيأت أسباب الثورة وتوافرت لها شروطها الضرورية، ومقوماتها الأساسية، وذلك عندما عجزت الحكومة العسكرية عن ايجاد الحلول الناجعة للازمة وتداعياتها على الشعب بكل طبقاته، مما أدى إلى تفاقمها،واصبح من العسير العيش في ظل ذلك النظام، فقاد الطلاب والعمال والمزارعين والمهنيين سلسلة من التظاهرات والاحتجاجات والاضرابات المناهضة للحكومة في فترات مختلفة وأدى تراكمها الى انفجار الشارع السوداني وانتصاره في 21أكتوبر 1964.
وشهدت الفترةبين أكتوبر 1964ومايو 1969مولد خمس حكومات مدنية اكتسبت شرعيتها بأسلوب ديمقراطي من داخل البرلمان،وبرز خلال هذه الفترة عدد من التحالفات والانقسامات الحزبية، فبعد انتصار انتفاضة أكتوبر أستمر الحزب الوطني الاتحادي بزعامة اسماعيل الازهري منفصلا عن حزب الشعب الديمقراطي والذي يتزعمه علي عبدالرحمن، كما انقسم حزب الأمة الى جناحين الأمام الهادي وجناح الصادق المهدي، فتحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الصادق المهدي واسقطا حكومة محمد أحمد محجوب، ثم تحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الأمام الهادي وسحبا الثقة من حكومة الصادق المهدي، وأخيرا اندمج الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي وكونا الحزب الاتحادي الديمقراطي في عام 1967،وتمكنت القوي التقليدية في عام 1965من حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان بعد حادثة معهد المعلمين العالي.
كان لهذه الاضطرابات والصراعات الحزبية آثارها السلبيةعلى بعض الفئات الاجتماعية فقد أدت إلى بروز الدعوة لقيام حكم عسكري صارم يضع حدا للعبث الليبرالي،وكانت هذه الدعوة تأتي من بعض اهل اليسار واليمين على السواء فهناك عناصرمن اليسار يئست من العمل المثابر وسط الجماهير واصابها القنوط من الوصول إلى السلطة عن طريق البرلمان والذي تحتكره المؤسسات التقليدية وتحكمه الولاءات القبلية والطائفية فلم تر أمامها من سبيل الى السلطة سوى عبر التدخل العسكري والقفز على المراحل غير أننا نرى أن النظام الديمقراطي هو أفضل اسلوب للحكم توصلت إليه التجربة السياسية الإنسانية حتى الآن، وتطوير هذا المنهج الديمقراطي يتم عن طريق ممارسته وتصحيح أخطائه التي ظهرت أثناء الممارسة، كما يتم برفع القدرات الاقتصادية والثقافية لأفراد المجتمع حتى يسهموا بوعي ونشاط في إثراء ذلك النهج، غير أن هناك فئات اجتماعية تريد الوصول إلى النتائج السريعة باقصر السبل لذلك ادانت التجربة البرلمانية الوليدة في السودان وبدأت تسعى وتخطط للانقلابات العسكرية باعتبارها أيسر السبل لحسم الصراع الاجتماعي وتسنم السلطة السياسية، ولم تكن المؤسسة العسكرية السودانية محصنة من ذلك الصراع إذ نفذ إليها مؤثرا فيها سلباوايجابا فأخذت فئات من الجيش تنحاز إلى محاور الصراع السياسي الدائرة في حلبة الصراع الاجتماعي وهكذا فتحت الأزمة السياسية المنافذ لتدخل الجيش في العمل السياسي وحسم الصراع الاجتماعي.
(ج) انقلاب 25 مايو1969:
جاء في تعريف الانقلاب العسكري أن القوات المسلحة للدولة تعتمد على احتكارها الفعلي لأداوات العنف وتقوم بالاستيلاء على سلطة الحكومة المدنية وهذا الاستيلاء يتم إنجازه في شكل انقلاب أي بصورة مفاجئة وغير متوقعة. وعرفه جون كنيدي الرئيس الأمريكي الأسبق والذي اغتيل في عام 1964بانه الحكومة العسكرية التي تأتي إلى السلطة بوسائل غير دستورية وغير شرعية، والانقلابات العسكرية أنواع منها الانقلابات ذات الطابع التقدمي، والانقلابات الرجعية، وتستند الانقلابات العسكرية في تبريرها للاستيلاء على الحكم في تدهور الانظمة السياسية وعجزها وفسادها.
في عام 1964دخلت البلاد فيما يعرف في الأدب السياسي السوداني فترة الديقراطية الثانية، فاندفعت الأحزاب السياسية خوض هذه المرحلة برصيد ضئيل من التجربة والوعي السياسي أضف الى ذلك عدم وجود برامج وخطط تنموية واضحة علاوة على الخلافات التاريخية بين الأحزاب، كل ذلك انعكس سلبا على الحياة السياسية السودانية ففشلت الحكومات المدنية المتعاقبة في وضع دستور دائم للبلاد بسبب عجزها في حل قضايا اساسية ظل يعاني منها السودان مثل قضية الجنوب وعدم الاتفاق على معين للحكم برلمانيا ام رئاسيا؟وعدم قبول قرارالمحكمة الدستورية ببطلان حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان فاصاب هذا الأمر الديمقراطية في مقتل.
وعلى الصعيد الخارجي فقد وقع انقلاب 25مايو في السودان في وقت اصيبت فيه القارة الأفريقية بنكسة التعددية والتي لم تستطع القارة الأفريقية التفاعل معها وتطويرها وذلك بسبب اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، فقد وقعت في الفترة ما بين 1965-1968تسعة انقلابات عسكرية في أفريقيا، والزحف الاشتراكي كان سيد المرحلة في بلدان العالم الثالث ويجد السند والدعم من الإتحاد السوفيتي، كما أن التجربة الناصرية ذاع صيتها لأن زعيمها جمال عبدالناصر واجه الاستعمار الامبريالي فاصبح رمزا يحتذى به.
وفي صبيحة 25مايو 1969استولى الجيش على السلطة منهيا حقبة الديمقراطية الثانية1964-1969،
ولمعرفة طبيعة الانقلاب ووجهته كانت البيانات الثلاثة الأولى كافيةلذلك حيث صبت جام غضبها على الرجعية والطائفية والحزبية، وأعلنت عزمها قيادة السودان على طريق تقدمي ياخذه إلى رحاب الاشتراكية، وتوالى إصدار الأوامر الجمهورية من مجلس قيادة الثورة المكون من تسعة ضباط وتراسه جعفر محمد نميري، وأعلنت تلك الأوامر أن السودان جمهورية ديمقراطية السيادة فيها للشعب وتم حل كافة الهيئات السيادية(مجلس السيادة ومجلس الوزراء والبرلمان )واوقف العمل بالدستور وحلت الأحزاب وصودرت ممتلكاتها واعلن عن تشكيل مجلس للوزراء من 21وزيرامن اليسار السوداني العريض وتراس ذلك المجلس بابكر عوض الله والذي اصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة بوصفه رئيسا للوزراء.
(د) الخلافات بين الشيوعيين وضباط انقلاب مايو:
بعد سيطرة اليسار السوداني على السلطة في السودان، نشطت المنظمات اليسارية في تعبئة الشارع للخروج في موكب تأييد للنظام الجديد فخرجت الجماهير يوم 1969/6/2في موكب ضخم، صحيح ان الذين خرجوا يومها لم يكونوا كلهم شيوعيين واشتراكيين و قوميين عرب ولكن هذه الجموع التي خرجت كانت تمثل عموم اهل السودان جاءوا ليعبروا عن عجز الطائفيةو الحزبية التي حولت سنوات الديمقراطية لسنوات من الصراع والتناحرللدرجة التي صارت فيها الديمقراطية في اذهان الناس سمة للعجز السياسي واصبحت الحرية صنوا للفوضى، لقد شكل ذلك الموكب لضباط مايوشرعية شعبية وامد حركتهم بالثقة.
ولكن بدأت بوادر الخلاف تظهر داخل مجلس قيادة الثورة خاصة بعد حل تنظيم الضباط الأحرار وتكوين تنظيم احرار مايو فصار رئيس مجلس قيادة الثورة لا يتعامل بجديةمع مباديء واهداف الثورة المتفق عليها وأنه بدأ في إتخاذ قرارات تتناقض مع برنامج الحركة المعلن، وهنا تحرك ثلاثة ضباط من أعضاء مجلس قيادة الثورة للتصدي لرئيس المجلس وهم هاشم العطا وفاروق عثمان حمدلله وبابكر النور واستطاعوا بالفعل التاثير على أعضاء المجلس بوجوب صدور القرارات بالاغلبية والاسراع في تنفيذ الشعارات المطروحة، وبالفعل بسط الاعضاء الثلاثة نفوذهم داخل مجلس قيادة الثورة فشهدت الفترة تطبيق عدد من الأهداف مثل الاعلان عن منح الجنوب الحكم الإقليمي الذاتي، وتصفية الإدارة الاهلية والاعلان عن قوانين الإصلاح الزراعي.
وفي مارس 1970 قام جعفر نميري بزيارة الى منطقة النيل الأبيض، وكان الأمام الهادي المهدي زعيم الأنصار مقيما في الجزيرة أبا، فأرسل الى نميري مندوبا منه ليبلغه ان زيارته للمنطقة مرفوضة وغير مرحبا بها، فعقد نميري اجتماعا عاجلا لمجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء قرر فيه ضرب الجزيرة أبا بالطيران الحربي، وهنا عارضه الاعضاء الثلاثة داخل المجلس على الأقدام على هذه الخطوة في ذلك الوقت بانها ستجلب عليهم عداوة الأنصار والدخول معهم في حرب مبكرة، ولكن لم يؤخذ باعتراضهم ووقعت مذبحة الجزيرة أبا والتي انتهت بقتل وإصابة مالايقل عن الفين فيما تمكن الأمام الهادي أن يخرج من الجزيرة أبا لتلاحقه قوات الحكومة عند حدود السودان مع إثيوبيا ويلقى حتفه هناك. وبعد انتهاء مذبحة الجزيرة أبا عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اجتماعا طارئا نددت فيه بالمذبحة فامر جعفر نميري زعيم الحزب الشيوعي عبدالخالق محجوب ونفيه الى مصر .
وبعد مرور عام على الانقلاب أراد قادته تقديم ما يشفع لهم امام الشعب السوداني فجاءت قرارات التاميم والمصادرة في احتفالات عيد الثورة الأول وهي تاميم البنوك والشركات ومصادرة أموال التجار، وبعد مرور يوم واحد من هذه القرارات أصدر الحزب الشيوعي بيانا رفض فيه فكرة التاميم باعتباران 48%من الدخل القومي اساسه القطاع الخاص ،وأدى هذا الى تفاقم الخلاف بين نميري والحزب الشيوعي، فاخذ النميري يعمل على تأمين موقفه داخل الجيش واقناع أعضاء مجلس قيادة الثورة بأن الاعضاء الثلاثة ومن خلفهم الحزب الشيوعي السوداني يخططون للاطاحة بهم وتصفيتهم،واصدر نميري في 16نوفمبر 1970قرارا قضى بعزل الاعضاء الثلاثة هاشم العطا وفاروق حمدلله وبابكر النور من مجلس قيادة الثورة ومن كافة مناصبهم ووصفهم بأنهم عملاء للحزب الشيوعي.
(ه)انقلاب 19يوليو 1971:
منذ نوفمبر 1970وصل الخلاف بين ضباط مايو والحزب الشيوعي الى ذروته، فدار حوار بين بعض قيادات الحزب والتنظيم العسكري في الجيش أشار فيه المتحدث باسم العسكريين الى أهمية تحديد دورهم في عملية تصحيح مسار ثورة مايوواستكمال مهامها الوطنية والديمقراطية وتحويلها الى حركة شعبية، وجاء في ادبيات الحزب الشيوعي السوداني أن البلاد قد دخلت في نفق مظلم لا مخرج منه سوى قيادة وطنية تترجم ارادة التغيير وتعبر عن تطلعات الجماهير مع التأكيد على رفض أي مغامرة عسكرية والتمسك بموقف الحزب الرافض للانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير وان وسيلة التغيير هي الثورة التى تصنعها الجماهير الواعية مستندة على الشعب .
ونتيجة لحدة الخلافات بين حكومة مايو والحزب الشيوعي قاد هاشم العطا انقلابا عسكريا ظهر يوم 19يوليو 1971 ،اطاح فيه بحكومة جعفر نميري واعلن عن تكوين مجلس جديد لقيادة الثورة برئاسة بابكر النور وهاشم العطا نائبا له وعضوية خمسة ضباط آخرين، وأصدر المجلس أوامر بالغاء وحل الإتحاد الاشتراكي السوداني، وجهاز الأمن القومي والحرس الوطني وأسس الأمر الجمهوري لسلطة الجبهة الوطنية الديقراطية لتحل محل الإتحاد الاشتراكي.
ومما لا شك فيه ان الخطة التي نفذ بهاانقلاب19يوليو كانت في غاية الدقة والأحكام ونفذت بطريقة اذهلت الجميع وذلك بسبب مفاجاته وسرعته واتقانه فقد استولى قوات يوليو على المواقع العسكرية الأساسية ونفذت اعتقالات طالت رئيس واعضاء مجلس قيادة الثورة في زمن قياسي لم يتجاوز ساعة من الزمن، فلم يكن الاستيلاء على المواقع العسكرية المحددة حسب الخطة صعبا فتم كل شيء بهدوء ودون اراقة دماءوكانت مهمة الاستيلاء على القيادة من أصعب المهام الا أن أحكام الخطة وجراة وشجاعة القوات المنفذة كان لها اثرها في السيطرة السريعة على كل المواقع داخل القيادة العامة.
هنالك أخطاء عسكرية وسياسية صاحبت انقلاب 19يوليو وادت الى فشله ففي وثيقة تقييم 19يوليو الصادرة من الحزب الشيوعي أن المكتب السياسي طرح على العسكريين الذين نفذوا الانقلاب عددا من القضايا وطلب رأيهم حولها قبل التحرك مثل أن اي برنامج للتصحيح يجب أن يكون برنامجا للإصلاح الشامل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وإلى اي مدى يمكن أن يكون هناك تدخلا من دول الميثاق الثلاثي(ميثاق طرابلس )وإمكانية التدخل الأجنبي عن طريق إثيوبيا، وضرورة الإجابة عن الوضع داخل الجيش في المدرعات والحرس الوطني والقوات الخاصة والبوليس غير أن العسكريين رأوا أن الحركة التصحيحية كانت لإعادة مايو الى البرنامج الديمقراطي الذي طرحته في البداية والذي بنى عليه الحزب موقفه الداعم لها وان الخطوة كانت مفصلية وذات أهمية تستوجب اتخاذ قرار محدد عن كيفية التحرك شكله وتوقيته ولو تعلق الأمر بثورة لكانت الوجهة الى الجماهير ومنظماتها لكن يوليو كانت تصحيحا لوضع قائم اصلا وسلطة عسكرية أعلن الحزب تاييدها.
وبعد قرارات 16نوفمبر 1970شن نظام نميري حملة شعواءعلى الحزب الشيوعي والشيوعيين فاصدر النظام بيانا دعا فيه تحطيم الحزب الشيوعي، واتخذ سلسلة من الخطوات العملية مثل حل الإتحاد النسائي السوداني واتحاد الشباب واحالة عدد من
الضباط ال التقاعد واعتقال مجموعة من كوادر الحزب،فكان رد فعل الحزب الشيوعي على هذه الإجراءات اصداربيان اشارفيه أن السلطة لا تقوى على تحطيم الحزب وان فعلت فستضع نفسها في موقع الخطر. لقد دفعت هذه الخطوات ضباط يوليو لتنفيذ الانقلاب بمبادرة ذاتية منهم وذلك عندما انسد أفق العمل الجماهيري.
وفي تقديرنا أن 19يوليو انقلاب عسكري نظمته مجموعة وطنية من الضباط وضباط الصف والجنود داخل الجيش وان فشله لا ينفي جوهره الثوري وان موقف العسكريين من أعضاء الحزب الشيوعي ودعوتهم للانقلاب ومن ثم اخطارقيادتهم ولكن لم يتخذ المكتب السياسي للحزب قرارا قاطعا بقبول فكرة الانقلاب أو رفضها بل اخضعها للمناقشة والتقديرولمزيد من المشاورات مع العسكريين في وقت لا يحتمل فيه الأمر التأخير.
كان لهزيمة انقلاب 19يوليو أسباب متعددة منها السياسي والتنظيمي والعسكري، ومنها أسباب تتعلق بالظروف المحلية والإقليمية والدولية، فقد كان السودان وقتها يمر بمرحلة غاية في الخطورة ونظام مايوقد احكم قبضته وعزز من علاقاته الخارجية فقام القذافي بدوركبير بالقرصنة الجوية التي انتهت بالقاء القبض على بابكر النور وفاروق حمدلله وتسليمهم لنميري الذي قام بتنفيذ الإعدام فيهما كما لايخفى عنا دور مصر والسعودية في التاليب على قادة الانقلاب.
تمكن جعفر نميري من العودة إلى السلطة في يوم 22يوليو وقام بحملة اعدامات طالت قيادات في الحزب الشيوعي ابرزهم سكرتيره العام عبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ رئيس إتحاد نقابات عمال السودان وجوزيف قرنق عضو اللجنة المركزية، بالإضافة إلى الضباط الذين نفذوا الانقلاب كما راح ضحية لتلك الأحداث عددا من ضباط وأفراد القوات المسلحة وفقا للإحصا ئيات الرسمية الصادرة من وزارة الدفاع أن عدد الضحايا بلغ اكثر من 45 فقيدا.19يوليو 1971
(دراسة في تاريخ السياسة السودانية )
إعداد: ا.د عادل علي وداعه
(ا) تكوين تنظيم الضباط الأحرار:
ساهمت ثورة 23يوليو 1952في مصر بتاثير ها المعنوي في شحذ افكار عامة اجتاحت المنطقة الأفريقية والعربية، فقام عدد من الضباط السودانيين بتكوين تنظيم سري يحمل مباديء تحررية وثورية ويهدف الى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي وقيام نظام سياسي جديد يحل محل الصراع السياسي الديمقراطي. تعود الجذور التاريخية لنشاة وقيام تنظيم الضباط الأحرار في السودان إلى أواخر عام 1952فقد أشارت الدراسات التاريخية التي تحدثت عن مولد التنظيم الى أن الغرض والأهداف منه كانت سياسية بحتة،وكان هناك تنسيقا وان كان خفيا بين التنظيم وبين عدة جهات وتنظيمات سياسية وعسكرية مصرية وكان لذلك التنسيق أشكال مختلفة ومتنوعة منها المساهمة في بناء التنظيم والعمل السياسي، وتأمين قادته، والمساعدة اللوجستية من الجيش المصري للجيش السوداني.
في عام 1954اشارت بعض الصحف السياسية الى وجود تنظيم سياسي في الجيش السوداني شبيه بالتنظيم الذي قاد ثورة 23 يوليو في مصر والمحت تلك الصحف الى دور محتمل للتنظيم في الحياة السياسية بل ان بعض الصحف ربطت بينه وبين التيارات السياسية الاستقلالية والاتحادية، وقد نفى وزير الدفاع السوداني وقتها خلف الله خالد تلك المعلومات وقال:ليس هناك أي عمل سياسي داخل الجيش.
ويدل اسم تنظيم الضباط الأحرار الى أن الضباط احرار في اهدافهم الوطنية والاجتماعية وأنهم احرار كذلك في الإنتماء الى أي هيئة أو جمعية أو تنظيم معروف، وكان لنجاح التجربة المصرية وما حققته من انجازات ثورية أثره الكبير في سرعة انتقال مفهوم وأسلوب العمل السياسي داخل الجيوش الأفريقية والعربية، فقد ذكر محمد محجوب عثمان في مؤلفه الجيش والسياسة في السودان أن ولوج اليسار للعمل في داخل الجيش يرجع الى ما قبل ان ينال السودان استقلاله السياسي وتحديدا في عام 1954وما صحبه من زخم سياسي وانفتاح ديمقراطي اتاح الفرصة لعناصر من الحركة الطلابية الدخول إلى المؤسسة العسكرية رغم القيود الثقيلة لقوانين الادارة البريطانية ففي تلك الظروف تفتحت الفرص امام مجموعات من الطلاب ذوي الميول الديمقراطية وآخرين من أعضاء رابطة الطلبة الشيوعيين الدخول إلى الكلية الحربية والتخرج فيها كضباط داخل الجيش، فشكل ذلك النواة الأولى لتنظيم الضباط الشيوعيين ولعب بابكر النور دورا كبيرا فيه فضلا عن الجهد الذي بذله في بناء تنظيم الضباط الأحرار باعتباره وعاء شاملا لتحالف الضباط الديمقراطيين والشيوعيين داخل الجيش السوداني.
جرت أول محاولة لتنظيم الضباط الأحرار للاستيلاء على السلطة في مايو 1957 وكان على رأسها عبدالرحمن كبيدة الذي قاد التحرك ،وكانت أسباب التحرك سياسية بدعوى أن الحكومة قبلت المعونة الأمريكية، وفشلت في تسويق محصول القطن والذي كان مصدرالثروة للاقتصاد السوداني، علاوة على محاولات السفير الأمريكي شراء النواب في البرلمان للتصويت لقبول المعونة الأمريكية،تسربت انباء هذآ التحرك الى مسامع القيادة العسكرية وبدورها استدعت عبدالرحمن كبيدة وحذرته من التمادي في الأمر وتحت ضغط الرأي العام اضطرت قيادة الجيش لاعتقاله مع عدد من الضباط واحالتهم الى التحقيق والمحاكمة.
لقد كانت نتائج تحركات الضباط الأحرار ذات اثر بالغ على الساحة السياسية ووجدت تعاطفا واسعا من بعض القطاعات السياسية خاصة العمال والطلاب والمهتمين بالشان السياسي لا سيما وان البلادلا زالت حديثة الاستقلال واذا بهاتعاني من الخلافات والصراعات السياسية واحزابها ضعيفة في مواجهة المخاطر التي تحيق بها، ولعب تنظيم الضباط الأحرار دورا كبيرا في دفع الجيش الى الانحياز للشعب بعد اندلاع انتفاضة 21أكتوبر 1964.
(ب)الأوضاع السياسية في السودان قبيل انقلاب 25مايو 1969:
بدا التحضير لانتفاضة أكتوبر 1964ومن ثم القضاء على الحكومة العسكرية الأول1958-1964 بتكوين الجبهة الوطنية المتحدة والتي ضمت بين ظهرانيهاالقوى السودانية في نوفمبر 1969 ،كصيغة للتحالف السياسي المرحلي العريض ،والذي تمليه ظروف الواقع السياسي المعقد، مما يتطلب معه العمل الجماعي، وبتصاعد الأزمة السياسية والاقتصادية تهيأت أسباب الثورة وتوافرت لها شروطها الضرورية، ومقوماتها الأساسية، وذلك عندما عجزت الحكومة العسكرية عن ايجاد الحلول الناجعة للازمة وتداعياتها على الشعب بكل طبقاته، مما أدى إلى تفاقمها،واصبح من العسير العيش في ظل ذلك النظام، فقاد الطلاب والعمال والمزارعين والمهنيين سلسلة من التظاهرات والاحتجاجات والاضرابات المناهضة للحكومة في فترات مختلفة وأدى تراكمها الى انفجار الشارع السوداني وانتصاره في 21أكتوبر 1964.
وشهدت الفترةبين أكتوبر 1964ومايو 1969مولد خمس حكومات مدنية اكتسبت شرعيتها بأسلوب ديمقراطي من داخل البرلمان،وبرز خلال هذه الفترة عدد من التحالفات والانقسامات الحزبية، فبعد انتصار انتفاضة أكتوبر أستمر الحزب الوطني الاتحادي بزعامة اسماعيل الازهري منفصلا عن حزب الشعب الديمقراطي والذي يتزعمه علي عبدالرحمن، كما انقسم حزب الأمة الى جناحين الأمام الهادي وجناح الصادق المهدي، فتحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الصادق المهدي واسقطا حكومة محمد أحمد محجوب، ثم تحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الأمام الهادي وسحبا الثقة من حكومة الصادق المهدي، وأخيرا اندمج الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي وكونا الحزب الاتحادي الديمقراطي في عام 1967،وتمكنت القوي التقليدية في عام 1965من حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان بعد حادثة معهد المعلمين العالي.
كان لهذه الاضطرابات والصراعات الحزبية آثارها السلبيةعلى بعض الفئات الاجتماعية فقد أدت إلى بروز الدعوة لقيام حكم عسكري صارم يضع حدا للعبث الليبرالي،وكانت هذه الدعوة تأتي من بعض اهل اليسار واليمين على السواء فهناك عناصرمن اليسار يئست من العمل المثابر وسط الجماهير واصابها القنوط من الوصول إلى السلطة عن طريق البرلمان والذي تحتكره المؤسسات التقليدية وتحكمه الولاءات القبلية والطائفية فلم تر أمامها من سبيل الى السلطة سوى عبر التدخل العسكري والقفز على المراحل غير أننا نرى أن النظام الديمقراطي هو أفضل اسلوب للحكم توصلت إليه التجربة السياسية الإنسانية حتى الآن، وتطوير هذا المنهج الديمقراطي يتم عن طريق ممارسته وتصحيح أخطائه التي ظهرت أثناء الممارسة، كما يتم برفع القدرات الاقتصادية والثقافية لأفراد المجتمع حتى يسهموا بوعي ونشاط في إثراء ذلك النهج، غير أن هناك فئات اجتماعية تريد الوصول إلى النتائج السريعة باقصر السبل لذلك ادانت التجربة البرلمانية الوليدة في السودان وبدأت تسعى وتخطط للانقلابات العسكرية باعتبارها أيسر السبل لحسم الصراع الاجتماعي وتسنم السلطة السياسية، ولم تكن المؤسسة العسكرية السودانية محصنة من ذلك الصراع إذ نفذ إليها مؤثرا فيها سلباوايجابا فأخذت فئات من الجيش تنحاز إلى محاور الصراع السياسي الدائرة في حلبة الصراع الاجتماعي وهكذا فتحت الأزمة السياسية المنافذ لتدخل الجيش في العمل السياسي وحسم الصراع الاجتماعي.
(ج) انقلاب 25 مايو1969:
جاء في تعريف الانقلاب العسكري أن القوات المسلحة للدولة تعتمد على احتكارها الفعلي لأداوات العنف وتقوم بالاستيلاء على سلطة الحكومة المدنية وهذا الاستيلاء يتم إنجازه في شكل انقلاب أي بصورة مفاجئة وغير متوقعة. وعرفه جون كنيدي الرئيس الأمريكي الأسبق والذي اغتيل في عام 1964بانه الحكومة العسكرية التي تأتي إلى السلطة بوسائل غير دستورية وغير شرعية، والانقلابات العسكرية أنواع منها الانقلابات ذات الطابع التقدمي، والانقلابات الرجعية، وتستند الانقلابات العسكرية في تبريرها للاستيلاء على الحكم في تدهور الانظمة السياسية وعجزها وفسادها.
في عام 1964دخلت البلاد فيما يعرف في الأدب السياسي السوداني فترة الديقراطية الثانية، فاندفعت الأحزاب السياسية خوض هذه المرحلة برصيد ضئيل من التجربة والوعي السياسي أضف الى ذلك عدم وجود برامج وخطط تنموية واضحة علاوة على الخلافات التاريخية بين الأحزاب، كل ذلك انعكس سلبا على الحياة السياسية السودانية ففشلت الحكومات المدنية المتعاقبة في وضع دستور دائم للبلاد بسبب عجزها في حل قضايا اساسية ظل يعاني منها السودان مثل قضية الجنوب وعدم الاتفاق على معين للحكم برلمانيا ام رئاسيا؟وعدم قبول قرارالمحكمة الدستورية ببطلان حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان فاصاب هذا الأمر الديمقراطية في مقتل.
وعلى الصعيد الخارجي فقد وقع انقلاب 25مايو في السودان في وقت اصيبت فيه القارة الأفريقية بنكسة التعددية والتي لم تستطع القارة الأفريقية التفاعل معها وتطويرها وذلك بسبب اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، فقد وقعت في الفترة ما بين 1965-1968تسعة انقلابات عسكرية في أفريقيا، والزحف الاشتراكي كان سيد المرحلة في بلدان العالم الثالث ويجد السند والدعم من الإتحاد السوفيتي، كما أن التجربة الناصرية ذاع صيتها لأن زعيمها جمال عبدالناصر واجه الاستعمار الامبريالي فاصبح رمزا يحتذى به.
وفي صبيحة 25مايو 1969استولى الجيش على السلطة منهيا حقبة الديمقراطية الثانية1964-1969،
ولمعرفة طبيعة الانقلاب ووجهته كانت البيانات الثلاثة الأولى كافيةلذلك حيث صبت جام غضبها على الرجعية والطائفية والحزبية، وأعلنت عزمها قيادة السودان على طريق تقدمي ياخذه إلى رحاب الاشتراكية، وتوالى إصدار الأوامر الجمهورية من مجلس قيادة الثورة المكون من تسعة ضباط وتراسه جعفر محمد نميري، وأعلنت تلك الأوامر أن السودان جمهورية ديمقراطية السيادة فيها للشعب وتم حل كافة الهيئات السيادية(مجلس السيادة ومجلس الوزراء والبرلمان )واوقف العمل بالدستور وحلت الأحزاب وصودرت ممتلكاتها واعلن عن تشكيل مجلس للوزراء من 21وزيرامن اليسار السوداني العريض وتراس ذلك المجلس بابكر عوض الله والذي اصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة بوصفه رئيسا للوزراء.
(د) الخلافات بين الشيوعيين وضباط انقلاب مايو:
بعد سيطرة اليسار السوداني على السلطة في السودان، نشطت المنظمات اليسارية في تعبئة الشارع للخروج في موكب تأييد للنظام الجديد فخرجت الجماهير يوم 1969/6/2في موكب ضخم، صحيح ان الذين خرجوا يومها لم يكونوا كلهم شيوعيين واشتراكيين و قوميين عرب ولكن هذه الجموع التي خرجت كانت تمثل عموم اهل السودان جاءوا ليعبروا عن عجز الطائفيةو الحزبية التي حولت سنوات الديمقراطية لسنوات من الصراع والتناحرللدرجة التي صارت فيها الديمقراطية في اذهان الناس سمة للعجز السياسي واصبحت الحرية صنوا للفوضى، لقد شكل ذلك الموكب لضباط مايوشرعية شعبية وامد حركتهم بالثقة.
ولكن بدأت بوادر الخلاف تظهر داخل مجلس قيادة الثورة خاصة بعد حل تنظيم الضباط الأحرار وتكوين تنظيم احرار مايو فصار رئيس مجلس قيادة الثورة لا يتعامل بجديةمع مباديء واهداف الثورة المتفق عليها وأنه بدأ في إتخاذ قرارات تتناقض مع برنامج الحركة المعلن، وهنا تحرك ثلاثة ضباط من أعضاء مجلس قيادة الثورة للتصدي لرئيس المجلس وهم هاشم العطا وفاروق عثمان حمدلله وبابكر النور واستطاعوا بالفعل التاثير على أعضاء المجلس بوجوب صدور القرارات بالاغلبية والاسراع في تنفيذ الشعارات المطروحة، وبالفعل بسط الاعضاء الثلاثة نفوذهم داخل مجلس قيادة الثورة فشهدت الفترة تطبيق عدد من الأهداف مثل الاعلان عن منح الجنوب الحكم الإقليمي الذاتي، وتصفية الإدارة الاهلية والاعلان عن قوانين الإصلاح الزراعي.
وفي مارس 1970 قام جعفر نميري بزيارة الى منطقة النيل الأبيض، وكان الأمام الهادي المهدي زعيم الأنصار مقيما في الجزيرة أبا، فأرسل الى نميري مندوبا منه ليبلغه ان زيارته للمنطقة مرفوضة وغير مرحبا بها، فعقد نميري اجتماعا عاجلا لمجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء قرر فيه ضرب الجزيرة أبا بالطيران الحربي، وهنا عارضه الاعضاء الثلاثة داخل المجلس على الأقدام على هذه الخطوة في ذلك الوقت بانها ستجلب عليهم عداوة الأنصار والدخول معهم في حرب مبكرة، ولكن لم يؤخذ باعتراضهم ووقعت مذبحة الجزيرة أبا والتي انتهت بقتل وإصابة مالايقل عن الفين فيما تمكن الأمام الهادي أن يخرج من الجزيرة أبا لتلاحقه قوات الحكومة عند حدود السودان مع إثيوبيا ويلقى حتفه هناك. وبعد انتهاء مذبحة الجزيرة أبا عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اجتماعا طارئا نددت فيه بالمذبحة فامر جعفر نميري زعيم الحزب الشيوعي عبدالخالق محجوب ونفيه الى مصر .
وبعد مرور عام على الانقلاب أراد قادته تقديم ما يشفع لهم امام الشعب السوداني فجاءت قرارات التاميم والمصادرة في احتفالات عيد الثورة الأول وهي تاميم البنوك والشركات ومصادرة أموال التجار، وبعد مرور يوم واحد من هذه القرارات أصدر الحزب الشيوعي بيانا رفض فيه فكرة التاميم باعتباران 48%من الدخل القومي اساسه القطاع الخاص ،وأدى هذا الى تفاقم الخلاف بين نميري والحزب الشيوعي، فاخذ النميري يعمل على تأمين موقفه داخل الجيش واقناع أعضاء مجلس قيادة الثورة بأن الاعضاء الثلاثة ومن خلفهم الحزب الشيوعي السوداني يخططون للاطاحة بهم وتصفيتهم،واصدر نميري في 16نوفمبر 1970قرارا قضى بعزل الاعضاء الثلاثة هاشم العطا وفاروق حمدلله وبابكر النور من مجلس قيادة الثورة ومن كافة مناصبهم ووصفهم بأنهم عملاء للحزب الشيوعي.
(ه)انقلاب 19يوليو 1971:
منذ نوفمبر 1970وصل الخلاف بين ضباط مايو والحزب الشيوعي الى ذروته، فدار حوار بين بعض قيادات الحزب والتنظيم العسكري في الجيش أشار فيه المتحدث باسم العسكريين الى أهمية تحديد دورهم في عملية تصحيح مسار ثورة مايوواستكمال مهامها الوطنية والديمقراطية وتحويلها الى حركة شعبية، وجاء في ادبيات الحزب الشيوعي السوداني أن البلاد قد دخلت في نفق مظلم لا مخرج منه سوى قيادة وطنية تترجم ارادة التغيير وتعبر عن تطلعات الجماهير مع التأكيد على رفض أي مغامرة عسكرية والتمسك بموقف الحزب الرافض للانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير وان وسيلة التغيير هي الثورة التى تصنعها الجماهير الواعية مستندة على الشعب .
ونتيجة لحدة الخلافات بين حكومة مايو والحزب الشيوعي قاد هاشم العطا انقلابا عسكريا ظهر يوم 19يوليو 1971 ،اطاح فيه بحكومة جعفر نميري واعلن عن تكوين مجلس جديد لقيادة الثورة برئاسة بابكر النور وهاشم العطا نائبا له وعضوية خمسة ضباط آخرين، وأصدر المجلس أوامر بالغاء وحل الإتحاد الاشتراكي السوداني، وجهاز الأمن القومي والحرس الوطني وأسس الأمر الجمهوري لسلطة الجبهة الوطنية الديقراطية لتحل محل الإتحاد الاشتراكي.
ومما لا شك فيه ان الخطة التي نفذ بهاانقلاب19يوليو كانت في غاية الدقة والأحكام ونفذت بطريقة اذهلت الجميع وذلك بسبب مفاجاته وسرعته واتقانه فقد استولى قوات يوليو على المواقع العسكرية الأساسية ونفذت اعتقالات طالت رئيس واعضاء مجلس قيادة الثورة في زمن قياسي لم يتجاوز ساعة من الزمن، فلم يكن الاستيلاء على المواقع العسكرية المحددة حسب الخطة صعبا فتم كل شيء بهدوء ودون اراقة دماءوكانت مهمة الاستيلاء على القيادة من أصعب المهام الا أن أحكام الخطة وجراة وشجاعة القوات المنفذة كان لها اثرها في السيطرة السريعة على كل المواقع داخل القيادة العامة.
هنالك أخطاء عسكرية وسياسية صاحبت انقلاب 19يوليو وادت الى فشله ففي وثيقة تقييم 19يوليو الصادرة من الحزب الشيوعي أن المكتب السياسي طرح على العسكريين الذين نفذوا الانقلاب عددا من القضايا وطلب رأيهم حولها قبل التحرك مثل أن اي برنامج للتصحيح يجب أن يكون برنامجا للإصلاح الشامل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وإلى اي مدى يمكن أن يكون هناك تدخلا من دول الميثاق الثلاثي(ميثاق طرابلس )وإمكانية التدخل الأجنبي عن طريق إثيوبيا، وضرورة الإجابة عن الوضع داخل الجيش في المدرعات والحرس الوطني والقوات الخاصة والبوليس غير أن العسكريين رأوا أن الحركة التصحيحية كانت لإعادة مايو الى البرنامج الديمقراطي الذي طرحته في البداية والذي بنى عليه الحزب موقفه الداعم لها وان الخطوة كانت مفصلية وذات أهمية تستوجب اتخاذ قرار محدد عن كيفية التحرك شكله وتوقيته ولو تعلق الأمر بثورة لكانت الوجهة الى الجماهير ومنظماتها لكن يوليو كانت تصحيحا لوضع قائم اصلا وسلطة عسكرية أعلن الحزب تاييدها.
وبعد قرارات 16نوفمبر 1970شن نظام نميري حملة شعواءعلى الحزب الشيوعي والشيوعيين فاصدر النظام بيانا دعا فيه تحطيم الحزب الشيوعي، واتخذ سلسلة من الخطوات العملية مثل حل الإتحاد النسائي السوداني واتحاد الشباب واحالة عدد من
الضباط ال التقاعد واعتقال مجموعة من كوادر الحزب،فكان رد فعل الحزب الشيوعي على هذه الإجراءات اصداربيان اشارفيه أن السلطة لا تقوى على تحطيم الحزب وان فعلت فستضع نفسها في موقع الخطر. لقد دفعت هذه الخطوات ضباط يوليو لتنفيذ الانقلاب بمبادرة ذاتية منهم وذلك عندما انسد أفق العمل الجماهيري.
وفي تقديرنا أن 19يوليو انقلاب عسكري نظمته مجموعة وطنية من الضباط وضباط الصف والجنود داخل الجيش وان فشله لا ينفي جوهره الثوري وان موقف العسكريين من أعضاء الحزب الشيوعي ودعوتهم للانقلاب ومن ثم اخطارقيادتهم ولكن لم يتخذ المكتب السياسي للحزب قرارا قاطعا بقبول فكرة الانقلاب أو رفضها بل اخضعها للمناقشة والتقديرولمزيد من المشاورات مع العسكريين في وقت لا يحتمل فيه الأمر التأخير.
كان لهزيمة انقلاب 19يوليو أسباب متعددة منها السياسي والتنظيمي والعسكري، ومنها أسباب تتعلق بالظروف المحلية والإقليمية والدولية، فقد كان السودان وقتها يمر بمرحلة غاية في الخطورة ونظام مايوقد احكم قبضته وعزز من علاقاته الخارجية فقام القذافي بدوركبير بالقرصنة الجوية التي انتهت بالقاء القبض على بابكر النور وفاروق حمدلله وتسليمهم لنميري الذي قام بتنفيذ الإعدام فيهما كما لايخفى عنا دور مصر والسعودية في التاليب على قادة الانقلاب.
تمكن جعفر نميري من العودة إلى السلطة في يوم 22يوليو وقام بحملة اعدامات طالت قيادات في الحزب الشيوعي ابرزهم سكرتيره العام عبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ رئيس إتحاد نقابات عمال السودان وجوزيف قرنق عضو اللجنة المركزية، بالإضافة إلى الضباط الذين نفذوا الانقلاب كما راح ضحية لتلك الأحداث عددا من ضباط وأفراد ا19يوليو 1971
(دراسة في تاريخ السياسة السودانية )
إعداد: ا.د عادل علي وداعه
(ا) تكوين تنظيم الضباط الأحرار:
ساهمت ثورة 23يوليو 1952في مصر بتاثير ها المعنوي في شحذ افكار عامة اجتاحت المنطقة الأفريقية والعربية، فقام عدد من الضباط السودانيين بتكوين تنظيم سري يحمل مباديء تحررية وثورية ويهدف الى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي وقيام نظام سياسي جديد يحل محل الصراع السياسي الديمقراطي. تعود الجذور التاريخية لنشاة وقيام تنظيم الضباط الأحرار في السودان إلى أواخر عام 1952فقد أشارت الدراسات التاريخية التي تحدثت عن مولد التنظيم الى أن الغرض والأهداف منه كانت سياسية بحتة،وكان هناك تنسيقا وان كان خفيا بين التنظيم وبين عدة جهات وتنظيمات سياسية وعسكرية مصرية وكان لذلك التنسيق أشكال مختلفة ومتنوعة منها المساهمة في بناء التنظيم والعمل السياسي، وتأمين قادته، والمساعدة اللوجستية من الجيش المصري للجيش السوداني.
في عام 1954اشارت بعض الصحف السياسية الى وجود تنظيم سياسي في الجيش السوداني شبيه بالتنظيم الذي قاد ثورة 23 يوليو في مصر والمحت تلك الصحف الى دور محتمل للتنظيم في الحياة السياسية بل ان بعض الصحف ربطت بينه وبين التيارات السياسية الاستقلالية والاتحادية، وقد نفى وزير الدفاع السوداني وقتها خلف الله خالد تلك المعلومات وقال:ليس هناك أي عمل سياسي داخل الجيش.
ويدل اسم تنظيم الضباط الأحرار الى أن الضباط احرار في اهدافهم الوطنية والاجتماعية وأنهم احرار كذلك في الإنتماء الى أي هيئة أو جمعية أو تنظيم معروف، وكان لنجاح التجربة المصرية وما حققته من انجازات ثورية أثره الكبير في سرعة انتقال مفهوم وأسلوب العمل السياسي داخل الجيوش الأفريقية والعربية، فقد ذكر محمد محجوب عثمان في مؤلفه الجيش والسياسة في السودان أن ولوج اليسار للعمل في داخل الجيش يرجع الى ما قبل ان ينال السودان استقلاله السياسي وتحديدا في عام 1954وما صحبه من زخم سياسي وانفتاح ديمقراطي اتاح الفرصة لعناصر من الحركة الطلابية الدخول إلى المؤسسة العسكرية رغم القيود الثقيلة لقوانين الادارة البريطانية ففي تلك الظروف تفتحت الفرص امام مجموعات من الطلاب ذوي الميول الديمقراطية وآخرين من أعضاء رابطة الطلبة الشيوعيين الدخول إلى الكلية الحربية والتخرج فيها كضباط داخل الجيش، فشكل ذلك النواة الأولى لتنظيم الضباط الشيوعيين ولعب بابكر النور دورا كبيرا فيه فضلا عن الجهد الذي بذله في بناء تنظيم الضباط الأحرار باعتباره وعاء شاملا لتحالف الضباط الديمقراطيين والشيوعيين داخل الجيش السوداني.
جرت أول محاولة لتنظيم الضباط الأحرار للاستيلاء على السلطة في مايو 1957 وكان على رأسها عبدالرحمن كبيدة الذي قاد التحرك ،وكانت أسباب التحرك سياسية بدعوى أن الحكومة قبلت المعونة الأمريكية، وفشلت في تسويق محصول القطن والذي كان مصدرالثروة للاقتصاد السوداني، علاوة على محاولات السفير الأمريكي شراء النواب في البرلمان للتصويت لقبول المعونة الأمريكية،تسربت انباء هذآ التحرك الى مسامع القيادة العسكرية وبدورها استدعت عبدالرحمن كبيدة وحذرته من التمادي في الأمر وتحت ضغط الرأي العام اضطرت قيادة الجيش لاعتقاله مع عدد من الضباط واحالتهم الى التحقيق والمحاكمة.
لقد كانت نتائج تحركات الضباط الأحرار ذات اثر بالغ على الساحة السياسية ووجدت تعاطفا واسعا من بعض القطاعات السياسية خاصة العمال والطلاب والمهتمين بالشان السياسي لا سيما وان البلادلا زالت حديثة الاستقلال واذا بهاتعاني من الخلافات والصراعات السياسية واحزابها ضعيفة في مواجهة المخاطر التي تحيق بها، ولعب تنظيم الضباط الأحرار دورا كبيرا في دفع الجيش الى الانحياز للشعب بعد اندلاع انتفاضة 21أكتوبر 1964.
(ب)الأوضاع السياسية في السودان قبيل انقلاب 25مايو 1969:
بدا التحضير لانتفاضة أكتوبر 1964ومن ثم القضاء على الحكومة العسكرية الأول1958-1964 بتكوين الجبهة الوطنية المتحدة والتي ضمت بين ظهرانيهاالقوى السودانية في نوفمبر 1969 ،كصيغة للتحالف السياسي المرحلي العريض ،والذي تمليه ظروف الواقع السياسي المعقد، مما يتطلب معه العمل الجماعي، وبتصاعد الأزمة السياسية والاقتصادية تهيأت أسباب الثورة وتوافرت لها شروطها الضرورية، ومقوماتها الأساسية، وذلك عندما عجزت الحكومة العسكرية عن ايجاد الحلول الناجعة للازمة وتداعياتها على الشعب بكل طبقاته، مما أدى إلى تفاقمها،واصبح من العسير العيش في ظل ذلك النظام، فقاد الطلاب والعمال والمزارعين والمهنيين سلسلة من التظاهرات والاحتجاجات والاضرابات المناهضة للحكومة في فترات مختلفة وأدى تراكمها الى انفجار الشارع السوداني وانتصاره في 21أكتوبر 1964.
وشهدت الفترةبين أكتوبر 1964ومايو 1969مولد خمس حكومات مدنية اكتسبت شرعيتها بأسلوب ديمقراطي من داخل البرلمان،وبرز خلال هذه الفترة عدد من التحالفات والانقسامات الحزبية، فبعد انتصار انتفاضة أكتوبر أستمر الحزب الوطني الاتحادي بزعامة اسماعيل الازهري منفصلا عن حزب الشعب الديمقراطي والذي يتزعمه علي عبدالرحمن، كما انقسم حزب الأمة الى جناحين الأمام الهادي وجناح الصادق المهدي، فتحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الصادق المهدي واسقطا حكومة محمد أحمد محجوب، ثم تحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الأمام الهادي وسحبا الثقة من حكومة الصادق المهدي، وأخيرا اندمج الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي وكونا الحزب الاتحادي الديمقراطي في عام 1967،وتمكنت القوي التقليدية في عام 1965من حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان بعد حادثة معهد المعلمين العالي.
كان لهذه الاضطرابات والصراعات الحزبية آثارها السلبيةعلى بعض الفئات الاجتماعية فقد أدت إلى بروز الدعوة لقيام حكم عسكري صارم يضع حدا للعبث الليبرالي،وكانت هذه الدعوة تأتي من بعض اهل اليسار واليمين على السواء فهناك عناصرمن اليسار يئست من العمل المثابر وسط الجماهير واصابها القنوط من الوصول إلى السلطة عن طريق البرلمان والذي تحتكره المؤسسات التقليدية وتحكمه الولاءات القبلية والطائفية فلم تر أمامها من سبيل الى السلطة سوى عبر التدخل العسكري والقفز على المراحل غير أننا نرى أن النظام الديمقراطي هو أفضل اسلوب للحكم توصلت إليه التجربة السياسية الإنسانية حتى الآن، وتطوير هذا المنهج الديمقراطي يتم عن طريق ممارسته وتصحيح أخطائه التي ظهرت أثناء الممارسة، كما يتم برفع القدرات الاقتصادية والثقافية لأفراد المجتمع حتى يسهموا بوعي ونشاط في إثراء ذلك النهج، غير أن هناك فئات اجتماعية تريد الوصول إلى النتائج السريعة باقصر السبل لذلك ادانت التجربة البرلمانية الوليدة في السودان وبدأت تسعى وتخطط للانقلابات العسكرية باعتبارها أيسر السبل لحسم الصراع الاجتماعي وتسنم السلطة السياسية، ولم تكن المؤسسة العسكرية السودانية محصنة من ذلك الصراع إذ نفذ إليها مؤثرا فيها سلباوايجابا فأخذت فئات من الجيش تنحاز إلى محاور الصراع السياسي الدائرة في حلبة الصراع الاجتماعي وهكذا فتحت الأزمة السياسية المنافذ لتدخل الجيش في العمل السياسي وحسم الصراع الاجتماعي.
(ج) انقلاب 25 مايو1969:
جاء في تعريف الانقلاب العسكري أن القوات المسلحة للدولة تعتمد على احتكارها الفعلي لأداوات العنف وتقوم بالاستيلاء على سلطة الحكومة المدنية وهذا الاستيلاء يتم إنجازه في شكل انقلاب أي بصورة مفاجئة وغير متوقعة. وعرفه جون كنيدي الرئيس الأمريكي الأسبق والذي اغتيل في عام 1964بانه الحكومة العسكرية التي تأتي إلى السلطة بوسائل غير دستورية وغير شرعية، والانقلابات العسكرية أنواع منها الانقلابات ذات الطابع التقدمي، والانقلابات الرجعية، وتستند الانقلابات العسكرية في تبريرها للاستيلاء على الحكم في تدهور الانظمة السياسية وعجزها وفسادها.
في عام 1964دخلت البلاد فيما يعرف في الأدب السياسي السوداني فترة الديقراطية الثانية، فاندفعت الأحزاب السياسية خوض هذه المرحلة برصيد ضئيل من التجربة والوعي السياسي أضف الى ذلك عدم وجود برامج وخطط تنموية واضحة علاوة على الخلافات التاريخية بين الأحزاب، كل ذلك انعكس سلبا على الحياة السياسية السودانية ففشلت الحكومات المدنية المتعاقبة في وضع دستور دائم للبلاد بسبب عجزها في حل قضايا اساسية ظل يعاني منها السودان مثل قضية الجنوب وعدم الاتفاق على معين للحكم برلمانيا ام رئاسيا؟وعدم قبول قرارالمحكمة الدستورية ببطلان حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان فاصاب هذا الأمر الديمقراطية في مقتل.
وعلى الصعيد الخارجي فقد وقع انقلاب 25مايو في السودان في وقت اصيبت فيه القارة الأفريقية بنكسة التعددية والتي لم تستطع القارة الأفريقية التفاعل معها وتطويرها وذلك بسبب اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، فقد وقعت في الفترة ما بين 1965-1968تسعة انقلابات عسكرية في أفريقيا، والزحف الاشتراكي كان سيد المرحلة في بلدان العالم الثالث ويجد السند والدعم من الإتحاد السوفيتي، كما أن التجربة الناصرية ذاع صيتها لأن زعيمها جمال عبدالناصر واجه الاستعمار الامبريالي فاصبح رمزا يحتذى به.
وفي صبيحة 25مايو 1969استولى الجيش على السلطة منهيا حقبة الديمقراطية الثانية1964-1969،
ولمعرفة طبيعة الانقلاب ووجهته كانت البيانات الثلاثة الأولى كافيةلذلك حيث صبت جام غضبها على الرجعية والطائفية والحزبية، وأعلنت عزمها قيادة السودان على طريق تقدمي ياخذه إلى رحاب الاشتراكية، وتوالى إصدار الأوامر الجمهورية من مجلس قيادة الثورة المكون من تسعة ضباط وتراسه جعفر محمد نميري، وأعلنت تلك الأوامر أن السودان جمهورية ديمقراطية السيادة فيها للشعب وتم حل كافة الهيئات السيادية(مجلس السيادة ومجلس الوزراء والبرلمان )واوقف العمل بالدستور وحلت الأحزاب وصودرت ممتلكاتها واعلن عن تشكيل مجلس للوزراء من 21وزيرامن اليسار السوداني العريض وتراس ذلك المجلس بابكر عوض الله والذي اصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة بوصفه رئيسا للوزراء.
(د) الخلافات بين الشيوعيين وضباط انقلاب مايو:
بعد سيطرة اليسار السوداني على السلطة في السودان، نشطت المنظمات اليسارية في تعبئة الشارع للخروج في موكب تأييد للنظام الجديد فخرجت الجماهير يوم 1969/6/2في موكب ضخم، صحيح ان الذين خرجوا يومها لم يكونوا كلهم شيوعيين واشتراكيين و قوميين عرب ولكن هذه الجموع التي خرجت كانت تمثل عموم اهل السودان جاءوا ليعبروا عن عجز الطائفيةو الحزبية التي حولت سنوات الديمقراطية لسنوات من الصراع والتناحرللدرجة التي صارت فيها الديمقراطية في اذهان الناس سمة للعجز السياسي واصبحت الحرية صنوا للفوضى، لقد شكل ذلك الموكب لضباط مايوشرعية شعبية وامد حركتهم بالثقة.
ولكن بدأت بوادر الخلاف تظهر داخل مجلس قيادة الثورة خاصة بعد حل تنظيم الضباط الأحرار وتكوين تنظيم احرار مايو فصار رئيس مجلس قيادة الثورة لا يتعامل بجديةمع مباديء واهداف الثورة المتفق عليها وأنه بدأ في إتخاذ قرارات تتناقض مع برنامج الحركة المعلن، وهنا تحرك ثلاثة ضباط من أعضاء مجلس قيادة الثورة للتصدي لرئيس المجلس وهم هاشم العطا وفاروق عثمان حمدلله وبابكر النور واستطاعوا بالفعل التاثير على أعضاء المجلس بوجوب صدور القرارات بالاغلبية والاسراع في تنفيذ الشعارات المطروحة، وبالفعل بسط الاعضاء الثلاثة نفوذهم داخل مجلس قيادة الثورة فشهدت الفترة تطبيق عدد من الأهداف مثل الاعلان عن منح الجنوب الحكم الإقليمي الذاتي، وتصفية الإدارة الاهلية والاعلان عن قوانين الإصلاح الزراعي.
وفي مارس 1970 قام جعفر نميري بزيارة الى منطقة النيل الأبيض، وكان الأمام الهادي المهدي زعيم الأنصار مقيما في الجزيرة أبا، فأرسل الى نميري مندوبا منه ليبلغه ان زيارته للمنطقة مرفوضة وغير مرحبا بها، فعقد نميري اجتماعا عاجلا لمجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء قرر فيه ضرب الجزيرة أبا بالطيران الحربي، وهنا عارضه الاعضاء الثلاثة داخل المجلس على الأقدام على هذه الخطوة في ذلك الوقت بانها ستجلب عليهم عداوة الأنصار والدخول معهم في حرب مبكرة، ولكن لم يؤخذ باعتراضهم ووقعت مذبحة الجزيرة أبا والتي انتهت بقتل وإصابة مالايقل عن الفين فيما تمكن الأمام الهادي أن يخرج من الجزيرة أبا لتلاحقه قوات الحكومة عند حدود السودان مع إثيوبيا ويلقى حتفه هناك. وبعد انتهاء مذبحة الجزيرة أبا عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اجتماعا طارئا نددت فيه بالمذبحة فامر جعفر نميري زعيم الحزب الشيوعي عبدالخالق محجوب ونفيه الى مصر .
وبعد مرور عام على الانقلاب أراد قادته تقديم ما يشفع لهم امام الشعب السوداني فجاءت قرارات التاميم والمصادرة في احتفالات عيد الثورة الأول وهي تاميم البنوك والشركات ومصادرة أموال التجار، وبعد مرور يوم واحد من هذه القرارات أصدر الحزب الشيوعي بيانا رفض فيه فكرة التاميم باعتباران 48%من الدخل القومي اساسه القطاع الخاص ،وأدى هذا الى تفاقم الخلاف بين نميري والحزب الشيوعي، فاخذ النميري يعمل على تأمين موقفه داخل الجيش واقناع أعضاء مجلس قيادة الثورة بأن الاعضاء الثلاثة ومن خلفهم الحزب الشيوعي السوداني يخططون للاطاحة بهم وتصفيتهم،واصدر نميري في 16نوفمبر 1970قرارا قضى بعزل الاعضاء الثلاثة هاشم العطا وفاروق حمدلله وبابكر النور من مجلس قيادة الثورة ومن كافة مناصبهم ووصفهم بأنهم عملاء للحزب الشيوعي.
(ه)انقلاب 19يوليو 1971:
منذ نوفمبر 1970وصل الخلاف بين ضباط مايو والحزب الشيوعي الى ذروته، فدار حوار بين بعض قيادات الحزب والتنظيم العسكري في الجيش أشار فيه المتحدث باسم العسكريين الى أهمية تحديد دورهم في عملية تصحيح مسار ثورة مايوواستكمال مهامها الوطنية والديمقراطية وتحويلها الى حركة شعبية، وجاء في ادبيات الحزب الشيوعي السوداني أن البلاد قد دخلت في نفق مظلم لا مخرج منه سوى قيادة وطنية تترجم ارادة التغيير وتعبر عن تطلعات الجماهير مع التأكيد على رفض أي مغامرة عسكرية والتمسك بموقف الحزب الرافض للانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير وان وسيلة التغيير هي الثورة التى تصنعها الجماهير الواعية مستندة على الشعب .
ونتيجة لحدة الخلافات بين حكومة مايو والحزب الشيوعي قاد هاشم العطا انقلابا عسكريا ظهر يوم 19يوليو 1971 ،اطاح فيه بحكومة جعفر نميري واعلن عن تكوين مجلس جديد لقيادة الثورة برئاسة بابكر النور وهاشم العطا نائبا له وعضوية خمسة ضباط آخرين، وأصدر المجلس أوامر بالغاء وحل الإتحاد الاشتراكي السوداني، وجهاز الأمن القومي والحرس الوطني وأسس الأمر الجمهوري لسلطة الجبهة الوطنية الديقراطية لتحل محل الإتحاد الاشتراكي.
ومما لا شك فيه ان الخطة التي نفذ بهاانقلاب19يوليو كانت في غاية الدقة والأحكام ونفذت بطريقة اذهلت الجميع وذلك بسبب مفاجاته وسرعته واتقانه فقد استولى قوات يوليو على المواقع العسكرية الأساسية ونفذت اعتقالات طالت رئيس واعضاء مجلس قيادة الثورة في زمن قياسي لم يتجاوز ساعة من الزمن، فلم يكن الاستيلاء على المواقع العسكرية المحددة حسب الخطة صعبا فتم كل شيء بهدوء ودون اراقة دماءوكانت مهمة الاستيلاء على القيادة من أصعب المهام الا أن أحكام الخطة وجراة وشجاعة القوات المنفذة كان لها اثرها في السيطرة السريعة على كل المواقع داخل القيادة العامة.
هنالك أخطاء عسكرية وسياسية صاحبت انقلاب 19يوليو وادت الى فشله ففي وثيقة تقييم 19يوليو الصادرة من الحزب الشيوعي أن المكتب السياسي طرح على العسكريين الذين نفذوا الانقلاب عددا من القضايا وطلب رأيهم حولها قبل التحرك مثل أن اي برنامج للتصحيح يجب أن يكون برنامجا للإصلاح الشامل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وإلى اي مدى يمكن أن يكون هناك تدخلا من دول الميثاق الثلاثي(ميثاق طرابلس )وإمكانية التدخل الأجنبي عن طريق إثيوبيا، وضرورة الإجابة عن الوضع داخل الجيش في المدرعات والحرس الوطني والقوات الخاصة والبوليس غير أن العسكريين رأوا أن الحركة التصحيحية كانت لإعادة مايو الى البرنامج الديمقراطي الذي طرحته في البداية والذي بنى عليه الحزب موقفه الداعم لها وان الخطوة كانت مفصلية وذات أهمية تستوجب اتخاذ قرار محدد عن كيفية التحرك شكله وتوقيته ولو تعلق الأمر بثورة لكانت الوجهة الى الجماهير ومنظماتها لكن يوليو كانت تصحيحا لوضع قائم اصلا وسلطة عسكرية أعلن الحزب تاييدها.
وبعد قرارات 16نوفمبر 1970شن نظام نميري حملة شعواءعلى الحزب الشيوعي والشيوعيين فاصدر النظام بيانا دعا فيه تحطيم الحزب الشيوعي، واتخذ سلسلة من الخطوات العملية مثل حل الإتحاد النسائي السوداني واتحاد الشباب واحالة عدد من
الضباط ال التقاعد واعتقال مجموعة من كوادر الحزب،فكان رد فعل الحزب الشيوعي على هذه الإجراءات اصداربيان اشارفيه أن السلطة لا تقوى على تحطيم الحزب وان فعلت فستضع نفسها في موقع الخطر. لقد دفعت هذه الخطوات ضباط يوليو لتنفيذ الانقلاب بمبادرة ذاتية منهم وذلك عندما انسد أفق العمل الجماهيري.
وفي تقديرنا أن 19يوليو انقلاب عسكري نظمته مجموعة وطنية من الضباط وضباط الصف والجنود داخل الجيش وان فشله لا ينفي جوهره الثوري وان موقف العسكريين من أعضاء الحزب الشيوعي ودعوتهم للانقلاب ومن ثم اخطارقيادتهم ولكن لم يتخذ المكتب السياسي للحزب قرارا قاطعا بقبول فكرة الانقلاب أو رفضها بل اخضعها للمناقشة والتقديرولمزيد من المشاورات مع العسكريين في وقت لا يحتمل فيه الأمر التأخير.
كان لهزيمة انقلاب 19يوليو أسباب متعددة منها السياسي والتنظيمي والعسكري، ومنها أسباب تتعلق بالظروف المحلية والإقليمية والدولية، فقد كان السودان وقتها يمر بمرحلة غاية في الخطورة ونظام مايوقد احكم قبضته وعزز من علاقاته الخارجية فقام القذافي بدوركبير بالقرصنة الجوية التي انتهت بالقاء القبض على بابكر النور وفاروق حمدلله وتسليمهم لنميري الذي قام بتنفيذ الإعدام فيهما كما لايخفى عنا دور مصر والسعودية في التاليب على قادة الانقلاب.
تمكن جعفر نميري من العودة إلى السلطة في يوم 22يوليو وقام بحملة اعدامات طالت قيادات في الحزب الشيوعي ابرزهم سكرتيره العام عبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ رئيس إتحاد نقابات عمال السودان وجوزيف قرنق عضو اللجنة المركزية، بالإضافة إلى الضباط الذين نفذوا الانقلاب كما راح ضحية لتلك الأحداث عددا من ضباط وأفراد القوات المسلحة وفقا للإحصا ئيات الرسمية الصادرة من وزارة الدفاع أن عدد الضحايا بلغ اكثر من 45 فقيدا.19يوليو 1971
(دراسة في تاريخ السياسة السودانية )
إعداد: ا.د عادل علي وداعه
(ا) تكوين تنظيم الضباط الأحرار:
ساهمت ثورة 23يوليو 1952في مصر بتاثير ها المعنوي في شحذ افكار عامة اجتاحت المنطقة الأفريقية والعربية، فقام عدد من الضباط السودانيين بتكوين تنظيم سري يحمل مباديء تحررية وثورية ويهدف الى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي وقيام نظام سياسي جديد يحل محل الصراع السياسي الديمقراطي. تعود الجذور التاريخية لنشاة وقيام تنظيم الضباط الأحرار في السودان إلى أواخر عام 1952فقد أشارت الدراسات التاريخية التي تحدثت عن مولد التنظيم الى أن الغرض والأهداف منه كانت سياسية بحتة،وكان هناك تنسيقا وان كان خفيا بين التنظيم وبين عدة جهات وتنظيمات سياسية وعسكرية مصرية وكان لذلك التنسيق أشكال مختلفة ومتنوعة منها المساهمة في بناء التنظيم والعمل السياسي، وتأمين قادته، والمساعدة اللوجستية من الجيش المصري للجيش السوداني.
في عام 1954اشارت بعض الصحف السياسية الى وجود تنظيم سياسي في الجيش السوداني شبيه بالتنظيم الذي قاد ثورة 23 يوليو في مصر والمحت تلك الصحف الى دور محتمل للتنظيم في الحياة السياسية بل ان بعض الصحف ربطت بينه وبين التيارات السياسية الاستقلالية والاتحادية، وقد نفى وزير الدفاع السوداني وقتها خلف الله خالد تلك المعلومات وقال:ليس هناك أي عمل سياسي داخل الجيش.
ويدل اسم تنظيم الضباط الأحرار الى أن الضباط احرار في اهدافهم الوطنية والاجتماعية وأنهم احرار كذلك في الإنتماء الى أي هيئة أو جمعية أو تنظيم معروف، وكان لنجاح التجربة المصرية وما حققته من انجازات ثورية أثره الكبير في سرعة انتقال مفهوم وأسلوب العمل السياسي داخل الجيوش الأفريقية والعربية، فقد ذكر محمد محجوب عثمان في مؤلفه الجيش والسياسة في السودان أن ولوج اليسار للعمل في داخل الجيش يرجع الى ما قبل ان ينال السودان استقلاله السياسي وتحديدا في عام 1954وما صحبه من زخم سياسي وانفتاح ديمقراطي اتاح الفرصة لعناصر من الحركة الطلابية الدخول إلى المؤسسة العسكرية رغم القيود الثقيلة لقوانين الادارة البريطانية ففي تلك الظروف تفتحت الفرص امام مجموعات من الطلاب ذوي الميول الديمقراطية وآخرين من أعضاء رابطة الطلبة الشيوعيين الدخول إلى الكلية الحربية والتخرج فيها كضباط داخل الجيش، فشكل ذلك النواة الأولى لتنظيم الضباط الشيوعيين ولعب بابكر النور دورا كبيرا فيه فضلا عن الجهد الذي بذله في بناء تنظيم الضباط الأحرار باعتباره وعاء شاملا لتحالف الضباط الديمقراطيين والشيوعيين داخل الجيش السوداني.
جرت أول محاولة لتنظيم الضباط الأحرار للاستيلاء على السلطة في مايو 1957 وكان على رأسها عبدالرحمن كبيدة الذي قاد التحرك ،وكانت أسباب التحرك سياسية بدعوى أن الحكومة قبلت المعونة الأمريكية، وفشلت في تسويق محصول القطن والذي كان مصدرالثروة للاقتصاد السوداني، علاوة على محاولات السفير الأمريكي شراء النواب في البرلمان للتصويت لقبول المعونة الأمريكية،تسربت انباء هذآ التحرك الى مسامع القيادة العسكرية وبدورها استدعت عبدالرحمن كبيدة وحذرته من التمادي في الأمر وتحت ضغط الرأي العام اضطرت قيادة الجيش لاعتقاله مع عدد من الضباط واحالتهم الى التحقيق والمحاكمة.
لقد كانت نتائج تحركات الضباط الأحرار ذات اثر بالغ على الساحة السياسية ووجدت تعاطفا واسعا من بعض القطاعات السياسية خاصة العمال والطلاب والمهتمين بالشان السياسي لا سيما وان البلادلا زالت حديثة الاستقلال واذا بهاتعاني من الخلافات والصراعات السياسية واحزابها ضعيفة في مواجهة المخاطر التي تحيق بها، ولعب تنظيم الضباط الأحرار دورا كبيرا في دفع الجيش الى الانحياز للشعب بعد اندلاع انتفاضة 21أكتوبر 1964.
(ب)الأوضاع السياسية في السودان قبيل انقلاب 25مايو 1969:
بدا التحضير لانتفاضة أكتوبر 1964ومن ثم القضاء على الحكومة العسكرية الأول1958-1964 بتكوين الجبهة الوطنية المتحدة والتي ضمت بين ظهرانيهاالقوى السودانية في نوفمبر 1969 ،كصيغة للتحالف السياسي المرحلي العريض ،والذي تمليه ظروف الواقع السياسي المعقد، مما يتطلب معه العمل الجماعي، وبتصاعد الأزمة السياسية والاقتصادية تهيأت أسباب الثورة وتوافرت لها شروطها الضرورية، ومقوماتها الأساسية، وذلك عندما عجزت الحكومة العسكرية عن ايجاد الحلول الناجعة للازمة وتداعياتها على الشعب بكل طبقاته، مما أدى إلى تفاقمها،واصبح من العسير العيش في ظل ذلك النظام، فقاد الطلاب والعمال والمزارعين والمهنيين سلسلة من التظاهرات والاحتجاجات والاضرابات المناهضة للحكومة في فترات مختلفة وأدى تراكمها الى انفجار الشارع السوداني وانتصاره في 21أكتوبر 1964.
وشهدت الفترةبين أكتوبر 1964ومايو 1969مولد خمس حكومات مدنية اكتسبت شرعيتها بأسلوب ديمقراطي من داخل البرلمان،وبرز خلال هذه الفترة عدد من التحالفات والانقسامات الحزبية، فبعد انتصار انتفاضة أكتوبر أستمر الحزب الوطني الاتحادي بزعامة اسماعيل الازهري منفصلا عن حزب الشعب الديمقراطي والذي يتزعمه علي عبدالرحمن، كما انقسم حزب الأمة الى جناحين الأمام الهادي وجناح الصادق المهدي، فتحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الصادق المهدي واسقطا حكومة محمد أحمد محجوب، ثم تحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الأمام الهادي وسحبا الثقة من حكومة الصادق المهدي، وأخيرا اندمج الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي وكونا الحزب الاتحادي الديمقراطي في عام 1967،وتمكنت القوي التقليدية في عام 1965من حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان بعد حادثة معهد المعلمين العالي.
كان لهذه الاضطرابات والصراعات الحزبية آثارها السلبيةعلى بعض الفئات الاجتماعية فقد أدت إلى بروز الدعوة لقيام حكم عسكري صارم يضع حدا للعبث الليبرالي،وكانت هذه الدعوة تأتي من بعض اهل اليسار واليمين على السواء فهناك عناصرمن اليسار يئست من العمل المثابر وسط الجماهير واصابها القنوط من الوصول إلى السلطة عن طريق البرلمان والذي تحتكره المؤسسات التقليدية وتحكمه الولاءات القبلية والطائفية فلم تر أمامها من سبيل الى السلطة سوى عبر التدخل العسكري والقفز على المراحل غير أننا نرى أن النظام الديمقراطي هو أفضل اسلوب للحكم توصلت إليه التجربة السياسية الإنسانية حتى الآن، وتطوير هذا المنهج الديمقراطي يتم عن طريق ممارسته وتصحيح أخطائه التي ظهرت أثناء الممارسة، كما يتم برفع القدرات الاقتصادية والثقافية لأفراد المجتمع حتى يسهموا بوعي ونشاط في إثراء ذلك النهج، غير أن هناك فئات اجتماعية تريد الوصول إلى النتائج السريعة باقصر السبل لذلك ادانت التجربة البرلمانية الوليدة في السودان وبدأت تسعى وتخطط للانقلابات العسكرية باعتبارها أيسر السبل لحسم الصراع الاجتماعي وتسنم السلطة السياسية، ولم تكن المؤسسة العسكرية السودانية محصنة من ذلك الصراع إذ نفذ إليها مؤثرا فيها سلباوايجابا فأخذت فئات من الجيش تنحاز إلى محاور الصراع السياسي الدائرة في حلبة الصراع الاجتماعي وهكذا فتحت الأزمة السياسية المنافذ لتدخل الجيش في العمل السياسي وحسم الصراع الاجتماعي.
(ج) انقلاب 25 مايو1969:
جاء في تعريف الانقلاب العسكري أن القوات المسلحة للدولة تعتمد على احتكارها الفعلي لأداوات العنف وتقوم بالاستيلاء على سلطة الحكومة المدنية وهذا الاستيلاء يتم إنجازه في شكل انقلاب أي بصورة مفاجئة وغير متوقعة. وعرفه جون كنيدي الرئيس الأمريكي الأسبق والذي اغتيل في عام 1964بانه الحكومة العسكرية التي تأتي إلى السلطة بوسائل غير دستورية وغير شرعية، والانقلابات العسكرية أنواع منها الانقلابات ذات الطابع التقدمي، والانقلابات الرجعية، وتستند الانقلابات العسكرية في تبريرها للاستيلاء على الحكم في تدهور الانظمة السياسية وعجزها وفسادها.
في عام 1964دخلت البلاد فيما يعرف في الأدب السياسي السوداني فترة الديقراطية الثانية، فاندفعت الأحزاب السياسية خوض هذه المرحلة برصيد ضئيل من التجربة والوعي السياسي أضف الى ذلك عدم وجود برامج وخطط تنموية واضحة علاوة على الخلافات التاريخية بين الأحزاب، كل ذلك انعكس سلبا على الحياة السياسية السودانية ففشلت الحكومات المدنية المتعاقبة في وضع دستور دائم للبلاد بسبب عجزها في حل قضايا اساسية ظل يعاني منها السودان مثل قضية الجنوب وعدم الاتفاق على معين للحكم برلمانيا ام رئاسيا؟وعدم قبول قرارالمحكمة الدستورية ببطلان حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان فاصاب هذا الأمر الديمقراطية في مقتل.
وعلى الصعيد الخارجي فقد وقع انقلاب 25مايو في السودان في وقت اصيبت فيه القارة الأفريقية بنكسة التعددية والتي لم تستطع القارة الأفريقية التفاعل معها وتطويرها وذلك بسبب اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، فقد وقعت في الفترة ما بين 1965-1968تسعة انقلابات عسكرية في أفريقيا، والزحف الاشتراكي كان سيد المرحلة في بلدان العالم الثالث ويجد السند والدعم من الإتحاد السوفيتي، كما أن التجربة الناصرية ذاع صيتها لأن زعيمها جمال عبدالناصر واجه الاستعمار الامبريالي فاصبح رمزا يحتذى به.
وفي صبيحة 25مايو 1969استولى الجيش على السلطة منهيا حقبة الديمقراطية الثانية1964-1969،
ولمعرفة طبيعة الانقلاب ووجهته كانت البيانات الثلاثة الأولى كافيةلذلك حيث صبت جام غضبها على الرجعية والطائفية والحزبية، وأعلنت عزمها قيادة السودان على طريق تقدمي ياخذه إلى رحاب الاشتراكية، وتوالى إصدار الأوامر الجمهورية من مجلس قيادة الثورة المكون من تسعة ضباط وتراسه جعفر محمد نميري، وأعلنت تلك الأوامر أن السودان جمهورية ديمقراطية السيادة فيها للشعب وتم حل كافة الهيئات السيادية(مجلس السيادة ومجلس الوزراء والبرلمان )واوقف العمل بالدستور وحلت الأحزاب وصودرت ممتلكاتها واعلن عن تشكيل مجلس للوزراء من 21وزيرامن اليسار السوداني العريض وتراس ذلك المجلس بابكر عوض الله والذي اصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة بوصفه رئيسا للوزراء.
(د) الخلافات بين الشيوعيين وضباط انقلاب مايو:
بعد سيطرة اليسار السوداني على السلطة في السودان، نشطت المنظمات اليسارية في تعبئة الشارع للخروج في موكب تأييد للنظام الجديد فخرجت الجماهير يوم 1969/6/2في موكب ضخم، صحيح ان الذين خرجوا يومها لم يكونوا كلهم شيوعيين واشتراكيين و قوميين عرب ولكن هذه الجموع التي خرجت كانت تمثل عموم اهل السودان جاءوا ليعبروا عن عجز الطائفيةو الحزبية التي حولت سنوات الديمقراطية لسنوات من الصراع والتناحرللدرجة التي صارت فيها الديمقراطية في اذهان الناس سمة للعجز السياسي واصبحت الحرية صنوا للفوضى، لقد شكل ذلك الموكب لضباط مايوشرعية شعبية وامد حركتهم بالثقة.
ولكن بدأت بوادر الخلاف تظهر داخل مجلس قيادة الثورة خاصة بعد حل تنظيم الضباط الأحرار وتكوين تنظيم احرار مايو فصار رئيس مجلس قيادة الثورة لا يتعامل بجديةمع مباديء واهداف الثورة المتفق عليها وأنه بدأ في إتخاذ قرارات تتناقض مع برنامج الحركة المعلن، وهنا تحرك ثلاثة ضباط من أعضاء مجلس قيادة الثورة للتصدي لرئيس المجلس وهم هاشم العطا وفاروق عثمان حمدلله وبابكر النور واستطاعوا بالفعل التاثير على أعضاء المجلس بوجوب صدور القرارات بالاغلبية والاسراع في تنفيذ الشعارات المطروحة، وبالفعل بسط الاعضاء الثلاثة نفوذهم داخل مجلس قيادة الثورة فشهدت الفترة تطبيق عدد من الأهداف مثل الاعلان عن منح الجنوب الحكم الإقليمي الذاتي، وتصفية الإدارة الاهلية والاعلان عن قوانين الإصلاح الزراعي.
وفي مارس 1970 قام جعفر نميري بزيارة الى منطقة النيل الأبيض، وكان الأمام الهادي المهدي زعيم الأنصار مقيما في الجزيرة أبا، فأرسل الى نميري مندوبا منه ليبلغه ان زيارته للمنطقة مرفوضة وغير مرحبا بها، فعقد نميري اجتماعا عاجلا لمجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء قرر فيه ضرب الجزيرة أبا بالطيران الحربي، وهنا عارضه الاعضاء الثلاثة داخل المجلس على الأقدام على هذه الخطوة في ذلك الوقت بانها ستجلب عليهم عداوة الأنصار والدخول معهم في حرب مبكرة، ولكن لم يؤخذ باعتراضهم ووقعت مذبحة الجزيرة أبا والتي انتهت بقتل وإصابة مالايقل عن الفين فيما تمكن الأمام الهادي أن يخرج من الجزيرة أبا لتلاحقه قوات الحكومة عند حدود السودان مع إثيوبيا ويلقى حتفه هناك. وبعد انتهاء مذبحة الجزيرة أبا عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اجتماعا طارئا نددت فيه بالمذبحة فامر جعفر نميري زعيم الحزب الشيوعي عبدالخالق محجوب ونفيه الى مصر .
وبعد مرور عام على الانقلاب أراد قادته تقديم ما يشفع لهم امام الشعب السوداني فجاءت قرارات التاميم والمصادرة في احتفالات عيد الثورة الأول وهي تاميم البنوك والشركات ومصادرة أموال التجار، وبعد مرور يوم واحد من هذه القرارات أصدر الحزب الشيوعي بيانا رفض فيه فكرة التاميم باعتباران 48%من الدخل القومي اساسه القطاع الخاص ،وأدى هذا الى تفاقم الخلاف بين نميري والحزب الشيوعي، فاخذ النميري يعمل على تأمين موقفه داخل الجيش واقناع أعضاء مجلس قيادة الثورة بأن الاعضاء الثلاثة ومن خلفهم الحزب الشيوعي السوداني يخططون للاطاحة بهم وتصفيتهم،واصدر نميري في 16نوفمبر 1970قرارا قضى بعزل الاعضاء الثلاثة هاشم العطا وفاروق حمدلله وبابكر النور من مجلس قيادة الثورة ومن كافة مناصبهم ووصفهم بأنهم عملاء للحزب الشيوعي.
(ه)انقلاب 19يوليو 1971:
منذ نوفمبر 1970وصل الخلاف بين ضباط مايو والحزب الشيوعي الى ذروته، فدار حوار بين بعض قيادات الحزب والتنظيم العسكري في الجيش أشار فيه المتحدث باسم العسكريين الى أهمية تحديد دورهم في عملية تصحيح مسار ثورة مايوواستكمال مهامها الوطنية والديمقراطية وتحويلها الى حركة شعبية، وجاء في ادبيات الحزب الشيوعي السوداني أن البلاد قد دخلت في نفق مظلم لا مخرج منه سوى قيادة وطنية تترجم ارادة التغيير وتعبر عن تطلعات الجماهير مع التأكيد على رفض أي مغامرة عسكرية والتمسك بموقف الحزب الرافض للانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير وان وسيلة التغيير هي الثورة التى تصنعها الجماهير الواعية مستندة على الشعب .
ونتيجة لحدة الخلافات بين حكومة مايو والحزب الشيوعي قاد هاشم العطا انقلابا عسكريا ظهر يوم 19يوليو 1971 ،اطاح فيه بحكومة جعفر نميري واعلن عن تكوين مجلس جديد لقيادة الثورة برئاسة بابكر النور وهاشم العطا نائبا له وعضوية خمسة ضباط آخرين، وأصدر المجلس أوامر بالغاء وحل الإتحاد الاشتراكي السوداني، وجهاز الأمن القومي والحرس الوطني وأسس الأمر الجمهوري لسلطة الجبهة الوطنية الديقراطية لتحل محل الإتحاد الاشتراكي.
ومما لا شك فيه ان الخطة التي نفذ بهاانقلاب19يوليو كانت في غاية الدقة والأحكام ونفذت بطريقة اذهلت الجميع وذلك بسبب مفاجاته وسرعته واتقانه فقد استولى قوات يوليو على المواقع العسكرية الأساسية ونفذت اعتقالات طالت رئيس واعضاء مجلس قيادة الثورة في زمن قياسي لم يتجاوز ساعة من الزمن، فلم يكن الاستيلاء على المواقع العسكرية المحددة حسب الخطة صعبا فتم كل شيء بهدوء ودون اراقة دماءوكانت مهمة الاستيلاء على القيادة من أصعب المهام الا أن أحكام الخطة وجراة وشجاعة القوات المنفذة كان لها اثرها في السيطرة السريعة على كل المواقع داخل القيادة العامة.
هنالك أخطاء عسكرية وسياسية صاحبت انقلاب 19يوليو وادت الى فشله ففي وثيقة تقييم 19يوليو الصادرة من الحزب الشيوعي أن المكتب السياسي طرح على العسكريين الذين نفذوا الانقلاب عددا من القضايا وطلب رأيهم حولها قبل التحرك مثل أن اي برنامج للتصحيح يجب أن يكون برنامجا للإصلاح الشامل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وإلى اي مدى يمكن أن يكون هناك تدخلا من دول الميثاق الثلاثي(ميثاق طرابلس )وإمكانية التدخل الأجنبي عن طريق إثيوبيا، وضرورة الإجابة عن الوضع داخل الجيش في المدرعات والحرس الوطني والقوات الخاصة والبوليس غير أن العسكريين رأوا أن الحركة التصحيحية كانت لإعادة مايو الى البرنامج الديمقراطي الذي طرحته في البداية والذي بنى عليه الحزب موقفه الداعم لها وان الخطوة كانت مفصلية وذات أهمية تستوجب اتخاذ قرار محدد عن كيفية التحرك شكله وتوقيته ولو تعلق الأمر بثورة لكانت الوجهة الى الجماهير ومنظماتها لكن يوليو كانت تصحيحا لوضع قائم اصلا وسلطة عسكرية أعلن الحزب تاييدها.
وبعد قرارات 16نوفمبر 1970شن نظام نميري حملة شعواءعلى الحزب الشيوعي والشيوعيين فاصدر النظام بيانا دعا فيه تحطيم الحزب الشيوعي، واتخذ سلسلة من الخطوات العملية مثل حل الإتحاد النسائي السوداني واتحاد الشباب واحالة عدد من
الضباط ال التقاعد واعتقال مجموعة من كوادر الحزب،فكان رد فعل الحزب الشيوعي على هذه الإجراءات اصداربيان اشارفيه أن السلطة لا تقوى على تحطيم الحزب وان فعلت فستضع نفسها في موقع الخطر. لقد دفعت هذه الخطوات ضباط يوليو لتنفيذ الانقلاب بمبادرة ذاتية منهم وذلك عندما انسد أفق العمل الجماهيري.
وفي تقديرنا أن 19يوليو انقلاب عسكري نظمته مجموعة وطنية من الضباط وضباط الصف والجنود داخل الجيش وان فشله لا ينفي جوهره الثوري وان موقف العسكريين من أعضاء الحزب الشيوعي ودعوتهم للانقلاب ومن ثم اخطارقيادتهم ولكن لم يتخذ المكتب السياسي للحزب قرارا قاطعا بقبول فكرة الانقلاب أو رفضها بل اخضعها للمناقشة والتقديرولمزيد من المشاورات مع العسكريين في وقت لا يحتمل فيه الأمر التأخير.
كان لهزيمة انقلاب 19يوليو أسباب متعددة منها السياسي والتنظيمي والعسكري، ومنها أسباب تتعلق بالظروف المحلية والإقليمية والدولية، فقد كان السودان وقتها يمر بمرحلة غاية في الخطورة ونظام مايوقد احكم قبضته وعزز من علاقاته الخارجية فقام القذافي بدوركبير بالقرصنة الجوية التي انتهت بالقاء القبض على بابكر النور وفاروق حمدلله وتسليمهم لنميري الذي قام بتنفيذ الإعدام فيهما كما لايخفى عنا دور مصر والسعودية في التاليب على قادة الانقلاب.
تمكن جعفر نميري من العودة إلى السلطة في يوم 22يوليو وقام بحملة اعدامات طالت قيادات في الحزب الشيوعي ابرزهم سكرتيره العام عبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ رئيس إتحاد نقابات عمال السودان وجوزيف قرنق عضو اللجنة المركزية، بالإضافة إلى الضباط الذين نفذوا الانقلاب كما راح ضحية لتلك الأحداث عددا من ضباط وأفراد القوات المسلحة وفقا للإحصا ئيات الرسمية الصادرة من وزارة الدفاع أن عدد الضحايا بلغ اكثر من 45 فقيدا.19يوليو 1971
(دراسة في تاريخ السياسة السودانية )
إعداد: ا.د عادل علي وداعه
(ا) تكوين تنظيم الضباط الأحرار:
ساهمت ثورة 23يوليو 1952في مصر بتاثير ها المعنوي في شحذ افكار عامة اجتاحت المنطقة الأفريقية والعربية، فقام عدد من الضباط السودانيين بتكوين تنظيم سري يحمل مباديء تحررية وثورية ويهدف الى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي وقيام نظام سياسي جديد يحل محل الصراع السياسي الديمقراطي. تعود الجذور التاريخية لنشاة وقيام تنظيم الضباط الأحرار في السودان إلى أواخر عام 1952فقد أشارت الدراسات التاريخية التي تحدثت عن مولد التنظيم الى أن الغرض والأهداف منه كانت سياسية بحتة،وكان هناك تنسيقا وان كان خفيا بين التنظيم وبين عدة جهات وتنظيمات سياسية وعسكرية مصرية وكان لذلك التنسيق أشكال مختلفة ومتنوعة منها المساهمة في بناء التنظيم والعمل السياسي، وتأمين قادته، والمساعدة اللوجستية من الجيش المصري للجيش السوداني.
في عام 1954اشارت بعض الصحف السياسية الى وجود تنظيم سياسي في الجيش السوداني شبيه بالتنظيم الذي قاد ثورة 23 يوليو في مصر والمحت تلك الصحف الى دور محتمل للتنظيم في الحياة السياسية بل ان بعض الصحف ربطت بينه وبين التيارات السياسية الاستقلالية والاتحادية، وقد نفى وزير الدفاع السوداني وقتها خلف الله خالد تلك المعلومات وقال:ليس هناك أي عمل سياسي داخل الجيش.
ويدل اسم تنظيم الضباط الأحرار الى أن الضباط احرار في اهدافهم الوطنية والاجتماعية وأنهم احرار كذلك في الإنتماء الى أي هيئة أو جمعية أو تنظيم معروف، وكان لنجاح التجربة المصرية وما حققته من انجازات ثورية أثره الكبير في سرعة انتقال مفهوم وأسلوب العمل السياسي داخل الجيوش الأفريقية والعربية، فقد ذكر محمد محجوب عثمان في مؤلفه الجيش والسياسة في السودان أن ولوج اليسار للعمل في داخل الجيش يرجع الى ما قبل ان ينال السودان استقلاله السياسي وتحديدا في عام 1954وما صحبه من زخم سياسي وانفتاح ديمقراطي اتاح الفرصة لعناصر من الحركة الطلابية الدخول إلى المؤسسة العسكرية رغم القيود الثقيلة لقوانين الادارة البريطانية ففي تلك الظروف تفتحت الفرص امام مجموعات من الطلاب ذوي الميول الديمقراطية وآخرين من أعضاء رابطة الطلبة الشيوعيين الدخول إلى الكلية الحربية والتخرج فيها كضباط داخل الجيش، فشكل ذلك النواة الأولى لتنظيم الضباط الشيوعيين ولعب بابكر النور دورا كبيرا فيه فضلا عن الجهد الذي بذله في بناء تنظيم الضباط الأحرار باعتباره وعاء شاملا لتحالف الضباط الديمقراطيين والشيوعيين داخل الجيش السوداني.
جرت أول محاولة لتنظيم الضباط الأحرار للاستيلاء على السلطة في مايو 1957 وكان على رأسها عبدالرحمن كبيدة الذي قاد التحرك ،وكانت أسباب التحرك سياسية بدعوى أن الحكومة قبلت المعونة الأمريكية، وفشلت في تسويق محصول القطن والذي كان مصدرالثروة للاقتصاد السوداني، علاوة على محاولات السفير الأمريكي شراء النواب في البرلمان للتصويت لقبول المعونة الأمريكية،تسربت انباء هذآ التحرك الى مسامع القيادة العسكرية وبدورها استدعت عبدالرحمن كبيدة وحذرته من التمادي في الأمر وتحت ضغط الرأي العام اضطرت قيادة الجيش لاعتقاله مع عدد من الضباط واحالتهم الى التحقيق والمحاكمة.
لقد كانت نتائج تحركات الضباط الأحرار ذات اثر بالغ على الساحة السياسية ووجدت تعاطفا واسعا من بعض القطاعات السياسية خاصة العمال والطلاب والمهتمين بالشان السياسي لا سيما وان البلادلا زالت حديثة الاستقلال واذا بهاتعاني من الخلافات والصراعات السياسية واحزابها ضعيفة في مواجهة المخاطر التي تحيق بها، ولعب تنظيم الضباط الأحرار دورا كبيرا في دفع الجيش الى الانحياز للشعب بعد اندلاع انتفاضة 21أكتوبر 1964.
(ب)الأوضاع السياسية في السودان قبيل انقلاب 25مايو 1969:
بدا التحضير لانتفاضة أكتوبر 1964ومن ثم القضاء على الحكومة العسكرية الأول1958-1964 بتكوين الجبهة الوطنية المتحدة والتي ضمت بين ظهرانيهاالقوى السودانية في نوفمبر 1969 ،كصيغة للتحالف السياسي المرحلي العريض ،والذي تمليه ظروف الواقع السياسي المعقد، مما يتطلب معه العمل الجماعي، وبتصاعد الأزمة السياسية والاقتصادية تهيأت أسباب الثورة وتوافرت لها شروطها الضرورية، ومقوماتها الأساسية، وذلك عندما عجزت الحكومة العسكرية عن ايجاد الحلول الناجعة للازمة وتداعياتها على الشعب بكل طبقاته، مما أدى إلى تفاقمها،واصبح من العسير العيش في ظل ذلك النظام، فقاد الطلاب والعمال والمزارعين والمهنيين سلسلة من التظاهرات والاحتجاجات والاضرابات المناهضة للحكومة في فترات مختلفة وأدى تراكمها الى انفجار الشارع السوداني وانتصاره في 21أكتوبر 1964.
وشهدت الفترةبين أكتوبر 1964ومايو 1969مولد خمس حكومات مدنية اكتسبت شرعيتها بأسلوب ديمقراطي من داخل البرلمان،وبرز خلال هذه الفترة عدد من التحالفات والانقسامات الحزبية، فبعد انتصار انتفاضة أكتوبر أستمر الحزب الوطني الاتحادي بزعامة اسماعيل الازهري منفصلا عن حزب الشعب الديمقراطي والذي يتزعمه علي عبدالرحمن، كما انقسم حزب الأمة الى جناحين الأمام الهادي وجناح الصادق المهدي، فتحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الصادق المهدي واسقطا حكومة محمد أحمد محجوب، ثم تحالف الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الأمة جناح الأمام الهادي وسحبا الثقة من حكومة الصادق المهدي، وأخيرا اندمج الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي وكونا الحزب الاتحادي الديمقراطي في عام 1967،وتمكنت القوي التقليدية في عام 1965من حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان بعد حادثة معهد المعلمين العالي.
كان لهذه الاضطرابات والصراعات الحزبية آثارها السلبيةعلى بعض الفئات الاجتماعية فقد أدت إلى بروز الدعوة لقيام حكم عسكري صارم يضع حدا للعبث الليبرالي،وكانت هذه الدعوة تأتي من بعض اهل اليسار واليمين على السواء فهناك عناصرمن اليسار يئست من العمل المثابر وسط الجماهير واصابها القنوط من الوصول إلى السلطة عن طريق البرلمان والذي تحتكره المؤسسات التقليدية وتحكمه الولاءات القبلية والطائفية فلم تر أمامها من سبيل الى السلطة سوى عبر التدخل العسكري والقفز على المراحل غير أننا نرى أن النظام الديمقراطي هو أفضل اسلوب للحكم توصلت إليه التجربة السياسية الإنسانية حتى الآن، وتطوير هذا المنهج الديمقراطي يتم عن طريق ممارسته وتصحيح أخطائه التي ظهرت أثناء الممارسة، كما يتم برفع القدرات الاقتصادية والثقافية لأفراد المجتمع حتى يسهموا بوعي ونشاط في إثراء ذلك النهج، غير أن هناك فئات اجتماعية تريد الوصول إلى النتائج السريعة باقصر السبل لذلك ادانت التجربة البرلمانية الوليدة في السودان وبدأت تسعى وتخطط للانقلابات العسكرية باعتبارها أيسر السبل لحسم الصراع الاجتماعي وتسنم السلطة السياسية، ولم تكن المؤسسة العسكرية السودانية محصنة من ذلك الصراع إذ نفذ إليها مؤثرا فيها سلباوايجابا فأخذت فئات من الجيش تنحاز إلى محاور الصراع السياسي الدائرة في حلبة الصراع الاجتماعي وهكذا فتحت الأزمة السياسية المنافذ لتدخل الجيش في العمل السياسي وحسم الصراع الاجتماعي.
(ج) انقلاب 25 مايو1969:
جاء في تعريف الانقلاب العسكري أن القوات المسلحة للدولة تعتمد على احتكارها الفعلي لأداوات العنف وتقوم بالاستيلاء على سلطة الحكومة المدنية وهذا الاستيلاء يتم إنجازه في شكل انقلاب أي بصورة مفاجئة وغير متوقعة. وعرفه جون كنيدي الرئيس الأمريكي الأسبق والذي اغتيل في عام 1964بانه الحكومة العسكرية التي تأتي إلى السلطة بوسائل غير دستورية وغير شرعية، والانقلابات العسكرية أنواع منها الانقلابات ذات الطابع التقدمي، والانقلابات الرجعية، وتستند الانقلابات العسكرية في تبريرها للاستيلاء على الحكم في تدهور الانظمة السياسية وعجزها وفسادها.
في عام 1964دخلت البلاد فيما يعرف في الأدب السياسي السوداني فترة الديقراطية الثانية، فاندفعت الأحزاب السياسية خوض هذه المرحلة برصيد ضئيل من التجربة والوعي السياسي أضف الى ذلك عدم وجود برامج وخطط تنموية واضحة علاوة على الخلافات التاريخية بين الأحزاب، كل ذلك انعكس سلبا على الحياة السياسية السودانية ففشلت الحكومات المدنية المتعاقبة في وضع دستور دائم للبلاد بسبب عجزها في حل قضايا اساسية ظل يعاني منها السودان مثل قضية الجنوب وعدم الاتفاق على معين للحكم برلمانيا ام رئاسيا؟وعدم قبول قرارالمحكمة الدستورية ببطلان حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان فاصاب هذا الأمر الديمقراطية في مقتل.
وعلى الصعيد الخارجي فقد وقع انقلاب 25مايو في السودان في وقت اصيبت فيه القارة الأفريقية بنكسة التعددية والتي لم تستطع القارة الأفريقية التفاعل معها وتطويرها وذلك بسبب اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، فقد وقعت في الفترة ما بين 1965-1968تسعة انقلابات عسكرية في أفريقيا، والزحف الاشتراكي كان سيد المرحلة في بلدان العالم الثالث ويجد السند والدعم من الإتحاد السوفيتي، كما أن التجربة الناصرية ذاع صيتها لأن زعيمها جمال عبدالناصر واجه الاستعمار الامبريالي فاصبح رمزا يحتذى به.
وفي صبيحة 25مايو 1969استولى الجيش على السلطة منهيا حقبة الديمقراطية الثانية1964-1969،
ولمعرفة طبيعة الانقلاب ووجهته كانت البيانات الثلاثة الأولى كافيةلذلك حيث صبت جام غضبها على الرجعية والطائفية والحزبية، وأعلنت عزمها قيادة السودان على طريق تقدمي ياخذه إلى رحاب الاشتراكية، وتوالى إصدار الأوامر الجمهورية من مجلس قيادة الثورة المكون من تسعة ضباط وتراسه جعفر محمد نميري، وأعلنت تلك الأوامر أن السودان جمهورية ديمقراطية السيادة فيها للشعب وتم حل كافة الهيئات السيادية(مجلس السيادة ومجلس الوزراء والبرلمان )واوقف العمل بالدستور وحلت الأحزاب وصودرت ممتلكاتها واعلن عن تشكيل مجلس للوزراء من 21وزيرامن اليسار السوداني العريض وتراس ذلك المجلس بابكر عوض الله والذي اصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة بوصفه رئيسا للوزراء.
(د) الخلافات بين الشيوعيين وضباط انقلاب مايو:
بعد سيطرة اليسار السوداني على السلطة في السودان، نشطت المنظمات اليسارية في تعبئة الشارع للخروج في موكب تأييد للنظام الجديد فخرجت الجماهير يوم 1969/6/2في موكب ضخم، صحيح ان الذين خرجوا يومها لم يكونوا كلهم شيوعيين واشتراكيين و قوميين عرب ولكن هذه الجموع التي خرجت كانت تمثل عموم اهل السودان جاءوا ليعبروا عن عجز الطائفيةو الحزبية التي حولت سنوات الديمقراطية لسنوات من الصراع والتناحرللدرجة التي صارت فيها الديمقراطية في اذهان الناس سمة للعجز السياسي واصبحت الحرية صنوا للفوضى، لقد شكل ذلك الموكب لضباط مايوشرعية شعبية وامد حركتهم بالثقة.
ولكن بدأت بوادر الخلاف تظهر داخل مجلس قيادة الثورة خاصة بعد حل تنظيم الضباط الأحرار وتكوين تنظيم احرار مايو فصار رئيس مجلس قيادة الثورة لا يتعامل بجديةمع مباديء واهداف الثورة المتفق عليها وأنه بدأ في إتخاذ قرارات تتناقض مع برنامج الحركة المعلن، وهنا تحرك ثلاثة ضباط من أعضاء مجلس قيادة الثورة للتصدي لرئيس المجلس وهم هاشم العطا وفاروق عثمان حمدلله وبابكر النور واستطاعوا بالفعل التاثير على أعضاء المجلس بوجوب صدور القرارات بالاغلبية والاسراع في تنفيذ الشعارات المطروحة، وبالفعل بسط الاعضاء الثلاثة نفوذهم داخل مجلس قيادة الثورة فشهدت الفترة تطبيق عدد من الأهداف مثل الاعلان عن منح الجنوب الحكم الإقليمي الذاتي، وتصفية الإدارة الاهلية والاعلان عن قوانين الإصلاح الزراعي.
وفي مارس 1970 قام جعفر نميري بزيارة الى منطقة النيل الأبيض، وكان الأمام الهادي المهدي زعيم الأنصار مقيما في الجزيرة أبا، فأرسل الى نميري مندوبا منه ليبلغه ان زيارته للمنطقة مرفوضة وغير مرحبا بها، فعقد نميري اجتماعا عاجلا لمجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء قرر فيه ضرب الجزيرة أبا بالطيران الحربي، وهنا عارضه الاعضاء الثلاثة داخل المجلس على الأقدام على هذه الخطوة في ذلك الوقت بانها ستجلب عليهم عداوة الأنصار والدخول معهم في حرب مبكرة، ولكن لم يؤخذ باعتراضهم ووقعت مذبحة الجزيرة أبا والتي انتهت بقتل وإصابة مالايقل عن الفين فيما تمكن الأمام الهادي أن يخرج من الجزيرة أبا لتلاحقه قوات الحكومة عند حدود السودان مع إثيوبيا ويلقى حتفه هناك. وبعد انتهاء مذبحة الجزيرة أبا عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اجتماعا طارئا نددت فيه بالمذبحة فامر جعفر نميري زعيم الحزب الشيوعي عبدالخالق محجوب ونفيه الى مصر .
وبعد مرور عام على الانقلاب أراد قادته تقديم ما يشفع لهم امام الشعب السوداني فجاءت قرارات التاميم والمصادرة في احتفالات عيد الثورة الأول وهي تاميم البنوك والشركات ومصادرة أموال التجار، وبعد مرور يوم واحد من هذه القرارات أصدر الحزب الشيوعي بيانا رفض فيه فكرة التاميم باعتباران 48%من الدخل القومي اساسه القطاع الخاص ،وأدى هذا الى تفاقم الخلاف بين نميري والحزب الشيوعي، فاخذ النميري يعمل على تأمين موقفه داخل الجيش واقناع أعضاء مجلس قيادة الثورة بأن الاعضاء الثلاثة ومن خلفهم الحزب الشيوعي السوداني يخططون للاطاحة بهم وتصفيتهم،واصدر نميري في 16نوفمبر 1970قرارا قضى بعزل الاعضاء الثلاثة هاشم العطا وفاروق حمدلله وبابكر النور من مجلس قيادة الثورة ومن كافة مناصبهم ووصفهم بأنهم عملاء للحزب الشيوعي.
(ه)انقلاب 19يوليو 1971:
منذ نوفمبر 1970وصل الخلاف بين ضباط مايو والحزب الشيوعي الى ذروته، فدار حوار بين بعض قيادات الحزب والتنظيم العسكري في الجيش أشار فيه المتحدث باسم العسكريين الى أهمية تحديد دورهم في عملية تصحيح مسار ثورة مايوواستكمال مهامها الوطنية والديمقراطية وتحويلها الى حركة شعبية، وجاء في ادبيات الحزب الشيوعي السوداني أن البلاد قد دخلت في نفق مظلم لا مخرج منه سوى قيادة وطنية تترجم ارادة التغيير وتعبر عن تطلعات الجماهير مع التأكيد على رفض أي مغامرة عسكرية والتمسك بموقف الحزب الرافض للانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير وان وسيلة التغيير هي الثورة التى تصنعها الجماهير الواعية مستندة على الشعب .
ونتيجة لحدة الخلافات بين حكومة مايو والحزب الشيوعي قاد هاشم العطا انقلابا عسكريا ظهر يوم 19يوليو 1971 ،اطاح فيه بحكومة جعفر نميري واعلن عن تكوين مجلس جديد لقيادة الثورة برئاسة بابكر النور وهاشم العطا نائبا له وعضوية خمسة ضباط آخرين، وأصدر المجلس أوامر بالغاء وحل الإتحاد الاشتراكي السوداني، وجهاز الأمن القومي والحرس الوطني وأسس الأمر الجمهوري لسلطة الجبهة الوطنية الديقراطية لتحل محل الإتحاد الاشتراكي.
ومما لا شك فيه ان الخطة التي نفذ بهاانقلاب19يوليو كانت في غاية الدقة والأحكام ونفذت بطريقة اذهلت الجميع وذلك بسبب مفاجاته وسرعته واتقانه فقد استولى قوات يوليو على المواقع العسكرية الأساسية ونفذت اعتقالات طالت رئيس واعضاء مجلس قيادة الثورة في زمن قياسي لم يتجاوز ساعة من الزمن، فلم يكن الاستيلاء على المواقع العسكرية المحددة حسب الخطة صعبا فتم كل شيء بهدوء ودون اراقة دماءوكانت مهمة الاستيلاء على القيادة من أصعب المهام الا أن أحكام الخطة وجراة وشجاعة القوات المنفذة كان لها اثرها في السيطرة السريعة على كل المواقع داخل القيادة العامة.
هنالك أخطاء عسكرية وسياسية صاحبت انقلاب 19يوليو وادت الى فشله ففي وثيقة تقييم 19يوليو الصادرة من الحزب الشيوعي أن المكتب السياسي طرح على العسكريين الذين نفذوا الانقلاب عددا من القضايا وطلب رأيهم حولها قبل التحرك مثل أن اي برنامج للتصحيح يجب أن يكون برنامجا للإصلاح الشامل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وإلى اي مدى يمكن أن يكون هناك تدخلا من دول الميثاق الثلاثي(ميثاق طرابلس )وإمكانية التدخل الأجنبي عن طريق إثيوبيا، وضرورة الإجابة عن الوضع داخل الجيش في المدرعات والحرس الوطني والقوات الخاصة والبوليس غير أن العسكريين رأوا أن الحركة التصحيحية كانت لإعادة مايو الى البرنامج الديمقراطي الذي طرحته في البداية والذي بنى عليه الحزب موقفه الداعم لها وان الخطوة كانت مفصلية وذات أهمية تستوجب اتخاذ قرار محدد عن كيفية التحرك شكله وتوقيته ولو تعلق الأمر بثورة لكانت الوجهة الى الجماهير ومنظماتها لكن يوليو كانت تصحيحا لوضع قائم اصلا وسلطة عسكرية أعلن الحزب تاييدها.
وبعد قرارات 16نوفمبر 1970شن نظام نميري حملة شعواءعلى الحزب الشيوعي والشيوعيين فاصدر النظام بيانا دعا فيه تحطيم الحزب الشيوعي، واتخذ سلسلة من الخطوات العملية مثل حل الإتحاد النسائي السوداني واتحاد الشباب واحالة عدد من
الضباط ال التقاعد واعتقال مجموعة من كوادر الحزب،فكان رد فعل الحزب الشيوعي على هذه الإجراءات اصداربيان اشارفيه أن السلطة لا تقوى على تحطيم الحزب وان فعلت فستضع نفسها في موقع الخطر. لقد دفعت هذه الخطوات ضباط يوليو لتنفيذ الانقلاب بمبادرة ذاتية منهم وذلك عندما انسد أفق العمل الجماهيري.
وفي تقديرنا أن 19يوليو انقلاب عسكري نظمته مجموعة وطنية من الضباط وضباط الصف والجنود داخل الجيش وان فشله لا ينفي جوهره الثوري وان موقف العسكريين من أعضاء الحزب الشيوعي ودعوتهم للانقلاب ومن ثم اخطارقيادتهم ولكن لم يتخذ المكتب السياسي للحزب قرارا قاطعا بقبول فكرة الانقلاب أو رفضها بل اخضعها للمناقشة والتقديرولمزيد من المشاورات مع العسكريين في وقت لا يحتمل فيه الأمر التأخير.
كان لهزيمة انقلاب 19يوليو أسباب متعددة منها السياسي والتنظيمي والعسكري، ومنها أسباب تتعلق بالظروف المحلية والإقليمية والدولية، فقد كان السودان وقتها يمر بمرحلة غاية في الخطورة ونظام مايوقد احكم قبضته وعزز من علاقاته الخارجية فقام القذافي بدوركبير بالقرصنة الجوية التي انتهت بالقاء القبض على بابكر النور وفاروق حمدلله وتسليمهم لنميري الذي قام بتنفيذ الإعدام فيهما كما لايخفى عنا دور مصر والسعودية في التاليب على قادة الانقلاب.
تمكن جعفر نميري من العودة إلى السلطة في يوم 22يوليو وقام بحملة اعدامات طالت قيادات في الحزب الشيوعي ابرزهم سكرتيره العام عبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ رئيس إتحاد نقابات عمال السودان وجوزيف قرنق عضو اللجنة المركزية، بالإضافة إلى الضباط الذين نفذوا الانقلاب كما راح ضحية لتلك الأحداث عددا من ضباط وأفراد القوات المسلحة وفقا للإحصا ئيات الرسمية الصادرة من وزارة الدفاع أن عدد الضحايا بلغ اكثر من 45 فقيدا.لقوات المسلحة وفقا للإحصا ئيات الرسمية الصادرة من وزارة الدفاع أن عدد الضحايا بلغ اكثر من 45 فقيدا.

 

آراء