معاوية نور ١٩٠٨-١٩٤١ينقد الإدارة الأهلية في السودان (2)

 


 

 

abdelatifelfaki56@gmail.com

الجزء الثاني

9- لقد أشرتَ أنتَ – يا معاوية – إلى لجوء الاستعمار الإنجليزي إلى الإدارة الأهلية، لتحقيق سببين اثنين هما (أ) الادِّعاء أن السودانيين يحكمون أنفسهم بأنفسهم و(ب) أن كل قبيلة تُساس على حِدَة لا علاقة لها بالقبيلة الأخرى، فلا يكون هناك شعوراً وطنياً. وبهذا يأمن الاستعمار بقاءه. عند هذه النقطة (ب) كان عندك مبدأ نظر غاية في السداد وهو حينما قلتَ "وليس في مقدور إنجلترا وحدها أن تسيطر على العوامل الحديثة التي تعمل لتغيير الأفكار والنظم والتقاليد. إن عملها منفردة في مستعمراتها يدعو إلى الرثاء لها والشفقة عليها. إذ إنه من البديهي المفروغ منه أن حكومة واحدة مهما بلغت من القوة والجبروت لا تستطيع صد تيار الفكر" (ص. ٢٧٥). لنقف في عباراتك العمدة وهي داخل سياقها – أعلاه – هُنَّ "العوامل الحديثة التي تعمل على تغيير الأفكار والنظم والتقاليد"، وتلي هذه الجوهرة النيِّرَة جوهرةٌ أخرى "لا تستطيع صد تيار الفكر".
10- ما تُشير إليه أيها الناتج العضوي للحداثة معاوية نور يُـقيِّـدُهُ مؤرخو الثقافة ما بين ١٨٦٩ إلى ١٩٦٩ توريخاً تحت عنوان ’صناعة صياغة العقل‘. وأنت الآن تُـنَـزِّله منزلة الفعل. والفعل هنا إشارتكَ إلى سيطرة السلطة مهما كان - كما قُلتَ أنتَ قبل قليل – قد ’بلغت من القوة والجبروت‘ فهي عاجزه عن "صد تيار الفكر". في هذه النقطة – على وجه الخصوص – لا نضع معاوية نور رائداً من روَّاد الحداثة، بل منتجاً عضوياً لها كتفاً بكتف، وحِبـْراً بِــحِبْر. هنا الفرق بين الرائد والمنتج العضوي للثقافة في مفهوم التوريخ الثقافي هو أن الرائد هو من الأوائل الذين ينقل آخر تطورات الفكر البشري لثقافة لغته. يمكننا أن نصفه ناقلاً ممتازاً مفيداً. يقف على رأس هؤلاء المترجمون المواكبون. أما المنتج العضوي فهو جزءٌ من نسيج القماشة يضيف إليها سواء في لغته الأم أو اللغة التي اكتسبها.
11- فَـلـْنرجعْ معك معاوية في النقطة الأخيرة. هنا يظهر اشتباك. اشتباك قوة جبروت سيطرة السلطة مع تيار الفكر بعضهما ببعض. هذه الجملة الأخيرة، في عبارة بعضهما ببعض، لا تعني أن قوة تيار الفكر يستمد قوته بشرط قوة السلطة التي يشتبك معها. أحياناً، قد يكون بالعكس. هذا العكس يجري كالآتي: فقد يقوى تيار الفكر حين يستمد وعيه ضداً من السلطة التي لا ترى إلا إقصاء شعب بكامله داخل تفرقته في قبائله – كما فعل الإنجليز فيما بعد ١٩٢٤ كما ذكرت أنت – وهنا يعمد المستعمر القديم على وضع نسيان وجودي يوماً بيوم للُّـحْمَة الوطنية. هذا النسيان الوجودي ينتج بطريقة غير واعية حضوراً آخر. هو حضور أن "يتكاتف الإنجليز مع أنصار الجهل والقديم" (ص. ٢٧٦). وهذا التكاتف إنما هو بصيغةٍ أخرى "الرجوع بالبلاد إلى الوراء حيث النُّـظَّار والعُمَد والمشايخ قد فقدوا سلطتهم القديمة التي كانت لهم في سابق الأزمان. فبدأوا يحاولون من جديد إرجاع السلطة إليهم وتقوية شوكتهم وشد أزرهم". "وهؤلاء المشايخ والعُمَد، بطبيعة جهلهم وعقليتهم القديمة، يعاكسون كل تقدم ولا يرضون عن أي شيء لم يعرفه أجدادهم. (ن. ص. ٢٧٥). مرَّة أخرى، وضع نسيان وجودي في تكاتف المستعمر القديم مع الإدارة الأهلية إنما هو وضع الدولة ليس فيما ستكونه، بل فيما كانته. ونحن نعرف أن الدولة كينونة تتحرك دائماً وفي كل لحظة نحو فيما ستكون. الدولة لا تعرف إعادة الماضي، بل إنتاج المستقبل. فأيّـة حركة – من جانب السلطة سلطة المستعمر القديم والعشائر، أو أيّة سلطة ما – تحاول أن توقف كينونة الدولة فيما ستكون هي حركة لنفي الدولة بطرق مقاصد شرِّيرة مختلفة يرتبط بعضها ببعض. إذاً، هذا الحضور الآخر وهو النفي من جانب الاستعمار القديم والعشائر ينتج في الوقت نفسه عبر التراكم الضدي عند الشعوب وعياً مناهضاً. فيقوم هذا الوعي بنفي النفي. وهو ما نطلق عليه الوعي بالضد. هذا الوعي تطلق عليه أنت "تيار الفكر". ونقول سوياً: وعي تيار الفكر المضاد لنفي الدولة.
12- لنذهب معك في رؤيتك حينما تضع ’وعي تيار الفكر‘، فهو يعمل على "الخلاف بين الآباء والأبناء" (ص. ٢٧٦). ولكن اسمح لي أن أركِّز بؤرة الرؤية على عبارتك وهي "الخلاف". هذا التركيز يقودنا نحو نفي الأبناء لنفي الآباء لدولة الأبناء. هنا نتابع إنجلز، في تشغيل قانون الأضداد. نفي الأبناء ينزع ما يضاده وهو "تمسك الآباء بالقديم ونبذ كل جديد، ونبذ التكيُّف وفق العصر الحديث. يتمسك الآباء بذلك لأن مقتضيات العصر الحديث قضاءٌ على سلطتهم القديمة" (ن. ص. ٢٧٦). ومن جهة أخرى ينزع ما يضاده وهو "ما عرفه فيهم المستعمر هذه الصفات" (ص. ٢٧٦)؛ فجعلوهم مخلباً على الأبناء.
13- حين تُشير – يا معاوية – إلى التحديث في رفع كل قديم مركزه الجهل، ألا يعني لك أن المستعمر ما جاء إلاَّ لهذا التحديث؟ حسناً، يا صاحبي هناك نقطتان رئيستان، أول نقطة: أنا خوفي ليس قائماً على المستعمر، لأنني أعرفه هو يأتي لفترة محددة بتحديد اكتفائه من ثروات بلادنا، ولكنني أخاف أكثر من الآباء لأنهم باقون. بالطبع لا أقصد أجسادهم، بل مقالاتهم في التمسك بالقديم وهم في إدارتهم وتحكمهم في الناس الآن وحرق مستقبلهم. وهذا يؤدي ما يؤدي إلى "نشوء الحزازات وقيام المحسوبيات وتدهور الحياة الـخُلْقية" (ص. ٢٧٦). نعم، رأس كل دولة هو الأخلاق. اِكْمِلْ. النقطة الثانية: أقول لك، اُنظُرْ إلى سياستهم في التعليم في السودان. "فسياسة التعليم في السودان لم تكن في يوم من الأيام ترمي إلى نشر الثقافة والعلم بين أبناء البلاد. وإنما كان أكبر همها فيما مضى أن تُـخَرِّج موظفين وطنيين يشغلون الوظائف الصغرى في الحكومة. فأما الوظائف الكبرى فهي بلا شك للإنجليز. وأما الوظائف الوسطى للسوريين والأرمن والإغريق وما أشبه من الأجانب" (ص. ٢٧٧). ولكن ألا يعني لك مجرد تعليم هو الانتقال من الأمية والجهل وبالتالي يـمكن أن أفهم عبارتك "تُـخَرِّج موظفين وطنيين" هي تعني بتعليمهم ستكون عيونهم على الوطن. لا، يا صاحبي، أقصد هم وطنيون في مقابل الإنجليز والأجانب. أقول لك "منهاج التدريس في كلية غردون غريب في بابه، فليس هنالك مجال للعلوم الطبيعية أو التاريخ الحديث أو الآداب، وإنما معظمه تمرين على الآلة أو على شؤون الهندسة العملية والمحاسبة لكي يملأ الطالب وظيفة صغيرة في الحكومة لا يصلح في عمل سواها ولا يفقه في عالم الأدب والتاريخ والاجتماع. . . فالكلية تعتقد أن الطالب ربما يقرأ في مثل هذه الكتب أشياء عن الحركات القومية، والمستعمر يود للشاب السوداني أن يبقى على جهله" (ص. ٢٧٨). نحتاج لمثلك دائماً. النقطتان الرئيستان اللتان أشرتَ إليهما وأنت تضع المستعمر كما هو تجعلاك أن ترى الأشياء كما هي as they are وليس توهُّماً. أضع عبارة ’كما هي‘ – معاوية – في المجال الذي تصطلح عليه اللغة بكلمة الواقع. وما يضاد الواقع هو التوهُّم وليس الخيال. الخيال تفعيل للواقع.
14- سأنتقل بك، معاوية، إلى حالنا اليوم الذي ينقسم إلى ما طرحناه عند مقولة "نفي الآباء لدولة الأبناء"، من جهة، ومن جهة أخرى مقولة التناقض التي هي: نفي "نفي الآباء لدولة الأبناء". هنا، لو قلنا (أ) الدولة منفية، مع (ب) الدولة غير منفية، ندخل في التضارب. <ملاحظة: كلمة التضارب خارج علاقات الديالكتيك>. التضارب الذي يقول الدولة منفية/ الدولة غير منفية في آن واحد. فالشيء يتضارب حين يحمل الأضداد معاً في آنٍ واحد. فكيف يعمل نفي النفي إذاً؟ أراك يا معاوية قلت لي عن وسيلة سياسية أطلقتَ أنتَ عليها "الأغراض الجهنمية" (ص. ٢٧٤) فما القصة؟ نعم، "أراد الإنجليز أن يوسعوا هُوَّة الخلاف بين الآباء والأبناء المتعلمين" وذلك بأن "يجعلوا دافعي الضرائب" من مشايخهم ورؤسائهم وبالتالي "يكرهون المشايخ، وينادون بأن حكم الرجل الأبيض أعدل وأحق" (ن. ص. ٢٧٤). إذاً، الخطة الجهنمية هي أن يكره الأبناء الآباء، وأبعد من هذه الكراهية أن يحب الأبناء المستعمر. وذلك، بفعل غَضِّ النظر لنهب ثروة البلاد من قِبَل "الرجل الأبيض" المستعمر.
15- الخطة الجهنمية ضد تطور الوعي عند الأبناء. تجري علاقاتها الداخلية كالآتي:
أ‌- الكُل لهذه الخطة: الهيمنة بعيدة المدى على الثروات. بعيدة المدى تعني ألا "تُقْلِق بالهم قيام الوطنيات القومية بعد فترة طويلة أو قصيرة من حكمهم للمستعمرات" (ص. ٢٧٠).
ب‌- أجزاء هذه الخطة: عنصر (١): هو المالك لرأس المال والوسائل المادية للإنتاج. عنصر (٢): هو الإدارة الأهلية. عنصر (٣): هو الأبناء. عنصر (٤): هو الآباء.
قد يبدو غريباً أن نجعل الإدارة الأهلية عنصراً متميزاً من الآباء. ولكن هناك وظيفة فرعية تجعلنا أن نُـقِيْمَ هذا التمييز وهي أنه "كانت للعُمَد والمشايخ بين الزراع القرويين شيء من المكانة؛ هي مكانة الاستشارة والأب الأكبر، يلجأون إليهم في صعوباتهم العائلية والاجتماعية. وكان هؤلاء العمد يعملون على إرضاء أناسهم بالحسنى والخير" (ص. ٢٧٣). فبجانب الأب هناك سلطة الأب "سلطة مستمدة من سلطان الحكومة الأجنبية يدعمها الجيش والبوليس، وهم لذلك قد تغيرت علاقتهم مع أناسهم على هذا الاعتبار، وفقدوا صفتهم الأولى وأصبحوا موظفين أجانب علاقتهم مع أناسهم على هذا الاعتبار. وفقدوا صفتهم الأولى وأصبحوا موظفين أجانب لا يَنظُرُ إليهم القروي نظرة الأبوة والاحترام الأولى. كما أن العمدة لا يعمل على إبقاء تلك النظرة" (ص. ٢٧٣).
16- نفس الخطة الجهنمية. تتحول في زماننا إلى حيلة جهنمية. وهي الحيلة الحاملة على التناقض الديالكتيكي بين الآباء والأبناء. الداعي لاستمرار هذا التناقض هو أن ’الآباء‘ يتبَوَّؤُن <تتضمن الكلمة الجلوس في النار> نفس المقعد، مقعدِ الاستعمار في خُلُوِّ تام لمفهوم المكان، وفي امتلاء تام لثرواته ليصبح استعمارَ غنيمة، وليسوا بآباء. لذلك من هنا: تسير الخطة الجهنمية حتى الآن:
17- تسير كما يلي: يكره الأبناء الآباء – في كون الآباء يشكلون استعماراً آخر هو استعمار الغنيمة. فيحل محل الاستعمار القديم. وأبعد من هذه الكراهية يقوم الأبناء بتفعيل المرفوع الثالث الديالكتيكي وهو العزل. وذلك في جعل نفي النفي وعياً بذلك العزل. تتحول فعلية العزل التام الذي يقوم به الأبناء، أي: عزل عناصر وعلاقات آباء استعمار الغنيمة. يتحول ذلكم العزل في خطاب الآباء المضاد إلى: أنه ليس شيئاً سوى إقصاء، وعدو محدق بالدولة، وانعدام هيبة الدولة.

هوامش

[1]  وهنا تجدر الإشارة إلى نهضتين اثنتين في الحداثة وهي في إطار صناعة صياغة العقل. الأولى في ١٨٦٩ وما بعدها بظهور دخول العمل في التفكير فيما بعد كتاب كارل ماركس ’رأس المال‘. والثانية في ١٩١٣ وما بعدها فيما بعد محاضرات دي سوسير وذلك بظهور اللغة موضوعاً في التفكير. وهناك طفرة أخرى بجانب النهضة الثانية هي الخاصة بفيلسوف أكسفورد جي إلـ أوستن حيث طُبعت محاضراته في عام ١٩٦٢. ومن هذه المحاضرات – وقد قمت بترجمتها كاملة مع بعض الملاحق وهي قيد النشر – جاء دخول الخطاب في التفكير.

المصادر

1-                 جريدة الجهاد، العدد: ٥٢٧، ٢٧ فبراير سنة ١٩٣٧

2-                 جريدة الجهاد، العدد: ٥٣٥، ٧ مارس سنة ١٩٣٣.

3-                 جريدة الجهاد، العدد: ٥٤٥، ١٧ مارس ١٩٣٣.

4-                 المقتطف، العدد: ؟ سنة ١٩٣٤.

النقل من هذا المرجع: رشيد عثمان خالد (جمع وتحرير). معاوية محمد نور. الإعمال الأدبية لمعاوية محمد نور. دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع. ب. ت. (الصفحات في المتن من هذا المرجع).

 

المراجع

1-                 رشيد عثمان خالد (جمع وتحرير). معاوية محمد نور. الإعمال الأدبية لمعاوية محمد نور. دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع. ب. ت. (الصفحات في المتن من هذا المرجع).

2-                 الطاهر محمد علي (جمع وتحرير) دراسات في الأدب الحديث. من آثار معاوية محمد نور. الدار السودانية للكتب، الخرطوم، ط. أولى سنة ١٩٧٠.

3- Ollman, B. (2003) Dance of the Dialectic: Steps in Marx's Method, University of Illinois Press.

 

 

آراء