منفلة المغفلة … بقلم: حسام عامر جمال الدين
مخيلة الشعب السوداني تحتشد بالحكايات و الأمثال الشعبية التي تكون وقع الحافر على الحافر مع احداث حياتنا فكل منا يحفظ الكثير من تلك الأمثال و السير و التي قد لا تكون محتشمة في كل الأحوال فثمة هنالك من فسحة للإعتبار و لكل مثل قصة تروى لمن أراد الاستزادة أما من يهتم بخلاصة الحكمة فإنه يتدبر القول المأثور دون أن يزحم عقله بالتفاصيل.
كانت منفلة إحدى النسوة اللائي إمتهن أقدم المهن التي عرفتها البشرية فكانت تمارس (البغاء) نظير مبلغ نصف ريال و لكنها كانت تستاجر (العنقريب) لممارسة عملها بمبلغ ريال كامل و هكذا ظلت في كل ممارسة لها تخسر نصف ريال و ظلت على حالها هذا سنين عددا ، أخيرا إنتبهت والدة منفلة لخسارة إبنتها فقالت لها متحسرة (يا بتي لا مالا جمعتي لا شرفا حفظتي) !! فصار ذلك القول مثلا (تلوكه) الألسن عندما يكون المشهد خسارة مركبة .
منذ أن إستولت الحركة الإسلامية على حكم البلاد و كل قراراتها و خطواتها يكون نتاجها خسران مبين ، فمنذ الهوجة الأولى كان التخبط ديدن الانقلابيين و قد تجلى ذلك التخبط على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية فنصبت محاكم الخيام و التي سيق لها غالب تجار ذلك الزمان و فتحت المعتقلات ليحشر فيها كل من لم يروق لهم ثم نصبت مشانق الأرزاق فقصمت رقاب ألاف الأسر بحجة الصالح العام ، ثم تحول المشهد أكثر دموية فإستحلت أرواح بعض الشباب بزعم المتاجرة بالدولار و ذلك لعمري هو عين (الموت سنبلة) و بشهوة مريضة لسفك الدماء تجاسرت قلوبهم في خواتيم رمضان فعندما كان جل أهل السودان يتلون الأجزاء الأخيرة من المصحف الشريف كان نفرا ممن ادعى انه أقرب إلى الله منا و أن الله يبارك غدوهم و رواحهم كان أولئك الفجرة يفتحون للموت الزوؤم الأبواب لتحصد أرواح أرادت أن تعتق البلاد من مهرجان العبث السياسي المقيم فلم تراعي الحكومة حرمة الشهر الفضيل و لم تراعي حرمة الزمالة فكان الموت نصيب الفتية و هكذا أصبحوا من الخالدين ، و تتواصل فصول الهرج فأقامت الحكومة مليشيات خاصة بمسميات عديدة كانت خصم على القوات المسلحة و شهدت ميادين الحروب اختلاط الحابل بالنابل و تلفزيون السودان يطوف بكاميراته ليبث من الاحراش حلقات لما يعرف بتلفزيون الواقع و لكنه كان واقع مقيت، ثم توالت الأحداث الفاجعة انفصال الجنوب .. حرائق دارفور .. و حروب هنا و هناك . أزمات اقتصادية تمسك بكل المفاصل ..
أما في السياسة الخارجية فحدث ولا حرج ففي ذلك الوقت كانت إذاعة أم درمان (تستفرغ) تخمة النظام بحديث أحد الضباط الممتلئين حماسة فظل يكيل السباب في كل الاتجاهات و يرسل تهديداته لأبعد البقاع في جهالة بائنة لأبسط قواعد اللياقة السياسية فلم يكن حصادنا من حديث ذلك المعتوه إلا عزلة عن محيطنا الاقليمي و الدولي و بطبيعة الحال لم يفلح دكتور حسين ابو صالح في إصلاح ما أفسده المقدم يونس محمود فكان التخبط هو ديدن اتخاذ المواقف السياسية فانضممنا بكامل جاهلتنا إلى مجموعة دول (الضد) و ذلك موقف لم و لن تزول أثاره بيسر، ثم كان ما كان من أمر البارجة (كول) و الذي نعيش هذه الأيام إحدى فصوله و توالت الخسارات و لم تتوقف بمحاولة اغتيال الرئيس المصري فكان نتاج كل ذلك أن أصبحنا من الدول الداعمة للإرهاب حتى أصبحت المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات توقيف في حق قمة القيادة .
ثم كانت محاولات الاصلاح =على قلتها= على المستويين الداخلي و الخارجي فطيرة لا تستقيم مع الخلل الذي خلفته سنين الهوجة .
فكان الإصلاح اعوج لينفصل الجنوب تحت وعود من المجتمع الدولي لم و لن يفي بها، و بمناسبة الاتفاقيات ما استغرب له تماما هو الإلغاء الغريب لاتفاقية (نافع و عقار) و التي أرى أنها كانت لتكون أحسن ما تقوم به الحكومة و لكن الكيد السياسي و عدم الحصافة مازال ينتج كل يوم محنة.
أي محاولة للإصلاح لا تعدو أن تكون الا مناطحة للواقع البائس الذي نعيشه اليوم و بالمنطق الجهة التي تفشل لأكثر من ربع قرن في كل الملفات لن تنجح في مقبل الأحداث لأن ذخيرتها المعرفية و خبرتها التراكمية ما هي إلا فشل سنة ظل يتكرر في السنوات الأخرى .
لم يحدثنا الأدب الشعبي على ما صار من أمر (منفلة المغفلة) و الذي لا اتوقع ان يكون أفضل حالا من أمر المؤتمر الوطني.
husamamir@gmail.com