من أيْنَ يبدأ تصحيح مسارالثّورة؟ هل منْ مؤسسة الدّولة أمّ عقلية القادة؟

 


 

 

aahmed59@gmail.com

في البدء أهنئ نفسي و الشعب السوداني بحلول العام الجديد ,رغم تبدد أحلامنا نتيجةً للفشل الذريع في إدارة الدولة, و نسأل الله القدير أن يصلح حالنا و يجعل هذا العام عاماً للتقدم الرخاء, و اللهم صلِ و سلم على سيدنا محمدٍ .
المقاصد التي قامت عليها كل ثورات العالم, كانت في الأصل لإصلاح الأنظمة القائمة أو على الأقل إحتجاجاً على الطغيان و الفساد, أمّا إذا كانت الثورة نفسها في حاجة إلى تصحيح مسار مثل ثورة ديسمبر فإنّ الأمر ربّما يكون في غاية الصعوبة إلى حد الأسف, لمزيد من التبصر, علينا مناقشة بعض التحولات العالمية التي وقعت في العقد الأخير من القرن العشرين, و التي فتحت الطريق لكل الدول لتحقيق طموحاتها, وإجراء معاينة لحالة السودان في خضم هذه التحولات العالمية, لنستشف من خلال ذلك ما إذا كانت حالة السودان يكتنفها الشذوذ.
يُعتبر العقد الأخير من القرن العشرين الفترة التي حدث فيها التحول المحوري للاقتصاد العالمي, حيث استطاعت أغلبية الدول الأستفادة منها ، في هذه الفترة تم تصفية حالة التخاصم ما بين المعسكر الشرقي و الغربي في 1991 بفضل ثورة إعادة البناء ( البيريسترويكا) التي سماها البعض انهيار الاتحاد السوفيتي, في حقيقة الأمر لم يكن تفكك الاتحاد السوفيتي انهزاماً لروسيا إنما كان الخطوة الاولى لتحرير شعوب المنطقة من التعبد بالأيديولوجية الماركسية, ومساهمة في رفع بعض الأعباء الإمبريالية الغربية عن كاهل بعض شعوب العالم, و إنهاء حروب الوكالة ,بعد هذه الوثبة الجبارة جاء مشروع مراجعة الصراعات في العالم عن طريق إعلان " أجندة للسلام" بواسطة الامين العام للأمم المتحدة بطرس غالي 1992 , برز حينها توجه عالمي نحو توافق حول القضايا الكبرى التي تتحكم بمصير البشرية, مثل المحافظة على البيئة حيث انعقدت قمة ريو جانيرو للبيئة 1992 , هذه الانتفاضة العالمية كانت بمثابة صافرة إنطلاق للدول للتقدم و الازدهار . و قد أسست هذه الإنتفاضة طريقاً للثورة الرقمية المفتوحة و طفرة الاتصالات و الازدهار الاقتصادي للنمور الاسيوية , وحرية التعاطي مع قضايا حقوق الانسان. و بالمقابل في هذه الفترة تراجعت الحروب بين الدول و تقلصت الحروب الاهلية و تراجعت أعداد النازحين و اللاجئين على مستوى العالم ما عدا السودان.
في أفريقيا هناك عدد من الدول أحدثت تقدماً في بعض النواحي حتى صارت تضاهي بعض الدول المتقدمة, مستفيدة من التغيرات السياسية العالمية ( النظام العالمي الجديد) , بوتسوانا تميزت بحكمها الرشيد, رواندا حققت تنمية اقتصادية كبيرة, جنوب أفريقيا تفوقت في التكنولوجيا , إثيوبيا صارت رائدة في الطيران, أمّا بقية الدول الأفريقية إن لم تحقق تقدماً, فقد أستقر حالها الإقتصادي و الإجتماعي, ما عدا السودان رغم موارده الضخمة, و أضف إليه الصومال. تزامن مع هذه الطفرات الهائلة التي جابت العالم انقلاب عمر البشير تقريباً, و كان يعتبر شذوذاً وسط الحركة العالمية التى بموجبها تم دحر الامبريالية و الشمولية, فاذا به يأتي هذا الإنقلاب نذيرَ شؤمٍ و قد كان, بالاضافة إلى كونه انقلاب علي حكومة منتخبة, في لحظات كان السودانيون يطوقون بإلحاح إلى ثورة لمواكبة الوضع العالمي, إلاّ أنّ ثورة الانقاذ كانت وثبة في الإتجاه المعاكس, حين قامت باسترجاع عصر القراصنة في زمن توجهت فيه البشرية إلى القانون الدولي, و قد تجلى ذلك في ممارسة الفساد الأخلاقي و الأداري و المالي, على مستوى لا مثيل له في العالم كله سوى دولتين أو ثلاث ( الصومال, أفغانستان و رُبّما العراق) , حيث تم فى العشرة سنوات الأولى تحويل السودان إلى أقطاعيات و معسكرات نازحين(اكبر عدد للنازحين في العالم 2005) و مجموعات ضخمة من طالبي اللجوء.
في حال إجراء مقاربات و تمحيص دقيق للتطور السلوكى لدى المجتمع السوداني على مدى التاريخ الاجتماعي للسودان, وجعل ذلك كخلفية لقراءة الأحداث ما قبل ثورة ديسمبر و بعدها يتضح أنّ فساد المؤتمر الوطني لم يكن بخلفيته الأيديولوجية فحسب, بل ببصمته الإجتماعية السودانية الخالصة , بالتالي تحميل كل التردى الأخلاقي و الفساد الإداري الذي حدث في خلال الثلاثين عام الماضية للمؤتمر الوطنى أو الحركة الاسلامية لا يخلو من بعض المزايدات, بل يظهر جلياً أنّ هذا الخلل يتجذر في التركيبة السودانية بكلياتها المجتمعية و المؤسسية, و يعلم الشعب السوداني علم اليقين أنّ القوة السياسية ( الأحزاب) التي أدّعت إشعال ثورة ديسمبر لم تقدم له شيئاً , و لا حتى لنفسها غير الإنقسام الذاتي و التشظي و مزيداً من الضجيج, مثل ما كان يفعل المؤتمر الوطني خلال الثلاثين عاما التي حكم فيها. بالتالي أنّ الخلافات ما بين العسكرين و السياسيين "المدنيين" و ما بين السياسيين أنفسهم أو العساكر, أو حتى بين مكونات المجتمع الأخرى, ناتج عن وعي مشوه, أو قصور معرفي عن بعضهم البعض.
تقول القصة أنّ مجموعة من المكفوفين كانوا دائماً يختلفوا في وصف الفيل عند تناولهم قصص الحيوانات , ذات يوم قرروا الذهاب إلى موقع الفيل للوقوف على حقيقته و الخروج من الحالة الافتراضية التي يعيشونها, بعد وصولهم موقع الفيل أكتفى كل واحد منهم بتحسس جزء معين من جسم الفيل , منهم من وضع يده على الذنب وأخر على الأذن, وأخر على الخرطوم, و هكذا استطاع كل واحد منهم معرفة الجزء الذي يليه فقط, بعد عودتهم إلى متندى السمر (الونسة), أتضح أنّ هذه الرحلة العلمية لم تضف شيئاً إلاّ مزيداً من الجهل بالفيل, و زادت حدة الخلاف بين المكفوفين, و قد أصبح كل شخص منهم يُعّرف الفيل حسب تجربته الفعلية التى اكتسبها من ملامسته على جزء معين منه. و أتضح أنّ مشكلة المكفوفين أنّهم أنتقلوا بخلافاتهم من الوعي الافتراضي للفيل إلي واقع مُحْتَمل ( واقع تجريبي غير مكتمل) , و هذا هو منتصف الطريق لتسوية خلافاتهم , و للخروج من هذه المشكلة يجب نقلهم إلي واقع تجريبي مكتمل (الوعي البصري) لرؤية الفيل بأكمله, لإقامة الحُجة كاملة . هذا هو حالنا الآن في السودان حيث كثيراً ما نظل أسرى لدى الواقع الافتراضي و المحتمل.
ظاهرة الاختلافات الموجودة بيننا في الساحة السياسية ما هي إلا انعكاس لظاهرة أشبه بـ "الفصام الاجتماعي" إن صح التعبير, التاريخ الاجتماعي للسودان يفسِّر ذلك و يثبت أنّ المجتمعات السودانية ظلّت منذ القرن الرابع عشر تتكاثر عن طريق الإنشطار الاثني و العشائري, الذى ترافقت معه حالات التناحر و التخاصم, مما أورث الاجيال اللاحقة ظاهرة عدم القدرة على التوافق, و التي تفشت في أنشطته الحياتية الأخرى, ومن ثمّ صارت بصمة إجتماعية لدينا و لا يمكن وصفنا إلا بها, و بالتالي انعكست في سلوكياتنا الخلافية على المستوى السياسي, و هذا ما سماه بعض المحللين السياسيين بـ" انسداد الأفق السياسي" ( الواقع الافتراضي), هذه الظاهرة أشبه بقصة " الفيل" المذكورة أعلاه التي عكست ظاهرة " العوز الإدراكي" و هي تُفسّر بعدم القدرة على معرفة الجوانب الأخرى من الحقيقة .
عندما قامت ثورة ديسمبر 2018 كانت التطلعات السياسية أن تقوم الانتخابات في 2023 العام الحالي, و يتحقق الحلم : يلتحق السودان بركب الدول الرشيدة , و يخرج من دائرة الفقر, لكن هيهات هيهات, الآن السودان يأوي حوالى 15 مليون جائع حسب الإسقاطات الإحصائية للأمم المتحدة أي حولي 32% من السكان يعانون الآن من سوء التغذية و سوف ترتفع هذه النسبة إن لم تُتخذ إجراءات عاجلة لمعالجة الموقف, كل ذلك بسبب " انسداد الافق" كما أقرّ عدد من المحللين السياسيين .
في سبيل اللّحاق بركب الأمم المتقدمة, علينا بالحُكم الرشيد, على أساس دولة القانون بقيادة كوادر ذوي كفاءة لتصحيح مسار الثورة. وعلى المكونات السياسية و العسكرية مراجعة مؤسساتها بتجرد تامّ, و تأهيل قدراتها لاستيعاب كل المكونات البشرية للدولة بمختلف تبايناتها السياسية , الدينية, الفكرية , الاثنية والثقافية, مع التذكر أنّ أغلب الحقوق الوطنية هي من مستحقات الأجيال القادمة و الصاعدة و من ثمّ الأغلبية الصامتة, و ليعلمنّ أنّ السودان أصبح كقصعةٍ تداعت عليها الأكلة, علينا تحمل مسؤوليتنا تجاهه, وهو الآن يتهاوى حتى وصل أوْ كاد أن يصل الدرك الأسفل. و أقل ما يمكن الاستوصاء به لتصحيح مسار الدولة, هو تطبيق المعادلة العامة للتنمية لإقامة دولة رشيدة و يتمثل ذلك في وضع ضوابط لإدارة راس المال البشري(الكادر الكفؤ), راس المال الاجتماعي( المؤسسة المطابقة للمواصفات) و راس المال المادي( الثروة).
لا أرى في عيوب النّاسِ شيئاً كنقص القادرين على التمامِ
عبدالرحمن صالح أحمد( أبو عفيف)
رسائل الثورة (41) 1/1/2023
aahmed59@gmail.com
facebook:رسائل الثورة

 

آراء