khirawi@hotmail.com
علاء خيراوي
في مدينة تُصنع فيها السياسات بقدر ما تُبنى فيها ناطحات السحاب، وفي مسرح عالمي تتقاطع فيه الفكرة والمال والناس؛ مدينة نيويورك، حيث يمكن لقرار صادر من مجلس بلدي أن تُسمَع أصداؤه في عواصم من تل أبيب إلى بكين، ومن الرياض إلى بروكسل، لم يكن الخامس والعشرون من يونيو ٢٠٢٥ يومًا عابرًا على صفحات الأخبار، بل لحظة انكسار في مسار تاريخي طويل من احتكار السلطة.
فهذه ليست بلدة صغيرة فاز بها سياسي صاعد، بل العاصمة المالية والثقافية الأولى في العالم، المدينة التي تحدد أسعار النفط من بورصاتها، وتُنتج الرؤساء من ساحات خطابها، وتُصدّر نماذج القوة الناعمة والصلبة إلى كل أركان المعمورة. وحين يرتقي شابٌ مسلم، ملّون من أصول هندية وأفريقية، ليهزم بسهولة حاكمًا سابقًا مثل أندرو كومو، ويصبح أول مرشح مسلم يفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك، فإننا لا نرى فقط نتيجة انتخابات، بل ملامح أمريكا أخرى تتشكل من رحم المدن، لا من خطابات العاصمة. هنا، لا يكون السؤال “مَن فاز؟” بل “كيف وصلت مدينة بحجم الأمم كلها إلى إعادة تعريف سلطتها، من يديرها؟ ولأي غد تُمنح؟”
ولد زهران عام 1991 في كمبالا بأوغندا، في بيت جمع بين نقد السلطة عبر الفكر، ونقد المنفى عبر الصورة. والده المفكر العالمي محمود ممداني، صاحب البصمة العميقة في دراسات ما بعد الاستعمار، وأمه ميرا ناير، التي صنعت أفلامًا خلدت معاني الهوية والاغتراب في محافل السينما الدولية. انتقلت الأسرة إلى جنوب أفريقيا ثم إلى نيويورك وهو بعد في السابعة من عمره، حيث نشأ في حي أستوريا الشعبي في كوينز، ليتعلم أن العدالة ليست فكرة أكاديمية، بل صراع يومي. درس في مدارس عامة، عمل مستشارًا للإسكان في أحياء الفقراء، عاش بين من تُهدَّد عائلاتهم كل شهر بالطرد من منازلهم، وهناك اكتملت ملامح مشروعه السياسي؛ أن يكون السكن حقًا، وأن يكون النقل العام كرامة، وأن يعيش الإنسان حياة لا تفرض عليه خيانة جذوره كي يحظى باعتراف الدولة.
في عام ٢٠٢٠، خاض ممداني انتخابات مجلس ولاية نيويورك عن الدائرة السادسة والثلاثين، ففاز باكتساح، وأصبح صوتًا للطبقات العاملة، والمهاجرين، والعرب، والأفارقة، واللاتينيين. وحين أعلن ترشحه لمنصب عمدة نيويورك في أكتوبر ٢٠٢٤، لم يُبدل لغته، ولم يُخفِ انتماءه للتيار التقدمي، ولم يُساوم على رسائله. خرج إلى الشوارع لا ليطلب صوتًا، بل ليعيد تعريف علاقة الناخب بالسلطة. أعلن برنامجه بوضوح؛ تجميد الإيجارات، توفير النقل العام المجاني، رفع الحد الأدنى للأجور، إصلاح جهاز الشرطة، دعم فلسطين دون خوف من اللوبيات. لم يطرح وعودًا في الهواء، بل استند إلى ما فعله في مجلس الولاية من مشاريع ومواجهات حقيقية.
في حياته الخاصة، لم تكن الشفافية مجرد تيار، بل موقف. ففي ديسمبر ٢٠٢٤، احتفل بخطبته من الفنانة السورية، الأمريكية راما دواجـي، ثم تزوجها مدنيًا في نيويورك مطلع ٢٠٢٥، وعاش معها في شقة صغيرة بإيجار معقول في أستوريا. وحين استهدفت الدعاية المنافسة زوجته بوصمها، دافع عنها في منشور شهير قائلاً؛ “ليست زوجة سياسي، بل فنانة مستقلة تحكي وجوه من أُسكتوا طويلاً.” لم يكن ذلك بيانًا للصحافة، بل موقفًا ضد تسييل الحياة الشخصية تحت أقدام المصالح السياسية.
لكن الحكاية لا تكتمل بدون تفاصيل الحملة، التي صنعتها الأقدام قبل الإعلانات. ففي أحد أيام مايو ٢٠٢٥، وبينما كان المتطوعون يطرقون أبواب شارع برودواي شرق أستوريا، خرج إليهم مهاجر سبعيني من بنغلاديش وسألهم؛ “هل هذا هو الرجل الذي قال إننا نستحق الترجمة بلغتنا في المستشفى؟”. لم يكن الرجل مسجلًا للتصويت، لكن المتطوعين اصطحبوه لتسجيله، ليصبح واحدًا من ٢٤ ألف ناخب جديد سجّلتهم الحملة. ليست مجرد أرقام، بل إعلان بأن ما عُدَّ هامشًا يمكن أن يكون مركزًا. وفي ليلة حارة في البورُوكس، وقف أكثر من ثلاثين ألف متطوّع، وطرقوا الأبواب، ووزّعوا منشورات بالعربية والبنغالية والأوردية والإسبانية، لا لتجميل صورة “التنوع”، بل لرد الاعتبار لصوت لم يُحسب في السياسة يومًا.
غير أن المعركة الأخطر لم تبقَ داخل دوائر الحكم المحلي، فقد اشتعلت الحملة حين دخل ملف إسرائيل وغزة إلى مركز الجدل السياسي. سُئل ممداني في إحدى المناظرات؛ “هل تؤمن بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية؟” فأجاب؛ “أؤمن بأن لكل دولة الحق في الوجود، لكن ليس على أساس ديني أو عرقي. العدالة لا تُبنى على التفوّق بل على المساواة.” كانت الإجابة كفيلة ليصبح هدفًا لحملات إعلامية ضخمة، وحاول خصومه تصويره كعدوّ للجالية اليهودية أو مؤيد لـ”الإرهاب الفلسطيني”. نشر الإعلام المحافظ صورًا له في مسيرة ضخمة بعد هجوم ٧ أكتوبر للمطالبة بوقف إطلاق النار، مستخدمينها كدليل إدانة ضده، وذكّروه بتوقيعه قبل سنوات على رسالة تؤيد مقاطعة المستوطنات الإسرائيلية. لكن ممداني لم يتراجع، بل قالها بوضوح؛ “لا يمكن أن أدعم العدالة هنا وأصمت عن الظلم هناك. من يرفض وقف إطلاق النار لا يريد سلامًا بل غلبةً لقوة على شعب أعزل.” ورغم ترويج ذلك كخطيئة انتخابية، تصدرت صور جديدة لممداني وهو يقف مع يهود تقدميين في تظاهرة تطالب بوقف الحرب، كتب تحتها؛ “اليهودي الذي يرفض الظلم ليس عدوًا… بل حليفًا في المعنى الحقيقي للسلام”. وللمرة الأولى في تاريخ المدينة، صار الجدل حول فلسطين معيارًا أخلاقيًا في سباق محلي، بدل أن يكون محظورًا أو مؤجلاً.
دل فقرة الجدل حول إسرائيل وغزة.
ما ميّز حملة ممداني أيضًا أنها لم تكن مجرد تكرار لأساليب القرن الماضي، بل كانت تجسيدًا حيًا لروح الجيل الجديد الذي يرى التكنولوجيا وساحات الشارع امتدادًا واحدًا للعمل السياسي. لم يعتمد على مستشارين باهظي الأجر أو حملات تلفزيونية تصنع الوهم وتُخفي الحقيقة، بل بَنَى “حملة من الناس وإليهم”، مُرتكزًا على متطوعين تقل أعمارهم عن الثلاثين، وعلى أدوات تنظيم رقمية خرجت من رحم تجارب بيرني ساندرز وحملات العدالة السكنية في بروكلين. رفع شعار “لا نحتاج مال المليارديرات”… نحتاج وجوه الناس”، ودعا المتطوعين لا فقط للترويج للمرشح، بل لصناعة سردية مشتركة عبر مئات الفيديوهات القصيرة على “التيك توك” و”إنستغرام ريلز” و”تويتر”، وهي منصات لا تزال الطبقة السياسية التقليدية لا تفهمها أو تتوجس منها. وفي خطوة جديدة على الحملات التقليدية، أنشأ ممداني “غرف نقاش مجتمعية” عبر تطبيق “زووم”، ضمّت أمهات مهاجرات، وسائقي أوبر، وطلابًا جامعيين، لتكون الحملة فضاءً يُصنع فيه التشريع قبل أن يُسنَّ. لقد فهم الجيل الذي ينتمي إليه أن الناخب لا يثق بسهولة، لكنه يثق بسرعة إذا شعر أنه ليس مجرد صوت، بل شريك في القرار.
ورغم زخم الشارع، لم يكن الطريق داخل الحزب الديمقراطي مفروشًا بالإجماع. فالجناح التقليدي في الحزب تردد طويلًا، وامتنع فرع الحزب في كوينز عن تأييده في الأسابيع الأولى، بذريعة أن برنامجه “يساري حاد” قد يُضعف فرصة الديمقراطيين في مواجهة الجمهوريين. لكن التقدميين كانوا أسرع وأكثر وضوحًا؛ بيرني ساندرز السيناتور اليهودي العجوز، و”إيه أو سي” التقدميين، وحركات العدالة الشعبية، ومناضلو السكن، كلهم أعلنوا مبكرًا دعمه بوصفه المرشح الذي يمثل “الناس الحقيقيين مقابل طبقة اللوبيات”. وحتى حين قدّم حكيم جيفريز زعيم الاقلية في مجلس النواب دعمه في اللحظات الأخيرة، لم يخفِ ذلك الانقسام داخل الحزب بين من يراه فتحًا سياسيًا، وبين من يخشاه سابقة. وكان دونالد ترمب يراقب المشهد من بعيد، قبل أن يظهر عبر قناة يمينية ليقول؛ “نيويورك تُسلّم نفسها لمرشح أجنبي، معادٍ لإسرائيل، يساري متطرف يريد إسقاط كل ما يجعل أمريكا عظيمة.” إدراكًا منه أن هذه الجملة ليست تحليلًا بقدر ما هي محاولة لاستعادة الخوف في صناديق الاقتراع.
ثم جاءت لحظة الانتصار. في هذا اليوم الرابع من نوفمبر ٢٠٢٥، قبل دقائق فقط، تغيّر وجه المدينة. أُغلقت صناديق الاقتراع، امتلأت الشاشات بالأرقام، وحسم مجلس المدينة النتيجة؛ زهران كوامي ممداني أصبح رسميًا عمدة نيويورك. لم يكن مجرد فوز انتخابي، بل عودةٌ جذرية للمدينة إلى أهلها. رجلٌ وُلِد خارج أمريكا، تربى في أحياء الفقراء، وواجه بصلابة مؤسسات عملاقة، ينتزع اليوم أعلى منصبٍ تنفيذي في أكثر مدن العالم تعقيدًا. خرج الناس إلى الشوارع من أستوريا إلى برونكس، من جاكسون هايتس إلى هارلم، لا ليصفقوا للسياسي الفائز، بل ليحتفلوا بأنفسهم، بالعودة إلى المشهد، بالحق في التمثيل، بالاسم الذي لم يعد مستحيلاً في لائحة العُمَد. ارتفعت الهتافات بقدر ما ارتفع الأمل، وسقطت جدران التصنيف القديمة على وقع عبارةواحدة تتكرر في كل زاوية
لقد فعلناها… وها هو المستقبل يفتح بابه من الأسفل، لا من عَلٍ.
ليس صعود زهران ممداني حدثًا انتخابيًا فحسب، بل إيذانًا بولادة زمن سياسي جديد في أمريكا، زمن لا يخجل من الانحياز للفقراء، ولا يعتذر عن الجهر بالمبادئ الأساسية للعدالة، ولا يكتفي بتجميل الوجوه بل بإعادة رسم الخرائط. لقد دخلت نيويورك عصرًا مختلفًا، لم يعد فيه منصب العمدة امتدادًا لمكاتب الشركات الكبرى ولا ورقة تفاوض في جيوب الحزبين، بل صار منصة مفتوحة لخطاب البديل الممكن، وشهادة حية على أن السياسة يمكن أن تكون أخلاقًا لا أدوات، مشروعًا لا واجهة، ومعنى لا شعارات.
إن فوز هذا العمدة المسلم التقدمي الأنيق، ابن الفلسفة والهجرة والسكن العام، الذي يفكر مثل الفقراء ولا يرتدي قناعهم، ليس مجرد تحول داخل مدينة، بل بداية معركة وطنية صامتة؛ معركة ستخوضها أمريكا نفسها ضد نفسها. فإذا كان ترمب يمثل سيارات الدفع الرباعي التي لا ترى في الفقر سوى “عرقلة للطريق”، فإن ممداني يقف اليوم علىس الجانب الآخر من الجسر، يحمل مفاتيح مدينة لا تعترف بالطبقية، ويلوح ببرنامج سياسي وأخلاقي قادر، إذا امتد عبر مدن أمريكا الكبرى، على إعادة تشكيل موجة سياسية مضادة لليمين الشعبوي، دون أن تنزلق إلى فوضى العدمية أو تسوية مركزية جوفاء.
لقد خرج الرجل من رحم العالم الثالث، ووقف في قلب القوة الأمريكية، لا ليُعيد إنتاج السلطة بملابس جديدة، بل ليُعيد تعريف السلطة نفسها؛ سلطة تُبنى من تحت، تُشرّع بلسان الناس، وتفكر بما وراء جداول المصالح، سلطة تسأل نفسها قبل أي قرار: لمن هذه المدينة؟ ولأي مستقبل تُصنع؟
إن ممداني ليس مجرد شخص وصل إلى مكتب العمدة، بل رمز لبدء التحول، للتحالفات الطبقية الجديدة، ولحضور المهاجرين في صناعة القرار، ولصوتٍ بدأ يرتفع من خارج الطيف الأبيض المسيطر، ولحقيقة أن أمريكا ليست حكرًا على أيديولوجيا مهووسة بالسلاح، والخوف، وخطابات التفوق الوطني. لقد آن للسياسة أن تكون قادرة على النظر في المرآة دون أن ترتعد. وها هو يقف في الصف، يحمل هذه المرآة في وجه الجميع، ويقول ببساطة لا تتورط في التعقيد، لن تكونوا كبارًا ما لم تنصتوا للصغار. ولستم في القمة إن كانت القمة بلا قِيم.
هذا هو وعد العصر الجديد. وعد يبدأ بعمدة مسلم اشتراكي تقدميّ اسمه زهران ممداني، ولا يعرف أين ينتهي، وفي مدينة تعد هي عاصمة المال الاولي في العالم، بها ١٢٣ مليارديرا كلهم ما عدا اثنين دعموا منافسيه الآخرين.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم