السودان الوطن الممكن:
يا شرفة التاريخ
Abdullahi.gallab@asu
نعم لقد انجزنا بالثورة واحدة من اهم إنجازات القرن الواحد وعشرين حيث انتصر اللاعنف على العنف المدجج بالقبح و باسلحة الدمار الشامل. وذلك انتصار له قيمته الكبرى التي يسجلها الحاضر ويحفظها التاريخ.فالثورة في أهميتها الكبرى وغايتها العظمى تجديد تاريخي. فقد ظل شاغل الانسانية على مدى عمر طويل من الزمان يسعى الى كيف لها الخلاص من مثل تلك النظم القمعية الدكتاتورية. نعم لقد نجحت العديد من الجماعات الإنسانية التي سبقتنا بالتخلص من مثل تلك النظم الشمولية القمعية ولكن في معظم الأحوال كان ذلك بخسائر كبيرة في الأرواح وكثيرة في العتاد . رغما عن ذلك نقول ان خسائرنا في تكاملها ليست بالقليلة في اعيننا أوالرخيصة في تقديرنا وفهمنا. ولكن رغما عن تجاربنا القاسية في منازلة الشموليات فقد ظل لنا ذلك التصميم القوي بان نقدم نموذجا يحتذى لانفسنا و للعالم في التخلص من مثل تلك النظم القمعية باتباع نهج السلمية. ولنا ان نفتخر بان كل من ثوراتنا الثلاث قد أعطت كل منها نموذجا سلميا نبيلا. نعم وفي كل من تلك التجارب لقد وجهنا الشر بأعظم ما عندنا من خير: السلمية في كل حال تلك هي قيمتنا التي نعتز بها.
لذلك فقد استعادت لنا الثورة سودانيتنا وقيمها العليا التي حاولت الاسلاموية ما استطاعت سلبها منا. ولعل ما فهمته التجربة الانسانية هو ان الشمولية والدكتاتورية هي النموذج القائم على الضعف والخوف. وقد قال ابن المقفع من قبل ان صاحب الحكم مثل راكب السبع يخافه الناس وهو منهم أخوف. ولقد تجلى ذلك في هلع عمر البشير عندما طلب الفتوى من فقهاء السلطان الذين طمأنوه بان مالك قد أفتى بقتل ثلثي او نصف مواطني المعارضين ويمكن ان يتم ذلك في السودان. ومع ذلك فقد افتي هو إدارة البوليس بان العنف الذي يريد منهم ان يقوموا به هو قصاص.
وبمقدار ما ظل الإسلامويون ودولتهم ورئيسهم يسعون بالعنف من يومهم الاول كان نداء ملايين شباب المعتصمين ينادي “من كل حسب مقدرته ولكل حسب حاجته”. لو قدر لأي أو كل من أوغست بيكر او لويس بلان او كارل ماركس من فلاسفة الاشتراكية لاستلهموا من شباب الميدان ما دفعهم لتعديل شعاراتهم تلك. ذلك لان اعظم ما في ذلك ان الثورة قد ارتقت بكل فرد الى شخصية عامة عكسا لما أتت به الإنقاذ اذ حولت اي شخص من أفرادها الى شخصية خاصة تسعى بالتمكين والكسب عن طريق عنف الدولة الى أقصى درجات الأنانية وكما عبر عن ذلك السخرية السودانية بقولهم “الهبروا ملوا” لا بالمعنى الصوفي وانما بعكس ذلك.
هذا ومن جهة أخرى نجد ان معظم إن لم نقل الكثير من الذين تعرفوا على السودان والسودانيين للمرة الأولى قد إتفقوا مع الذين ظلوا يراقبون المسلك السوداني لوقت طويل أو قصير زائرين كانوا أو دارسين حكاماً كانوا أو تجاراً بأن القاسم المشترك الأعظم بين السودانيين على طول البلاد وعرضها هو تلك الجبلة الصدوقة والودودة إضافة إلى تلك الروح المتسامحة. هذا ومن جهة أخرى فإن السودانيين في “تغريبتهم” الكونية الأخيرة في العقود الثلاثة الأخيرة وتبعثرهم في المهاجر العربية والأوربية والأمريكية والكندية والأسترالية وغيرها وجدوا ما وجدوا عن طريق المقارنة من صفات تميز الآخرين عنهم أو تميزهم عن الآخرين ما يعتد نعتز به. وكما تعرّف أو وجد مضيفوهم في الغالب الأعم في العديد من الدول وعلى مدى الفترات المتلاحقة تلك الصفات الودودة إضافة إلى الإخلاص في العمل وتقدير الواجب. هذا ولعلنا جميعاً قد ظللنا على درجات من الضيق من بعض الأشقاء الذين ظلوا يصفوننا عياناً بياناً ونهاراًجهاراً بالطيبة وهو وصف في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب. بالطبع كل ذلك في مجمل ما يحمل أو يمكن أن يحمل لن يجعلنا نتجاهل على سبيل المثال لا الحصر كتاب أنتوني مان الشهير “حيث ضحك الله” وبعض الكتابات المستشرقية الأخري التي كتبت إبان الحرب الباردة والحارة بين السودان وبريطانيا التي كالت الأوصاف شعراً ونثراً للسودانيين منددة بما صنعت من كلما هو قبيح عنهم أو عن بعضهم. هذا وقد لعب علم الأنثربلوجيا الإستعماري دوراً كبيرأ في نقل صورة أبسط ما يمكن أن توصف به أنها موغلة في العنصرية.
ومهما يكن من أمر فإن أى من تلك الأوصاف التي ظل يطلقها أهل السودان على أنفسهم أو الصورة التي ظلوا يرسمونها لأنفسهم وتلك التي ظل يرسمها لهم الغير لا تنفي عن السودانيين بعض عيوبهم المشتركة ولاتضخم من محاسنهم المكتسبة بصورة نهائية. فهم مثل غيرهم من البشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم من هذا وذاك. إلا أن لمثل ذلك السلوك العام الذي يتميز بالتسامح والود ومثل تلك “العقيدة عن الذات” ما يمكن أن يترتب أو ما تقوم عليه الحياة العامة وفي الأطر التي تقوم عليها وتائر التنشئة الإجتماعية والتي يمكن أن تتطور في المجال العام أو ما يمكن أن يلحق بها ويتنامى في داخلها المجتمع المدني في أشكال مختلفة من الجمعيات والتجمعات والمنابر والأحزاب والتي ينضوي تحت لوائها وينضم إليها الناس وفق إرادتهم الحرة والتي يمكن أن تعكس تلك الروح العامة التي تهدف في المنتهى لأن تكون قوة مادية لصناعة حياة مسالمة تتطور وفق أساليب متفق عليها في إدرة الشأن العام بشكل يمكن أن ترضى به وتشارك فيه بأشكال متنوعة ومتعددة الأكثرية من الناس. من ذلك يمكن أن يبتدع مناهجاً يتبعه الناس في صناعة ونماء تلك الحياة. هذا ومن كل ذلك يتكون أيضاً بناء الدولة ككيان متسق في مهامه مع الروح العامة لذلك المجال العام و بالتالي تكون وظيفتها الأساسية هي إدرة حياة ومصالح الذين أشادوها بالمعروف لا أن تنهال عليهم قولا وعملاً بممارسة القوة والنبوت. وبتعديل لقول كارل ماركس فإن الإطار التنفيذي للدولة الحديثة تكون هى لجنة لإدارة الشؤون المشتركة للأمة بكاملها لا لمصلحة طبقة بعينها أو جماعة عسكرية أو آيديلوجية. لذلك فهناك فصل بين المجال العام والمجال الرسمي. ويظل العدل هو أساس الحكم كما يظل المجال العام هو القيام على امر الدولة وأدائها وهو الذي يعطي مؤسساتها الثقة ومواطنيها السعادة والأمان وليس العكس. ولذلك فإن كل الذين يقولون بعكس ذلك هم الذين ظلوا يسعون بالسيطرة على جهاز الدولة وتسخيره من أجل البطش بالمعارضين والمختلفين معهم في الرأي وبمثل ذلك الأسلوب توجه وتوزع المظالم والمكاسب وتوزع المغانم بدون عدل. ولذلك فإن جذور دولة الانقاذ البائدة وكل النظم الدكتاتورية البائسة تمتد إلي تلك الدولة الإستعمارية التي أشادها ريجنالد ونجت حاكم عام السودان المستعمر من ١٨٩٩ وحتى ١٩١٦ ذات يوم كترياق للمجال العام والتي تقوم فيه بإستعمار حياة المواطنين الإقتصادية والإجتماعية والدينية وحتى الخيال العام. بالتالي أخذت دولةالإستعمار المعرفة ومحاولة “تموينها” بالشكل الذي تراه تلك الجماعة أوغيرها هو المنهج والمسلك الذي الذي قامت عليه دولة الإنقاذ أو “الأم البديلة” للدولة الإستعمارية وان كانت قد أصبحت أكثر ظلماً في توزيع المظالم والمغانم من تلك الأم البيولوجية للدولة الإستعمارية لا لأن ونجت قد كان أقل ظلماً بل لأنه قد تيسرت للقائمين على أمر دولة الانقاذ من وسائل وأساليب البطش ما لم يتيسر لونجت ومن تبعه بغير إحسان.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم