مهمة الوعظ والدولة (7) : الخليفة والمهدية: توظيف الرمز المقدس

 


 

 


ghassanworld@gmail.com
محمد أحمد (الغريب الحكيم)، الوافد الجديد المدهش، ومدهش هذه ليست تعبيراً مزيفاً، بل كانت بضاعة محمد أحمد مختلفة، وكوننا وصفنا حضوره في مدخل الهامش بالمدهش والمختلف، لأننا نريد القول إن البنى الاجتماعية هي حصيلة تراكم للقيم، وحينها تصبح أي محاولة لزحزحة السائد منها، محاولة مكلفة وتقابل بمقاومة فطرية، إذ الهرم قد ينهار على بُناته، وهذا يشير إلى أن التحولات تجري في المجتمعات باعتناق الوافد من القيم، أي ما يستحدث في البنية هو القادم إليها من قيم تتحد بالموجود، وهذا نجده في فلسفة بن خلدون الاجتماعية، إذ يصف الرجل طبيعة الدولة وأطوارها، وفيما يتعلق بخاصية التحولات الجذرية فيها، فهو يفرق بين الدولة ذات الحضارة الضاربة في القدم، وكيف أنه وإن تملكها غازي جديد فإنه لا ينفك يعيد تثبيت البنى الرئيسة في هذه الدولة الحضارية، فالقيم الراسخة أقوى منه، ويضرب مثلاً بذلك حالة مصر وفارس، ففي تقديره أنه لقدم الشرائع والسياسات في هاتين الدولتين فإن العرب ما استطاعوا إلا الانخراط في تبني هذه القيم السائدة فيهما، ويضرب مثلاً بمسألة سك النقود، وترتيب الدواوين، أما الدول ذات التاريخ المضطرب والتي تغيب فيها وحدة الكيان، مثاله في ذلك إفريقية وأرض البربر في المغرب، فيقول إن العرب حين استولوا على تلك البلاد لم يجدوا آثاراً لقيم سلطانية يستندوا عليها لذا حضروا بوعيهم القبلي المتشابه وطبيعة تلك البلدان فأصابها التفكك والانحلال في آخر المطاف. لكن ما علاقة ما يقوله بن خلدون بدرسنا؟ العلاقة تتلخص في ثنائية (الهامش/المركز) فمحمد أحمد حين انطلق بدعوته السياسية الباكرة وهي في أصلها دعوة إصلاحية، اختار الرجل الأرض الخصيبة لتجذير وجوده فيها، أي التي تسمح ظروفها الحضارية بإقامة مشروعه المستند على تغيير اجتماعي كانت تلك الأقاصي في أمس الحاجة إليه، والرابط الأكثر دقة بين هذه الوضعية وحديث بن خلدون أعلاه، أن الدولة التي أنشأها الخليفة التعايشي كانت دولة الهامش وهذا يفسر طبيعة أفعاله السياسية المتسمة بعنف البادية في عبارة بليغة لحسن الجزولي.
محمد أحمد يُركب مركزه من جديد في قلب الطبقة:
هناك نقطة مهمة وهي تتعلق بالصراع بين المهدي وشيخه محمد شريف، وقد نقلنا في الحلقات السابقة بعض نتف من قصيدة الأخير يهجو فيها الرجل ويُحقره، وقلنا إن السبب لم يكن دينياً كما صور لنا، أي أن فراق الرجلين كان بسبب من اختلاف حول مسألة دينية، والشهير هنا ملاحظات محمد أحمد الناقدة على شيخه كونه يسمح النساء بتقبيل يديه، وأنه أقام احتفالاً لختان نجليه رأى فيه محمد أحمد خروجاً عن تقاليد الدين، وشروط الصلاح، وقصصنا عليكم التحالف الجديد الذي عقده محمد أحمد مع أبناء الشيخ القرشي، وأنه استطاع الخروج من أزمته وشيخه منتصراً، ونال حق الاستخلاف من جديد، أي أنه أعادة تثبيت موقعه الطبقي بعد أن كاد يفقد سوقاً لبضاعته الجديدة، بضاعته من الإصلاح الديني، وبطبيعة الحال السياسي.
وتقول الرواية أنه كان في الحلاويين بين المسلمية والكاملين على النيل الأزرق شيخ يدعى الشيخ القرشي وقد أخذ الطريقة رأساً من الشيخ الطيب مؤسس الطريقة السمانية، وكان بينه وبين محمد شريف مناظرة، وهذه من مسببات الجفاء بين الرجلين، وحين فقد محمد أحمد وجوده بين السمانية عند شيخه السابق محمد شريف، التجأ إلى الشيخ القرشي وجدد عليه عهده ومشيخته، وحينها كتب محمد شريف إلى الشيخ القرشي يعاتبه على قبوله محمد أحمد، وهنا أيضاً نلمح الصراع في بعده السياسي وإن تخفى ببعد ديني، وهل كانت السياسة في سودان القرن التاسع عشر إلا مظهراً من مظاهر الدين؟، عموماً رفض الشيخ القرشي طلب محمد شريف في إبعاد تلميذه السابق محمد أحمد، ورده بالقول: "إني رأيت محمد أحمد مستحقاً ومنع المستحق ظلم"- راجع نعوم شقير – تاريخ السودان، صفحة: 326.
(العنف الطبقي) وتجليات الصراع بين الهامش والمركز:
إن العنف الذي رافق الحياة السياسية في دولة التعايشي سببه، الهيمنة من قبل وعي الهامش على المركز، وعيه المنصرف أكثر ناحية التوحش والعنف سبيلاً للممارسة السياسية، وما كان التعايشي يملك أكثر مما يملك في وعيه السياسي، ولذا فمحاكمته يجب أن تتم وفق الأفق الحضاري الذي ينتمي إليه، وحديثنا الفائت حول التحالف بين المهدي والتعايشي، المهدي المالك لامتياز الجلابة، والتعايشي صاحب الجماهير، يتأكد أكثر ونحن نقرأ، أن الخليفة الذي كان أول المؤمنين وأكثرهم حماساً، وأنه وبحكم انتماءه إلى قبيلة التعايشة والبقارة، والتي تميزت بتنظيم قوي حربي، تحت إمرة إقطاعية من ملاك العبيد (سنعرض لمسألة الرق في المهدية في قادم الحلقات)، كيف أنه استطاع بتوفير عصبية البقارة أن يجعل من نفسه وجماهيره نواة الطبقة الحاكمة في دولة المهدية. ونعتقد أن أول صدام جرى بين الهامش والمركز كان بين (الأشراف) من أقارب المهدي وهم هنا يمثلون المركز بقيمه وثقله الحضاري، وبين النبلاء الجدد من البقارة والتعايشة وعلى رأسهم الخليفة بالتأكيد، وهذا الصراع الذي نجده يتخذ أشكالاً للنزاع السياسي حول أحقية تولي السلطة، فالأشراف يرون وراثة يمكن تسميتها تجاوزاً (وراثة حضارية) أي الأمر تكرار لمشهد البيعة بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ جرى التنازع بين أهل الوراثة، وأهل الحق السياسي، قلنا إن (الأشراف) رأوا في وراثة الدولة التي أنشأها المهدي حق مشروع بحكم انتساب الرجل إليهم، ورأى التعايشي بحكم الواقع وعلاقات القوة، أنه أحق حتى وإن لم يعينه المهدي خليفة له، إن هذا الصراع، وهو صراع دموي في حقيقته، وكشف عن ذلك محاولة اغتيال الخليفة في داره، والرد غير المتناسب من قبله، إنه ليكشف في جوهره عن أزمة أكثر عمقاً، وهي أزمة تصادم حضاري بين طبقتين في الظاهرة الاجتماعية السودانية، وقد تعددت التفاسير حول أسباب العنف الذي مارسه الخليفة ضد أقارب المهدي ومناصريهم من سكان النيل، فأغلب هذه التفسيرات ينحو إلى عدم تحميل الخليفة وزر هذا العنف، إذ هو عنف متبادل، وما كان أمام الرجل إلا حماية نفسه وحقه النضالي في سبيل الدعوة، وهذا التفسير نجده لا يشفي، لأن العنف حينها تحكمت فيه نزعات الخليفة ورهطه، نزعات محكومة بسلطان العصبية القبلية، ولا وجود لفكرة الولاء القومي، وهذه واحدة من أكبر الأساطير، تلك القائلة بأن المهدية وضعت لبنات الشعور القومي عند السودانيين، وهذا حديث نشكك في صدقه، فتاريخ الدولة لا يعدو كونه صراعاً طبقياً بين الهامش والمركز، فالوضع انقلب بعد وفاة المهدي لأن الخليفة قام بإبعاد أبناء وأقارب المهدي، من أم درمان، ومن مراكز النفوذ والسلطة، وقيد حرياتهم، كما صادر أموالهم المنقولة والعقارية، وهنا تم إفساح المجال لطبقة (الجلابة الجدد) وهم زعماء البقارة الذي صاروا السادة الفعليين للبلاد (راجع في ذلك: دولة المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفييتي، تأليف: سيرجي سمرنوف، ترجمة: هنري رياض، دار الجيل بيروت – الطبعة الأولى 94- الصفحات : 121- 122).
ترى لماذا لم يجد التعايشي من سبيل إلى تجديد التحالف بينه والجلابة؟ هل اكتفى بالذي ناله من امتياز بحكم أنه الرجل صاحب الدعوة والدولة، صاحب الدعوة أي يملك الجماهير التي ناصرت وساهمت بقوة في تثبيتها، وصاحب الدولة بحكم خلافته الدينية والسياسية للمهدي، هل كان السبب الحقيقي أن هذا التحالف كان تحالفاً أملته ظروف بعينها، أي تحكمت فيه علاقة ذات بعد واحد، وهي توظيف المهدي الرمز النيلي الجلابي لصالح هيمنة طبقة جديدة من النبلاء المصنوعين بالقوة؟ هذه أسئلة تحتاج إلى أجابة.. لكن الفقرات القادمة نخصصها حول التحالف بين الديني (الغرب) والسياسي (النيل) وفي ذلك نعرض لحيثيات دعوة التعايشي الزبير (باشا) لقبول المهدية، والأهم قبول التعايشي وزيراً وخليفة!.
متى قابل التعايشي الزبير (باشا)؟!:
الحديث حول الزبير (باشا) يطول وتتعدد فيه الأحكام، ولكننا نضرب صفحاً هنا عن مسألة (الرقيق) والزبير، نفعل ذلك على أن نعود إليه مرة أخرى، ونحن نسير في هذه السلسلة، وهنا يهمنا الوقوف لتحقيق اللقاء بين الزبير والتعايشي، وحول دعوة الأخير للزبير كونه المهدي المنتظر..
إن الخليفة بحكم نشأته الدينية والمهام التي أوكلت إليه من والده برعاية الخلاوي والقيام بواجبات سياسية أخرى، من ضمنها فض النزاعات التي تنشأ بين القبائل، كان قد حاز موقعاً دينياً (تقرأ سياسياً) وسط القبائل هناك، فقد كان يقدم خدماته الروحية أيام الحرب، وبالذات أثناء حرب الزريقات الذي استخدموه، أي استخدموا قدراته السحرية في إفشال قوة الزبير الحربية، ومن ذلك أن طُلب منه عمل تعويذة تمنع إطلاق الرصاص من بنادق العدو (الزبير)، هذا الموقع لا نشك أن الرجل قد احتله بقدراته الخاصة بمعايير ذاك الوقت، أي التعايشي لم يكن خلواً من ذاكرة المهدية المنتظرة حين قابل المهدي في الجزيرة أبا، بل دعوته الزبير أن يكون هو المهدي تكشف عن تدبير سياسي باهر، فبعد الهزيمة التي تعرض لها محاربوا الزبير في الغرب، وجد التعايشي فرصته أو إمكانية لفرصة عرض بضاعة رائجة في الغرب وهي الجمع بين السياسي (القوة الحربية والإدارة السياسية) وبين الديني (وهو في المتخيل هناك يعني المهدية التي تحتاج امتياز آخر) ولكن الزبير رفض ذلك بحكم وعيه لموقعه السياسي وبحكم آخر هو تركيبته الدينية، فقد كان رجال الدين جزءاً من حملات الزبير هناك، وهو فعل لا يخلو من دلالة حول مهمة الرجل، فهو ليس رجل سياسي فقط، بل رجل دولة يحتاج السند الديني في أفعاله السياسية، فوق ذلك الرجل ينتمي إلى فضاء حضاري يفرق بشكل وبآخر بين الدين والسياسة. ولنفهم أكثر نقف عند رواية نعوم شقير في الأحداث التي رافقت عرض هذا التحالف بين الزبير والتعايشي..
إن العلاقة بدأت مع التعايشي أثناء حرب الزبير والرزيقات، ففي حرب الزبير مع الرزيقات في 1873م تقول رواية شقير أن الرزيقات استخدموا فقيهاً من فقهاء التعايشة يقال له عبد الله ود محمد آدم تورشين ليقرأ لهم الأسماء في خلوته لعلها تقبض سلاحي (سلاح الزبير) فلا يطلق ناره في ساحة الحرب وقد تعهدوا له ببقرة من كل مراح، ويحكي الزبير عنه التعايشي أنه وقع أسيراً في يدي في حلة السروج بين (شكا) و (داره) فأمرت بقتله. وكان معي 12 عالماً من علماء الشرع وقد حلفتهم على القرآن الشريف إنهم إذا رأوا في أحكامي إعوجاجاً عن الشرع ينبهوني إليه، فلما أمرت بقتله (التعايشي) اعترضني العلماء وقالوا إن الشرف لا يسمح بقتل أسير الحرب، فضلاً عن أن السياسة تنكر عليك قتل رجل يعتقد الناس في صلاحه، لإنك إن قتلته نفرت القبائل (هذا رأي سياسي يحتكم إلى طبيعة الواقع هناك) وعدتك رجلاً ظالماً مخيفاً فامتنعت عن قتله.. ولم يكتف التعايشي بهذا العفو، بل طلب لاحقاً من الزبير بعد فتح دارفور أن يمنحه أرضاً في (قيجة) غرب (الكلكة) فأعطاه الزبير بشرط أن يكف عن التدجيل، فرضي التعايشي بذلك، ولكن يبدو أنه رضا مؤقت، فلم تمر أشهر حتى أرسل كتابه إلى الزبير مرة أخرى يقول فيه: (رأيت في الحلم أنك المهدي المنتظر وأني أحد أتباعك فأخبرني إن كنت مهدي الزمان لأتبعك)، وجاء رد الزبير حاسماً يقول: (استقم كما أمرتك أنا لست بالمهدي وإنما أنا جندي من جنود الله أحارب من طغى وتمرد. (راجع: نعوم شقير: تاريه السودان، صفحات: 270- 271).
إذن عبد الله التعايشي لم يكتشف فجأة أن المهدية قادمة من النيل، ولم يكن لقاؤه بمحمد أحمد صدفة تاريخية كما تشير بعض الروايات، فهو وزير المهدي قبل ظهور المهدية من الأساس، وهذا يجعله صانع المهدية وليس مكتشفها فقط، وإصراره على أن يكون أول من يناصر المهدي في السودان يكشف عن وعيه السياسي، فعرضه المرفوض على الزبير (باشا) جعله يعيد ترتيب حساباته مرة أخرى، فإذا ما لاح له جلابي آخر، يقدم عليه ويعيد تقديم بيانات التحالف من جديد، بيان تحالفه المحدد بعناية شديدة، أي للنيلي حق امتياز أن يكون مهدياً أن أي يكتفي وقد اكتفى محمد أحمد بالفعل، يكتفي بالرمزية الدينية المتاحة له بشروط انتماءه الحضاري إلى النيل، ولكن الدولة وشغلها مسئولية الوزير، وزير المهدي، وهل الوزير في تعريفه ألا الشخص الذي توكل إليه مهام الدولة، مهامها الرئيسية من إدارة وحكم؟ نعم كان الخليفة واع تماماً بمؤهلاته التي تجعل منه وزيراً ينتمي إلى الهامش ويملك جماهيره، ولذا فالرجل عقد تحالفه مع محمد أحمد بهذا المعنى، لك مني جماهير مقاتلة ومحكومة بالبعد العقائدي، على أن تقدم لنا امتيازك الحضاري.. وقد نجح هذه المرة فيما فشل فيه سابقاً.. نواصل..

 

آراء