موكب الثلاثين من يونيو على س 24: هكذا هكذا وإلا فلا لا

 


 

 


 

كنت عتبت على القنوات التي غطت موكب الثلاثين من يونيو أنها قدمت الندوة لمتحدثين عنه على دينامكيته ودراماه على الشارع. فكانت الندوة هي التغطية بينما كان الموكب خلفية في الغالب مع أغان ثورية دارجة. وكذبت نفسي بعد مشاهدة يوم مفتوح لتغطية الموكب على قناة س 24 للمذيع النابه حذيفة عادل. فلو قيل ما كان تصورك لتغطية ذلك اليوم حين عتبت على تلك القنوات لقلت لم أكن لأت بأفضل مما فعل حذيفة.

وجدته مزج عناصر الندوة والموكب والغناء بصورة رشيقة تناصرت كل منهما في تغطية مميزة للمليونية. فحباه الله بقادة شباب يقطرون نضجاً. وسعدت بالاستماع إليهم. فقد كنت راهنت عليهم والثورة ما تزال طفلاً. تلقيت مكالمة ممن أحسن الظن بي دائماً. كان مشفقاً. قال لي أن أعود أدراجي إلى الوطن فكابينة القيادة للثورة خالية. قلت له لا تقلق خاطرك. فقادة الثورة سيخرجون من بين فرثها ودمها. وأذكر أن قلت له وسترى طلع القيادة متى شاهدت شاباً اعتلى أعناق من حوله وهتف وسمع صدى هتافه. فذلك قائد من كسب الثورة.
سجلت للمتحدثين وهم هشام النور وحسام أبو الفتح ووائل سامة عبارات وقفت عندها خلال حديثهم دالة على فتح قيادي في النظر والتدبر. منها:
أخشى أن نكون فنزويلا أفريقيا"، "من حسن حظنا أن الجيش لا ينقلب إلا بدفع من مدنيين" (واختلف معهم في هذه جداً)، "الثورة بدأت بتظاهرة مدرسة لم يجد طلابها ما يفطرون به. فلا سبيل لتقليل خطر النقص في المواد التموينية "، ""هذا فشل بلا إبداع. فشل أقدم من الإنقاذ منذ 1956. ما المشكلة في إدارة بلد عرض إرادته في الاستقلال وأكتوبر وإبريل وديسمبر؟ مشكلة من يريد التغيير هي استنطاق إرادة الشعب. وهي عندنا وافرة"، "موكبنا مطلبي لا احتفالي"، "النظام السابق يعرف في قرارة نفسه أنه قد انهزم"، "ديسمبر قطيعة مع الماضي. ولا مجال لإهدار الفرص. وتعلم قحت أن الشارع ليس بسيطاً ولم يبايعهم". وأصغيت لمن سمح لنفسه منهم بلحظة شفافية متأرجحاً بين قمة في العزة بالثورة وقاع للأسف لفشل الحكومة الانتقالية. ثم سأل بحزن: لماذا يعايرنا أهلنا والفلول بهذه الحكومة التي خضنا لحصولها الدم؟" ونضج العبارات (مع تحرير قليل) بالوعي الثوري لا يخفى على أحد.
ولم يضخ برنامج حذيفة غناء الثورة ضخاً. بل انتقل من الأستوديو إلى عرض تمثيل صامت بالجسد (بونتمايم) من مدينة الأبيض. ظهر تهارقا على الكادر مع أغنية وردي "يا شعباً لهبك ثوريتك". وظهر الثوار في بانتوميم تظاهرة. وجاءنا صوت المخلوع: "ديل عملاء". ثم صوت "يا بوليس ما جينا عشانك". أصوات. إذاعة خبر من إذاعة. صوت تظاهرة. كسر حائط المسرح الرابع ودخول التظاهرة بين المتفرجين. رصاص. أغنية "يا يما لازم تعفي لي". المقتلة.
ونقل البرنامج المواكب نقلاً حياً في ثلاث مناطق في الخرطوم والخرطوم بحري بمراسلين من الجيل كان حازم على رأسهم. وكانوا ممن تدربوا على هذا الفن طوعاً في منعطفات الثورة السعيدة والعصيبة تحت وابل الأفراح والرصاص. ولا زلت اذكر لحازم سعادته يحاور الدسيس مان يفرقع صباح القيادة بالضحك الذهبي. ثم يعكر الصفاء يوم فض الاعتصام لأراه وقد انكسر مثل البرق. وتعطل حسه بالمستقبل إلى حين.
تقل البرنامج المواكب عن كثب وكأنك طرف فيها. وترى تنسيقياتها استعدت للشائنين من الفلول الذين سيستنكرون موكباً في زمن الكرونا. فترى أن تأمين الموكب وصحة المتظاهرين كانا هاجساً لتنسيقية شارع الستين. فوفرت كمامات وأقنعة ومكنات رش. وحاولت ضبط التباعد جهدها ولكن استحال عليها باعترافها في أحيان كثيرة. والتقى المذيع وتحدث إلى قائد شاب كان ضمن من حمل مذكرة لجان المقاومة إلى السيد رئيس الوزراء. كما ترى في موكب الخرطوم شرق شنطة اسعاف مما وزعته تنسيقيتهم على طواقمها على طول الموكب متى ظهرت الحاجة لها. كما عينت عيادة في المعمورة تتولى الحالات التي احتاجت لإسعاف. كما هيأت المستشفيات في الجهة لاستقبال الحالات التي قد تحتاج إلى عناية أدق.
وكانت أخبار موكب بحري المزعجة ينقلها عمار أول بأول. ففرقت الشرطة موكبهم السلمي حتى أنهم كانوا يحرسون نقطة شرطة الصافية. وترى استنكار ذلك العنف بحقهم في وجوه الشباب من حول المراسل. فقد أطلقت الشرطة عليهم البمبان ووسطهم نساء وأطفال وطرمبات بنزين بغير سبب مما هو دليل على أن مقاليد الأمر ما زال بيد الدولة العميقة. وقامت بالتفريق عربات ثلاث لشرطة فرع العمليات. واتهمهم الشباب بأنهم كانوا كمن يريد تفجير محطة بنزين لتحميل الثوار المسؤولية. والسؤال: من أين جاءت تلك السيارات؟ وبسؤال المراسل إن كان قد صحبت النيابة الشرطة خلال الموكب فأجاب بلا. وتكلم متظاهر ثائر عن أنهم لن يحتملوا هذا التهوين بهم لأي وقت آخر. وأنهم "صابنها" هناك ولن يتفرقوا. فحمله من حوله ورنت الهتافات.
وكتن موكب الشجرة والحماداب طموحاً برصانة. وكان قادته على اتصال مع رفاقهم الديم. خططوا للتظاهرة حتى مجلس الوزراء وتسليم مذكرة لرئيسه لأنهم كما قالوا جاؤوا بهذه الكراسي بدمائهم. ساروا حتى جامع شروني. وهناك أوقفتهم الشرطة وأبو طيرة والجيش من ورائهم. وقرروا الرجوع بسلامة.
عتبت على تغطية موكب الثلاثين في برامج أخرى لأنها تعاطت معه كحدث والمشاهدون فراجة. وكان توفيق برنامج حذيفة كبيراً في تغطيته ككرنفال أو طقس نحن بعضه حيث كنا. ومتى كنت في الحدث أو الطقس رأيت بعينك كثافة الثورة، وشبكاتها، وتشبيكها، وسهر قادتها على سدادها، وعطر زمالتهم. وتفرغ من البرنامج وقد توطن فيك إن "ثورتنا دي ما بتقدرا" حقاً. وأنها في مرحلة "الوحول" من فرط ما ورثت من أثقال والوحول، كما قال المتنبي، أمر مقدور عليه:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهونُ ما يمر به الوحول
لقد خضنا المنايا للثورة والوحول مكلف . . . ولكنه هين.
https://www.youtube.com/watch?v=NpRuVq2oS_g

YouTube
www.youtube.com

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء