نحو عدالة تحكيمية: نظرات حول قانون التحكيم 2016 م

 


 

 

كثيرة هي محاولات المشرع السوداني لترقية القانون السوداني وتطويره  عبر تاريخ الدولة السودانية الطويل ،  ولايخفي علي المطلع دور السلطة  التشريعية  في سن  القوانين  بمختلف اقسامها  ، ومع هذا  تبقي جهود النائب العام ووزارة العدل مكملة  لعمل الجهات العدلية الاخري من الشرطة والقضاة  ومحامين   وداعما فعالا  لتطبيق القانون وتحقيق العدالة للقاصي والداني، ومامن شك ان الشعور بتحقيق  العدالة  وتنسمها كمخرج من مخرجات تطبيق القانون هي من صنو الشعور بالسعادة فهي غاية موغلة في النسبية ، كما ان الجري وراء تحقيق نسب كاملة من العدل  هي من مقومات (المدينة الفاضلة)  التي مات دونها الفيلسوف  افلاطون و لم تخرج الي الواقع الا من خلال نظرياته  حولها  تلك النظريات التي   اغرقت فلاسفة القانون  قديما وبعض رجال القانون في عالم اليوم في  ضرب من السفسطة والجدل العقيم الذي افضي مؤخرا  الي سيطرة الياس الذي انتج  دعاوى الفوضي تحت عباءة اسقاط النظام والقانون  دون اعداد البديل مسبقا  ؟!  ،
ولكن بالرغم من هذا التشاؤم والتفاؤل كله حول العدالة فان محاولات البحث عن معدلات عالية في العدالة هي تلك (الحسناء)  التي تطلب ودها  الخطاب دوما من السلطة  التنفيذية والتشريعية  والقضائية علي السواء  بالرغم من ايمان الجميع واعتقادهم  الجازم   ان العدل هو اسم الله جل شانه وحده لاشريك له  وهو جاءت به تعاليم  الاديان السماوية  التي قضت بان  (مطلق العدالة)  هو امر استفرد به الفرد الصمد  سبحانه وتعالي  واستاثر به في ذلك اليوم ( الآخر)الذي وصفه الله   بقوله ( لاظلم اليوم ) ذلك هو   يوم الحساب ويوم العدل والحق
      ولا تعدو ان تكون كافة المرافعات والمنافحات   التي تبناها العديد من رجال القانون في الدفاع عن تجربة التحكيم في السودان هي من قبيل ذلك المهر الذي تنشده ( العدالة ) تلك الحسناء التي يدعي كل اهل القانون رضاها ويتقمصون  همومها ويظنون رضاها  في كل منافحاتهم عن مظلوم او رد ظالم او نقد نظرية او تفنيد حجج  هنا وهناك  يرون انها  تقف في مسيرة العدالة القاصدة ويعتبرون الدفاع عن مكتسبات العدالة في قانون التحكيم السوداني لسنة 2005 هو اضعف الايمان الذي ينبغي عليهم القيام به  ،  ولما صدر قانون التحكيم السوداني لسنة 2016 بمرسوم مؤقت من السيد رئيس الجمهورية استنهض ذلك الصدور  قامات  قانونية مختلفة من محامين ومستشارين  ورجال قانون   وتبنت حماية العدالة  وحراسة  قانون التحكيم السوداني لسنة 2005م  وروجت وماتزال توج للدفاع  عن مكتسبات التحكيم في السودان عبر مكافحة  ومهاجمة القانون الجديد  من وجوه عديدة اكبرها  وانثلها طريقة هو انتقاد طريقة صدوره بمرسوم مؤقت - مع وجود هيئات تشريعية مشكلة وفعالة – فهذا الصدور  بهكذا طريقة يمثل للكثيرين من رجال القانون علامة استفهام كبرى   ربما  طوت بين دفتيها امواج من شكوك   ونشط عبرها حركة المد والجذر التي كانت ولاتزال بين دعاة الفصل بين السلطات الثلاثة  واساطين الالتفاف حول ذلك الاستقلال  بين السلطات بحجج مقبولة ومدحوضة   ، وبالرغم من ان  الظن أكذب الحديث  فلم يجد البعض  بداً  من ركوب خيل الظن بان رئاسة الجمهورية تدبر امرا بليل للالتفاف علي استقلال التحكيم كاداة مستقلة عن القضاة استظل بها الكثير من التقاضين في العشرة سنوات الاخيرة بالسودان من هجير تسويف ومماطلات القضاء السوداني  ومماحكاته في الفصل الناجز في كثير من المنازعات التجارية والمدنية والاستثمارية   وغيرها التي تتطلب سرعة البت  في النزاع  بعيدا عن الرسوم القضائية التي تبدو فاحشة في نظر  الكثيرين منهم ،  وفي ظل فتح باب الظنون بصدور القانون يري الكثير من المحامين بما فيهم نقابة المحامين  السودانيين ان القانون هو ردة في مسيرة التحكيم السوداني في وقت لم يرى  القانون  الذي  وقعه رئيس الجمهورية طريقه الي خارج القصر  الجمهوري !  ومما يزيد من  الاستغراب ان النقابة ظنت ظنا راجحا  قد تسلحت يقينا قاطعا  بان القانون الجديد اضاع مكتسبات عضويتها ؟! وقلل من فرص عملهم وبعبارة اخري امسك القانون بحلوقهم وضيق عليهم الارزاق وكان لسان الحال يقول :(قطع الاعناق ولا قطع الارزاق) ،
      لاغرو ان الدفاع عن الحق والبحث عن العدالة يحتاج مبادرة ومثابرة وسطوة و كلمات ذات صهوة و وكر وفر وجولة ولكن ... ما يثير كامل  الاستغراب  في خضم صدور ذلك القانون السؤال الاتي :  هل قانون التحكيم السوداني لسنة 2016 هو قانون بهذه الدرجة من السوء؟ . وتتشظي عن هذا السؤال تساؤلات   عديدة  نورد منها علي سبيل المثال لا الحصر مايلي : - هل تأبط المشرع  السوداني ( رئاسة الجمهورية) كل هذه الشرور لمجرد ان القانون صدر بمرسوم ولم يصدر عن البرلمان السوداني بالرغم من ان مسودة القانون طية وحبيسة ادراج  البرلمان في الحبيبة ام درمان ؟
وهل ابتدع قانون التحكيم السوداني  بدعة  قانونية او اتجاها قانونيا يخالف  القانون التحكيم  الدولي ومنظمات ومؤسسات التحكيم العالمية   ؟  
وهل صار التحكيم السوداني بدعة غريبة  بين الدول الاقليمية والعالمية في نظرته حول الرقابة القضائية علي القرارات التحكيمية ؟  وهل ..وهل ....؟
كل هذه الاستهلالات والتساؤلات جعلتني انبري لالقاء الضوء علي القانون وانا علي شاطي الخليج العربي وقد قض مضجعي استفسارات الزملاء القانونيين من مشتشاري  محامين وقضاة واساتذة بكليات القانون  وجمهور من طلبتي وتلاميذي في  الدراسات العليا   وكنت ارد  قائلا لهم  ان كلامي سيكون ( جس بعد ذبح ) كما يقول اهلنا في السودان،  ولكن لما اطلعت علي القانون الذي اكرمني بنسخة منه عبر الاسفير الزملاء المحامون   الدكتور مجدي سليابي ومولانا عبد الرحيم النصري ومولانا عاطف دياب     رايت ان ادلي بدلوي  قبل ان يصدر رعاء الكتاب من الاخوة الزملاء وينفض سامر القوم وهم تفيض صدورهم من سوء الظن  وحميد النيات في الدفاع عن القانون السوداني والعدالة التحكيمية المنشودة  وكان لسان حالي  يردد  قائلا : (ان   انقطاع اللسان عن المحاضرات في الاوطان لا يكافئه  حبر بالاطنان ) .
صدور القانون وصدور الرجال
لقد صدر قانون التحكيم لسنة 2016 م  بمرسوم مؤقت في 2فبراير 2016  ويقول في ديباجته انه استند الي نص المادة  من دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005  والتي  تحمل اسم المراسيم المؤقته وتنص علي  مايلي :-(109- (1) يجوز لرئيس الجمهورية، إن لم تكن الهيئة التشريعية القومية في حالة انعقاد، ولأمر عاجل، أن يْصِدر مرسوماً مؤقتاً تكون له قوة القانون النافذ، ومع ذلك يجب عرض المرسوم المؤقت على المجلس المعني في الهيئة التشريعية القومية حال انعقاده، فإذا أجازت الهيئة التشريعية القومية المرسوم المؤقت بذات أحكامه، فيجب سنَّه كقانون أما إذا رفضه أي من المجلسين أو انقضت الدورة البرلمانية دون إجازته يزول مفعوله دون أثر رجعي.
(2) على الرغم من نصوص البند (1) لا يجوز لرئيس الجمهورية أن يُصدر مراسيم مؤقتة في المسائل التي تمس اتفاقية السلام الشامل أو وثيقة الحقوق أو نظام الحكم اللامركزي أو الانتخابات العامة أو التخصيص السنوي للموارد والإيرادات المالية أو التشريعات الجنائية أو المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تُعدل حدود الدولة.
(3) يتم العمل من جديد بكل قانون تم إلغاؤه أو تعديله بمقتضى أي مرسوم مؤقت زال مفعوله، ويسري مفعول ذلك القانون من تاريخ زوال مفعول المرسوم المؤقت.
(4) يجوز للمجلس الوطني، حسبما تقرر لوائحه الداخلية، تفويض رئيس الجمهورية سلطة المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية إذا لم يكن المجلس في حاله انعقاد دون الحاجة لإجازة لاحقة، ومع ذلك يجب أن تُودع الاتفاقيات والمعاهدات المصادق عليها لدى المجلس فور انعقاده.)
والمعلوم ان التشريعات عموما في السودان  وعلي حسب احكام الدستور تصدر عن السلطة التشريعية  ممثلة بمجلسيها المجلس الوطني ومجلي الولايات فهما الجهات الوحيدة التي كفل لها الدستور سن  التشريعات والقوانين  حسب المادة 91 منه ، وقد جعل الدستور المراسيم المؤقته  التي يصدرها رئيس الجمهورية هي الطريق البديل لسن التشريعات  وتكون بشرطين :
 الشرط الاول:   الا  تكون الهيئة التشريعية القومية في حالة انعقاد   والمؤكد ان البرلمان السوداني بمجلسيه في اجازة سنوية منذ يناير وحتي ابريل  2016 لذا فان المرسوم صدر في محله  وصادف صحيح النص الدستوري ، حيث ان البرلمانين لم يكونا في حالة انعقاد في يوم 2/2/2016 تاريخ توقيع رئيس الجمهورية رغم ان مشروع القانون موضوع امام منصة البرلمان .
والثاني :ان يكون هناك امرا عاجلا : و الحالة المستعجلة التي  هي تلك التي تنهض  في واقع الحياة في السودان  وتكون عقبة كؤود تكدر حال الدولة واستقرار الامر فيها  وبالرغم من ذلك فقد حددت  الفقرة الثانية من  المادة ضوابط موضوعية  لاصدار الاوامر المؤقته  وهي انه  : لا يجوز لرئيس الجمهورية أن يُصدر مراسيم مؤقتة في المسائل التي تمس اتفاقية السلام الشامل أو وثيقة الحقوق أو نظام الحكم اللامركزي أو الانتخابات العامة أو التخصيص السنوي للموارد والإيرادات المالية أو التشريعات الجنائية أو المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تُعدل حدود الدولة.
وهنا ينهض السؤال هل قانون التحكيم السوداني يقع من ضمن المسائل  التي لايجوز لرئيس الجمهورية ان يصدر فيها  مرسوم مؤقت  ؟ والجواب بكل تاكيد لا  لان قانون التحكيم هو قانون خاص ينظم التحكيم كواحد من وسائل فض النزاعات بين الاشخاص في الدولة وهو ليس له علاقة باتفاقية السلام الشامل ولا بوثيقة الحقوق ولا نظام الحكم المركزي اللامركزي أو الانتخابات العامة أو التخصيص السنوي للموارد والإيرادات المالية أو التشريعات الجنائية أو المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تُعدل حدود الدولة. ومن هنا يمكن القول انه يجوز لرئيس الجمهورية ان يصدر مرسوما مؤقتا من حيث الموضوع في التحكيم لان المنع لايشمله حسب المادة  ومتطلبات المرسوم الموضوعية
وتبقي السؤال الجوهري في الشرط الاول قائما وهو هل هناك امرا مستعجلا جعل رئيس الجمهورية يستعجل في اصدار مرسوما مؤقتا بقانون التحكيم لسنة 2016 ؟
والجواب عن ذلك السؤال يكون من وجوه :
اولاً : لم يعرف الدستور ولا اي من القوانين السارية في السودان – حسبما مانعلم – ماهو الامر المستعجل الذي اشارت اليه المادة 109 من الدستور ومن هنا يكون تقدير الامر المستعجل هو حالة في (صدر )رئيس الجمهورية او قل في(  صدور) رجال رئاسة الجمهورية ومؤسساتها المختلفة   وهذا التقدير لا يفصح عنه رئيس الجمهورية   عادة في صلب المرسوم المؤقت وقد استقر الامر عملا في القضاء الدستوري عالميا ان مثل تلك التقديرات الداعية لاصدار اوامر مؤقته لاتكون جزءا من الامر او المرسوم المؤقت  و لا  يكشف عنها رئيس الجمهورية الا امام المحكمة الدستورية اذا تم تقديم طعن دستوري حول عدم دستورية القانون الذي صدر بامر مؤقت  فحينئذ يستطيع القضاء الدستوري  ان يطلب من رئيس الجمهورية ان يبدي ويكشف طبيعة الامر المستعجل الذي دفعه لاصدار القانون بمرسوم بدلا عن انتظار البرلمان السوداني الذي هو في حالة عدم انعقاد   بسبب العطلة السنوية لاعضائه  .
 ثانياً : ان الحديث عن امر مستعجل في قانون مثل قانون التحكيم يتصل بطريق او آخر بسيادة الدولة وفيه قبس  وقد يتشابه  ويختلط باعمال السيادة واسرار الدولة العليا التي لايطلع علي العامة من الناس والتي لايجوز التظلم منها بحال عند اغلب مدارس القانون العالمية    ووفقا لطبيعة الاشياء والمجري العادي للامور  فمن  المنطقي كما   استنهض حماة العدالة  مناطيد الشكوك  في النيات السئية  لرئاسة الجمهورية  حول قانون التحكيم  فان ذات  المنطق يستدعي كذلك استنهاض الشكوك الحميدة التي دفعت رئاسة الجمهورية لاصدار امرا مؤقتا بقانون التحكيم  سيما وان التحكيم هو احد معاول البناء الفعالة جدا في حماية الاقتصاد الوطني وتحصين  الحقوق المستعجلة  بتحكيم فعال يتماشي وسياسة الدولة في الاستثمار واستقطاب رؤوس الاموال الوطنية والاجنبية و والسياسات النقدية والمصرفية  داخل الدولة وخارجها  ، اذ لم يعد الاقتصاد العالمي بمعزل عن توظيف التحكيم في حراسة راس المال الوطني والاجنبي ، وهو بطبيعة الحال يتماس ويتقاطع مع مسئوليات رئاسة الدولة السودانية ازاء ما يحدث من متغيرات في الاقتصاد العالمي في المنطة والاقليم والعالمي اجمع الذي يعاني من بوادر ازمة اقتصادية عالمية ظهرت جليا في انهيار قطاع النفط عالميا واتساع  رقعة الحروب التي تحيط بالسودان  . وبكل تاكيد  ان ما ذكرته من استمطار لتحليلات اسمتها بالظن الحسن  ليس تبريرا  مني لما تم من   رئاسة الجمهورية  اوالتماس العذر   لها وانما  فرض مني  املته و استدعته طبيعة المناقشة العلمية  والتحليل والنظر في المآلات البحتة   لتوسيع البحث عن ماهية الامر العاجل  الوارد بالنص الدستوري المشار اليه
ثالثا : بالرغم مما سبق ذكره يبقي الامر العاجل  الذي دعا رئاسة الجمهورية لاصدار مرسوما مؤقتا محصنا ضد استجواب رئيس الجمهورية بواسطة  البرلمان  واستفساره عنه حيث ان اجراءات  اجازة المرسوم المؤقت خلت تماما من تمليك البرلمان هذا الحق ولا يتبقي لحماة العدالة وطلاب سيادة دولة القانون الا طريق واحد لمعرفة ماهية الامر المستعجل بتقديم طعن دستوري في غضون شهر وايام لمعرفة ذلك الامر والا صار سرا من اسرار الدولة اذا انعقد  البرلمان وعرض القانون للاجازة فيه ، ولا اخالني ان الوقت يتسع عملا لنظر مثل  الطعن الدستوري اللهم الا  اذا سلط سيف الامر العاجل علي المحكمة الدستورية السودانية  
ولكن  يبقي القول صحيحا  عندما تلحظ ان ما تكنه صدور الرجال  حول الحدث  اكبر من سيناريوهات صدور القانون  بكثير
ونواصل

prodoush@gmail.com

 

آراء