نساءٌ من زجاج وكلماتٌ ملتفةٌ بأشواكِها … بقلم: منى عبد الفتاح

 


 

 

كيف لا

النيلُ وجُرح عروساته
 لولا إمتداد النيل في عميق الأرض ، بموجه الصافي حيناً والمتنافر حيناً آخر . لولا ثرائه بأغانٍ وقصائد وأقمار الزمان المنعكسة على صفحات لياليه . لولا أمنيات تعتقد أمهات عرسان الضفاف في طقوسهن أنه وحده من يمنحها . لولا ذلك كله وغيره  لما كنا مجبولين على الانغراس عميقاً في طينِ ضفافه.
 ومن الطين تبادل سكان وادي النيل أنفاسهم مع أوكسجين الأرض ، قبل أن يفلحوا في صناعة التماثيل وأزيار الفخار . وقبل أن تذهب الكائنات المتحللة في جوفه وتخرج غير بعيدة ذهباً أصفراً ،ارتحل مساكين المؤملين صوبه ليهبهم الحياة ، فأخذ ما تبقى من حيواتهم الذابلة. وقبل أن يظهر في آخر الزمان ذهباً أسود من ليل ظلماته فيختلف عليه أهل الشمال والجنوب وترتفع أصوات تسمع نُذُر الحرب وتصمُّ آذانها عن أناشيد السلام. ومنذ زمن اجتمع الناس واختلفوا فيه ، إلا وكان النيل جزءاً من أسطورة الخلود ، قامت الحروب وأُطفئت، حمل على ظهره وعبَرَه الفرسان والخونة وخرج من كل ذلك سالماً . لأنه خلال قرون ظلّ مسالماً ، احتاجت الأرض الآن أن يحميها ، أن يبسط أمنه من فوقها ، مدت يدها إليه فاكتشفت أنه هو إلى الأمان أحوج .
 امتداد النيل على خارطة الوطن ليس مدهشاً فقط لمن ينظر إلى هذه النعمة من على البعد ولمن حُرم منها ، وإنما تمتد دهشته حتى إلى بنيه المقربين الذين يعيشون ، يغفون ويستيقظون على ألحان موجه . وهذه الدهشة تحجب أعينهم عن خيرات كثيرة . فهم بقربه يكاد يقتلهم الظمأ ، ويغلو عليهم الزاد . فأي أصابع هذه التي يمكنها التدوين في صحائف الظلم ، وأي نفس لم تنكسر من كثرة الشكوى من شهوة السلطان الذي صادَر الماء والتربة والهواء ولم يترك حتى النيل جارياً بحكم الطبيعة وأمرها.
أغنيات الحاضر : في الخواء سواء
بظهور الجيل الغنائي الجديد في السودان الذي نشاهده كل يوم على شاشات التلفزيون ، استبشرنا في البداية خيراً بأن هذا الجيل قد أُبتعث ليحمل شعلة التطوير في فن الغناء . تخيلنا أن البداية الفنية لعدد مقدر من تلك التجارب بتقليد بعض الأغنيات القديمة الخالدة هو طقسٌ دَرَج عليه كل المبتدئين ، ومن ثم فسيسلك كلٌّ طريقه .ولكن الظاهر أن التجارب على كثرتها تقف عند حد الإعادة  والتكرار على الدوام للأغنيات القديمة . الآن وبعد الصبر الجميل شاهدنا كيف أدى هذا  إلى تدهور الذائقة الفنية حتى وصلت إلى درجة الإسفاف. فبالرغم من أننا لم نتعامل مع إعادة أغنيات كبار الفنانين على أنه إفلاس في الأصوات والتجارب الدخيلة على عالم الفن ، إلا أننا في نهاية الصبر على الإعادة والتجريب ربما خضعنا مضطرين لمثل هذا الرأي. ولعل هذا انعكاس لما آلت إليه الحياة السودانية من تدهور ، حتى صارت مثالاً سيئاً لتدهور المستويات الاجتماعية والاقتصادية بسبب الحرب وإفرازاتها وسوء الحكم وانعدام الديمقراطية وتضييق المساحات لإفساح المجال للإبداع . الأمثلة الجيدة قليلة ولا تُذكر مقارنة بالنماذج التي أسهمت في انحطاط الأغنية ، تلك الأغاني المشبعة بالكلمات المبتذلة والألحان الزاعقة .
 انحسرت الأصوات الغنائية الجيدة ، فعظماء المطربين بشرٌ غير مكتوب لهم الخلود ، والشباب الذين حاولوا ولم يستطيعوا إقناع الجماهير الواعية بأن ما يؤدونه فناً ، غير مسؤولين مسؤولية كاملة عما حدث ويحدث كل يوم لمصير الأغنية السودانية . هذه المسؤولية يتقاسمها معهم المستمعون وأجهزة الإعلام والأجهزة التي يعلو صوتها في المهرجانات والأعياد الرسمية بأنها كيانات للموسيقى .
 ما دعاني إلى هذا الحديث هو سماعي لبعض التجارب الجديدة لأسماء فنية شابة يستضيفها التلفزيون وتُقيّم تجربتها من قِبل أساتذة يُدفع لهم مقابل هذا التقييم وهذه المسئولية والأمانة في الرأي . صحيح أنَّ الأغاني موضع هذا الحديث والاستفهام متداولة على أشرطة الكاسيت والنت وليست مسموعة على الأجهزة الرسمية ، ولكنه كان يتوجب على من يقيّمون أغنيات مؤدييها أن يكونوا مطلعين ابتداءً على انتاجهم الصالح فيه والطالح حتى يصلوا إلى نتيجة مؤكدة . فإن سمعت "غصن الرياض" لفنان هاوٍ غير أن تسمع "قنبلة" أو "شينة منك" لنفس الفنان . لأن تقييم أداء الفنان بأغنية مثل  "غصن الرياض" أو غيرها من أغنيات كبار الفنانين ، فيه ظلم للأغنية لأنها ليست من انتاجه ، بل يجب تقييمه بما ينتجه من قنابل وغيرها.
  وقبل النتائج ، فهل خضعت كل هذه الأصوات لتقييم لجنة إجازة الأصوات ؟ فلو أنها تتسرب إلينا وتحاصر أسماعنا صباح مساء دون إجازة ، فهذه مشكلة كبيرة . أما إذا كانت مجازة من قِبل اللجنة فهذه طامة كبرى . فالملاحظات العامة على بعض هؤلاء الهواة الذي فرضوا أصواتهم دون جدارة ، هي أن أصواتهم تصيح في الفراغ العريض وتفتقر إلى التأهيل العلمي والعملي، تعاني عيوباً جوهرية كما يغلب عليها الافتقار إلى عنصر البراعة في الأداء والجهل بالثقافة الموسيقية. أما إذا لاحظنا أن أغلب هؤلاء الهواة آتين من الريف ، فسنجد أنه كان بالإمكان الاستفادة من سمة صوت الريف ، فالصوت بالذات مهما تدرب لأن يكون مديني فستظل تغلب عليه شروط فنية معينة قد لا تنسجم مع الشروط الفنية العامة التي تتعامل مع الصوت على خامته الطبيعية مع بعض الصقل. وقد تستهلك هذه المدينية من الصوت إذا كان موهوباً ، أكثر مما تعطيه. ففي استخدام الصوت الطبيعي وصقله وترويضه من غير تكلف ، تنوع كبير  لو أحسنا التعامل معه واللعب على طبيعة الصوت ، لأنه سيخرج قوالب فنية مختلفة قلّ أن توجد بالصدفة. أكثر ما أضرّ بالأصوات الريفية المتمدينة هو دمجها وبسرعة كبيرة في قوالب فنية عامة .
 محاولات التجديد لا تعني نمطية الأداء أو الاستعراض الصوتي اللاهي وإنما بالأساس الاحترام الواضح والكبير لجدية عملية الغناء وتعبيريته . وهذه من أهم شروطها الموهبة المفعمة بالروح الصادقة في العمل الجاد، وتشذيب الأصوات وتدريبها ، ولا تعني البتة كفالة حق الرعاية الأبوية العمياء لمطربي القاع.
حينما زارنا الزعيم
 حينما زار الزعيم الراحل جون قرنق الخرطوم عام 2005م وكانت تلك زيارته الأولى منذ 22 عاماً ، طغت العاطفة واندمجت مشاعر الزائر ومستقبليه ممن يعرفونه وممن لا يعرفون،  في وحدة متناغمة تناغماً كاملاً. ما كان يدعو للدهشة هو استقبال الناس على قلب رجل واحد لزعيم مختلف عليه . منهم من وصل درجة عليا في تقديسه باعتباره رمزاً للسلام ، ومنهم من وصل درجة في بغضه باعتباره رمزاً لحرب غذتها الثأرات التاريخية والنعرات القبلية . كل هؤلاء ومن بينهم تلاقوا في مساحة التسامح ، أملاً في أن ما يحدث في ذلك اليوم سيكون به خلاص السودان كله وليس الجنوب وحده . وبالرغم مما كُتب وقيل عن الزيارة التاريخية إلا أن أدبيات الرحلة لا تزال غير كاملة . فلا صور موثقة توثيقاً كاملاً ولا كتابة متأنية ، فكل ما كُتب تم بالعاطفة الجياشة ، ولم يخضع للتروي في السرد والتدوين .  
 كان بالإمكان قول شيء ذي مغزى ، شيءٌ خليط من التأمل في قرنق الإنسان واعتبار ما حدث  كجزء من تاريخ هذا البلد وسياسته. وربما فات على التدوين أن في كرنفال الاستقبال كان الناس يلعنون بشكل أكبر من أهان العباد وكفر بحقوقهم في الحرية والكرامة . الحقيقة أن جموع المستقبلين لم تدرك سرّ جيشان مشاعرها بالبكاء كما لم تعرف سر الابتسام.
 الذاكرة السودانية ذاكرة خرِبة وثقافة التوثيق في السودان ثقافة ضحلة جداً ، كثير من التفاصيل في ذلك الحدث الفريد تم طمرها وهي تفاصيل كبيرة كانت أم صغيرة فهي جزء أصيل من ذلك الحدث .أكثر ما يحرص عليه التلفزيون الآن هو مشهد سابق بغير تاريخ محدد نسمع من خلاله صوت قرنق المهيب ، في تناسق كهدير الغاب. ولكن المشهد ينقطع حين لم تبلغنا روح الرسالة التي تدعو إلى الوحدة والإنسجام فتبقى معلّقة . تُرى, ماذا سيقول قرنق لو زارنا اليوم ؟ وما هي الرسالة التي يريد منا تبليغها إلى أهله في كل السودان ؟
نساء من زجاج
          (1)
مرّت الفتاة بوجهها الفضي وعطرها الفوّاح ، من طرف السوق إلى حيث موقف المواصلات .بينما مرّت في الاتجاه المعاكس البائعة المتجولة تحمل في حقيبتها المتهالكة مجموعة متفرقة من أدوات التجميل ومساحيق المكياج منتهية الصلاحية.تذكرت البائعة فجأة عينة من بضاعتها اختصت بها زبائنها المقربين كالفتاة المارة من هناك ، فراحت تُعلي من طبقة صوتها الغجري وتعيد توليفة أحد الكريمات المبيضة ، المزيفة و المعبأة بغير عناية على علب أصلية .
  استطاع نداء البائعة المتجولة مقاطعة أصوات بائعي الخضار الهزيل وحسرها ، خاصة بائع البصل الذي لا يكف عن الصياح. سرت قشعريرة غامضة في جسده فهبّ منتفضاً بعدما رأى البائعة المتجولة تقلّب بأطراف أصابعها علب المكياج المتناثرة بين يدي بعض النسوة .
 باغتت المرأة فكرة مفاجإة ، فنادت الفتاة المعجونة ببقايا مساحيقها للاستزادة.
      (2)
نسوة أعينهن شاخصة إلى  اللا شيء ، لا يهمهن إن أفلت نجوم أو ظهرت على الأفق أخرى . لا يجرؤن على الحلم بأن يهززن عرش الشمس بيمناهن أو ينتزعنه باليسرى. وحيدات يحرسهن شبح الحرمان ، بينما يحرسن ضفائر معقوفة إلى الخلف . كل من يمرّ عليهن يتسمّر قليلاً  عند بقاع مقدسة  على الوجوه ، أكوام من بقايا الدموع المجففة ، ملح يقلبنه بينما تسيل من أعينهن هزائم ألم  الوقت وسعيره .
  (3)
تسمعُ الكثيرين يحلمون بصوت عالٍ بأيام زمان ، فتذكرت والديها وإخوتها يحومون حول فراش موتها. لم ينقذها من مصيرها المشؤوم غير صديقة فدتها بدمها . وبينما الصديقة تدّبر وتستقطر  من دمها لرحلة التبرع هذه، راحت هي تجول ببصرها فتودع من يقفون حول رأسها ، أمامها ومن خلفها . جالت ببصرها  بينما قدميها إلى جهة الشروق . لم تنم قيلولتها ولم تصحو ، حلّ المساء سريعاً ، فصعدت شبه روحها لتعود مترنحة ترفس أثر الضوء عن قدميها ، انسلت وهبّت مع امتزاج الغروب في جسدها الواهن بالسمرة.استيقظت ولكن في أخرى هي روح صديقتها .
  (4)
تذبل موسمياً كما النباتات ، وكلما ذبلت واحدة عاد بأخرى ليزرعها مجدداً في نفس المكان . يرويها بما امتصه من الأخرى ، فلا استوحش فعلته ولا بقي ما زرعه خالداً . بالرغم من أن الطريقة تغريه إلا أنها كلفته بعض الهمّ ، ولكنه لم يعد يبالي ، كثر التكرار وتصاعدت لذة التغيير التي أدمنها إلى أعلى قمة رأسه . أصبحت تسيطر عليه ، لم توقف مشاعره عند حدود ذبول واحدة تلو الأخرى.لا ترهب نفسه من فعلته بل يغشاها عنفوان ونشاط لم يغادره لحظة التغيير .
عن صحيفة "الأحداث"
moaney [moaney15@yahoo.com]

 

آراء