هاشم سوركتي: البذور الحمراء

 


 

 




كان ذلك في منتصف الخمسينات وأنا ما أزال بأميرية عطبرة الوسطي. كنا نلعب كرة الشراب في فسحة الميدان بحلة التمرجية (الداخلة) الذي تحده شمالاً دار ود الزومة والخلوة وجنوباً بمنزل ناس جري وبيت ناس سوركتي. كان ذلك قبل أن يبني صبيان النجوم ناديهم الذي أضاع الفسحة. كنت أطارد الكرة عند شجرات عشر بظهر الخلوة حين تعثرت قدمي بوسط الشجرات عن رزمة ورق مكتوبة بالرونيو الأحمر عن آخرها. ولم أكترث لها وأعدتها في موضعها. وكبرنا لأعرف، مستقلاً، إن تلك الأوراق ربما خصت رفيقنا المرحوم هاشم سوركتي الذي ودعنا يوم الجمعة الماضي إلى دار البقاء. وكبرتُ وتورطت في هذا الورق الأحمر إلي يوم المسلمين هذا لأعرف أن الزميل هاشم لابد نال تقريعاً من الحزب لبؤس تأمينه لتلك البذور الحمراء حتى طقشها صبي فسترها. ولو لم يفعل لكان وكان.  
لم تكن تلك البذور الحمراء هي آخر حصادي الجميل من هاشم. ففي 1958 غمرت السيول حينا وهدمت جزءاً مقدراً من بيتنا. فأخذنا آل سوركتي إلى دارهم ريثما تستبين الأمر. وكان نصيبي من البيت غرفة بمؤخرة الديوان العبيق تفتح نافذتها على ميدان شجرات العشر. وهي الغرفة التي أوى إليها دائماً أقارب لناس سوركتي طلبوا التعليم في عطبرة: قيلي ونور الدائم ومحي الدين. وأذكر أنني وجدت على مسطبة النافذة كتاباً تمزق غلافه نوعاً ما اسمه "الشاب الجريء ومسطبة السيرك الطائرة" (1934).  وهو مجموعة قصصية للكاتب الأمريكي من أصول أرمينية: وليام سارويان. وسحرني الرجل. لا اذكر من قصصه أي شيء الآن ولكنه لم يبرح ذاكرتي. وتوثقت علاقتي الروحية به منذها مع أنني لم أقرأ له بعد برغم أنني اقتنيت بعض كتبه حين قدمت إلى الولايات المتحدة. ولكنني أذكر ما انطبع في ذهني من تلك القراءة الباكرة (وربما الخاتمة) أنه قال دلني على جماعة من اثنين لم تنشأ بينهما الفصص. فالقصص عنوان إنسايتنا. ومن كلماته السائرة إن كل إنسان هو تنويع عليك.     
كان هاشم من شيوعيّ الداخلة وهم خلق آخر حتى بين شيوعيّ عطبرة. كانت فيهم إنسانية ريفية ذكية. فهم رغم أنهم في المدينة وأخذوا أكثر افكارها خطراً وجاوروا الإنجليز الحيطة بالحيطة إلا أنهم لم يفارفوا القرية شبراً. فالنخل في الداخلة. والساقية. والعرديبة.  والعمدة. وود نواووي. ترعرعنا على بذورهم الحمراء في عذوبة صلاتهم مع أهلهم وطبقتهم في نفس الوقت. وكانت جسورهم مع العالم موصولة. كان هناك دائماً ما بوسعك المساهمة به في منابرهم. في صباي كنت ضمن فريق الجمباز لنادي الوادي. أذكر ما أزال عرضنا بدار الرياضة بعطبرة في مناسبة التحضير لمؤتمر من مؤتمرات اتحاد الشباب العالمي. كنت أصغرهم ولذا أكثر المشاهدون من تشجيعي. وأذكر أن جئت من درس بالمدرسة الوسطى ووجدت ليلة ترفيهية منعقدة في أحدى ميادين الداخلة في مناسبة مهرجان عالمي ما. وفتحوا باب النكات. فتبرعت وحكيت نكتة زينتها بالإمالة الشايقية فاستحسنها الناس.
كنت أقرأ يوماً بوستاً في سودانيزأونلاين لكهل يحكي تجربته الشيوعية. تنبهت إلى مدخل التجربة وهو يومه الأول بجامعة الخرطوم. بدا لي أنه لم يحفل بدخول الجامعة كطالب بل كشيوعي يتفحص مع رفاق معه من الثانوي ساحة نضالهم الجديدة. فأخذني هذا الانشغال بالقضية. ولم استغرب أن احس هاشم بنفس الشيء. فما استمر البوست أياماً حتى تلقى صاحبه مكالمة من هاشم يحثه على المواصلة لتدوين تاريخ رابطة الطلاب الشيوعيين. وميّز بين نضالهم وبين نضال الأجيال التي سبقتهم. فقال إنهم ناضلوا ضد محتلين أجانب ويناضل من جاء بعدهم الآن ضد محتلين محليين. ونبهه أن يراعي "التأمين" وهو يكتب. ولم استغرب شجن هاشم الذي حدا به ليكتب. فكلنا في شيوعيّ الداخلة نطرب لدسامة الحزب بين الناس ونراعي عهد "العشرات".   
جاء في نعيه أن الموت لقيه في حفل بذكرى ثورة أكتوبر سهر عليه مع زملائه في رابطة جدة الاجتماعية الثقافية. وقيل إنه استخف به المغني حين شدا: " قلب أفريقي بقلب نابض* حل منا بالجنوب الناهض". فنهض. وهز "فوق تيجان" الغناء العتيق، وبشر ثم أسلم الروح. حتى الموت يتربص بك يا هاشم وأنت مؤرق بالوطن الذي انفقش.
IbrahimA@missouri.edu

 

آراء