هتاف الدبلوماسي الثوري: “عاش أسياس”.. وموت كرامة الديبلوماسية السودانية

كتب الدكتور عزيز سليمان استاذ السياسة و السياسات العامة
quincysjones@hotmail.com

في عالم الدبلوماسية الدولية، حيث تتداخل خيوط البروتوكولات الدقيقة مع نسيج السياسات الخارجية المعقدة، يُعد سلوك القادة السياسيين نموذجًا للالتزام بالمعايير الأكاديمية والأخلاقية الرفيعة. إن زيارة رئيس وزراء إلى دولة صديقة ليست مجرد حدث بروتوكولي عابر، بل هي تعبير عن الاحترام المتبادل والالتزام بالنظم الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول. يُفترض بالقائد أن يحافظ على هيبة منصبه، متجنبًا أي تصرف قد يُفسر كانحياز أو إذلال للكيان السيادي الذي يمثله. فالدبلوماسية، كما يُعرفها الخبراء في علم السياسة الدولية، هي فن التوازن بين التعبير عن التقدير والحفاظ على الاستقلالية الوطنية، مستندة إلى مبادئ اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، التي تؤكد على ضرورة الاحترام المتبادل والامتناع عن أي إجراء يمس بكرامة الدولة المضيفة أو الممثلة. وفي هذا السياق، يُتوقع من رئيس الوزراء أن يعكس سلوكه المهني قيم الدولة، محافظًا على التوازن بين الدفء الإنساني والحزم السياسي، ليصبح رمزًا للعظمة الوطنية لا للمهزلة الدولية.
لكن، يا للدهشة! إذا ما ألقينا نظرة على تلك المشاهد المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتجول الدكتور كامل إدريس، رئيس وزراء السودان، في شوارع أسمرا برفقة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، ويهتف بصوت مدوٍ “عاش الرئيس أسياس!” بينما تردد الجماهير – التي تبدو كأنها استُؤجرت من سوق العمالة الشعبية – الهتاف خلفه كأنهم في مظاهرة طلابية أمام بوابة نادي محلي، فإننا ندرك أن الدبلوماسية السودانية قد تحولت إلى مسرحية هزلية! أهذا هو الرئيس الوزراء الذي يُفترض أنه تلقى تدريبات مكثفة في أروقة المنظمات الدولية، أو على الأقل اطلع على كتيّب صغير عن بروتوكولات الزيارات الرسمية؟ لا، يا سادة! كامل إدريس يبدو كمن لم يسمع بكلمة “بروتوكول” من قبل، ربما ظن أنها نوع من المقبلات الإريترية التي تُقدم في المآدب الرسمية. دليل على ذلك؟ الهتاف ذاته! هذا الهتاف لا ينتمي إلى قاموس الدبلوماسيين الذين يتبادلون التحيات الرسمية في قاعات الاجتماعات المكيفة، بل هو من تراث مظاهرات الشوارع، حيث يهتف العامة “عاش فلان” ليحصلوا على بضعة جنيهات أو سندويتش إضافي. هل رأيتم يومًا رئيس وزراء فرنسي يهتف “عاش بايدن!” في واشنطن؟ أم رئيس وزراء ياباني يصرخ “عاش شي!” في بكين؟ لا، لأن ذلك يُعد إفلاسًا دبلوماسيًا، وكامل إدريس هنا يُثبت أنه لم يتلق ولو درسًا واحدًا في “كيف تصبح رئيس وزراء دون أن تبدو كمشجع في مباراة محلية”.
ولو كان الدكتور كامل قد اطلع على أبسط قواعد الدبلوماسية، لعرف الطرق المناسبة للتعبير عن تقديره لموقف الرئيس أفورقي تجاه السودان – الذي، بالمناسبة، هو دعم إريتري مشروط بمصالح أسمرا أكثر من كونه تضامنًا خالصًا. كان بإمكانه، على سبيل المثال، أن يصدر بيانًا رسميًا يقول فيه: “نثمن المواقف الأخوية للرئيس أفورقي في دعم استقرار السودان، ونتطلع إلى تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين”، أو أن يتبادل هدايا رمزية مثل درع سوداني تقليدي مقابل تمثال إريتري، أو حتى يوقع اتفاقية تعاون في مجال التجارة بدلاً من الهتاف في الشارع كأنه في مهرجان شعبي. هذه الطرق تحافظ على كرامة السودان وتمنعه من أن يصبح مادة للتندر في الأوساط الإقليمية. لكن ما فعله كامل يُذكر بتلك المظاهرات “مدفوعة الأجر” التي تنظمها بعض الأنظمة – نعم، تلك الجماهير التي تهتف ليست عفوية، بل هي جزء من “الكوريغرافيا” الإريترية المعروفة، حيث يُدفع لكل مشارك بضعة دولارات ليصرخ “عاش!” كأنه في فيلم كوميدي منخفض التكلفة.
وإذا كان رئيس الوزراء هو مرآة الدولة وصوتها، فإن كامل إدريس قد حول السودان إلى مهرج على الساحة الدولية، يُضحك منه الجيران في القرن الأفريقي والشرق الأوسط. هذا السلوك ليس مجرد زلة بروتوكولية، بل إهانة لعظمة السودان التاريخية، التي شهدت قادة مثل الرئيس الأزهري يتعاملون مع الدبلوماسية بكرامة وحنكة لا بصيحات شارعية. إن الرئيس الوزراء يُفترض أن يعكس عظمة بلاده، لا أن يجعلها هدفًا لسخرية “بغاث طيور الدول” – ذلك الحشد من المعلقين والسياسيين الصغار الذين يتربصون بمثل هذه اللحظات ليصوروا السودان كدولة فاشلة دبلوماسيًا. لذلك، أناشد مجلس السيادة – إن بقي فيه ذرة من الكرامة – أن يقيل كامل إدريس فورًا، قبل أن يعود في زيارة أخرى ويهتف “عاش رئيس جيبوتي!” في شوارع جيبوتي، محولاً السودان إلى نادي هتافات إقليمي.
في الختام، أعبر عن حزني العميق على بلدي العزيز، السودان، الذي أهانه الجهلاء وقزّموه أمام العالم بتصرفات كهذه. أعلم يقينًا أن الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، اختار كامل إدريس بعناية فائقة ليجعل من المدنيين مادة للسخرية السياسية، تمامًا كما حدث في تلك الطريقة المؤسفة التي تم بها تعيين الحكومات بعد سقوط نظام الإنقاذ – حيث يُختار الأقل كفاءة لإذلال الشعب وتحويل السياسيين إلى مهرجين. يا ليت السودان يستيقظ من هذا الكابوس، قبل أن يصبح “عاش السودان!” هتافًا يردده الآخرون بسخرية!

عن عزيز سليمان

Avatar

شاهد أيضاً

ما بين مانديلا وحميدتي.. عندما تواتي الإنسان جرأة الجهل

كتب د. عبد العزيز سليمان أستاذ السياسة والسياساتquincysjones@hotmail.com قال أحد أتباع حميدتي من على منبر …