هذا هو الحل

 


 

 

 

دخلت الثورة في نفق ما كان ينبغي لها أن تدخل فيه، وهي التي مضت فوق التضاريس بنجاح حتى محطة الإعتصام، زادها في تلك المسيرة، إرادة الثوّار وعزيمتهم وقرابينهم التي تمثّلت في دماء زكيّة رووا بها ثرى هذا الوطن، وأرواح نفيسة قدّموها. وإذا كان من حزن يعتري قلب أيٍ منكم، ذلك أن الباغي كانت حكومة قوامها سودانيون، ولكن أي سودانيين. إن خطوة المفاوضات مع المجلس العسكري، خطوة لم تكن موفّقة، عطفاً على حقيقة أنه ليس بين الشعب والمؤسسة العسكرية ما يُتَنَازع عليه، ذلك أن الأول هو المالك والثاني في خدمته. والتعبير عن هذه العلاقة محكوم بخضوع المؤسسات لإرادة الشعب، فكما ينبغي لمجلس الوزراء أن يخدم الشعب وينصاع لرغباته، وهو النهج السوي لأي مؤسسة في نظام راشد للحكم، كذلك يجب أن تفعل المؤسسة العسكرية وهي واحدة من مئآت المؤسسات، وأمّا وقد أبدى الشعب رغبته في استلام السلطة بعد أن كانت مختطفة في وضع مقلوب، فقد حان الأوان لاستقامة وتقويم ذلك الوضع.

قُلتُ ما كان ينبغي أن يكون هناك تفاوض، الذي كان يجب أن يكون هو إجراءآت تسليم وتسلّم، باعتبار إعلان المؤسسة العسكرية وضع يدها على أجهزة الدولة بتعطيل فاعلية النظام السابق، ليس إلا ترجمة منظّمة لما ينادي به الشعب بتغيير النظام العسكري إلى آخر مدني ريثما يستكمل الشعب ترتيباته الهيكلية التي ستتسلّم السلطة وتبدأ المرحلة الإنتقالية. وإذا جاز للمجلس العسكري أن يخطئ في ترجمة تلك الرغبة، فهو مؤشّر لأحد أمرين، إما أن يكون هو نفسه إمتداد للنظام السابق، أو أنه طامع في الإستمرار في السلطة، وفي كلا الحالتين فهو يُخطئ في تقدير حجم الشعور العامر والغامر لدى الشعب بضرورة التغيير. لا أدري لماذا يستخفّ المجلس العسكري بقدرة الشعب على تولّي السلطة وتسيير دفة الحكم، وتظل المؤسسة العسكرية إحدى موسسات الدولة التي تؤدّي دورها وفقاً لما هو منصوص عليه في الدستور؟ يقولون أنّهم يتولون السلطة للحفاظ على أمن البلاد، وكأنهم إذا تسلّم المدنيون السلطة سيتخلّون بدورهم كمؤسسة عسكرية عن حماية البلاد. هناك قوى ظلّ الحراك الجماهيري يثق فيها، وفوّضها باستلام السلطة وتشكيل ملامح المرحلة الإنتقالية، وإن هذه القوى تتضمّن تنظيمات حزبية وحركات حاملة للسلاح ومنظمات مجتمع مدني، وجميعها لها القدرة والدراية والحنكة على صون ذلك التفويض، علاما إذاً يعاندها المجلس العسكري، ولصالح من؟

سؤال أقل ما يمكن للتفاسير أن تذهب إليه من إجابة هو أن القائمين على المجلس العسكري يتشبّثون بالسلطة خوفاً على مصائر أنفسهم من محاكمات حتمية، وهو تمسّك يجرّمهم وإن كانوا أبرياء، بينما كان الأولى إذا كانوا أبرياءاً أن يواجهوا الأمور كما ينبغي لأنهم لن يفلتوا في كل الحالات من مصير يتهيبونه. كما لا يُعقل أن يعتقد العسكريون الذين يجب أن تنحصر مهمّتهم وهم على رأس الخدمة العسكرية في إجادة مهنيتهم لحماية الوطن من أي مخاطر غازية تستهدف سيادة أراضيه، أن يتصوّروا بأنهم الأقدر على إساسة أمور الدولة والحكم من الأحزاب السياسية التي من المفترض أنّها نشأت أصلاً لهذا الغرض بغض النظر عما أصابها من رضوض وهوان لم تسلم منه المؤسسة العسكرية نفسها.
إن مساعي البعض ممن يشكّلون آلية الوساطة مهما بلغوا من حيادية، لن يحيدوا بعيداً عن رغبة الشعب في التغيير، وإلا وصموا بالتماهي مع الأنظمة الدكتاتورية، ولأن العسكرية قائمة على إطاعة الأوامر أثناء الخدمة فيها وفقاً للتراتبية الوظيفية، فهي نقيض للحرّية، والحال كذلك، لا تصلح أن تتولّى المؤسسة العسكرية الحكم، نأهيك عن أن يكون هذا الحكم مأمولاً منه أن يؤسس لمرحلة ديموقراطية وتعددية سياسية، يتبادل فيها الأحزاب الحكم بشكل سلمي من خلال التنافس الشريف وفق انتخابات شفّافة ونزيهة. إتّساقاً مع هذه الحقيقة، على المجلس العسكري أن يبتعد عن السلطة ويسلّمها لمجلس سيادي مدني إنتقالي على أعجل ما يكون إذا كان حال البلاد في أولوياته.
رَفْض المجلس العسكري، يعني أن هؤلاء القادة العسكريون، يصرّون على وضع أنفسهم في مواجهة مع الشعب، وهم إذ يتخندقون بالمؤسسة العسكرية، فهم أيضاً يغامرون لأنهم سيُصبِحوا في مواجهة قناعات العديد من ضباط وضباط صف وجنود ذات المؤسسة الذين انحازوا إلى الشعب بإدراك وفهم تامين لمطالبة المتمثّلة في الحرية والسلام والعدالة، وهم يعلمون تماماً أنّها كانت غائبة في ظل النظام السابق. لا أدري لماذا لا يتّخذ العسكريون نفس المسالك المتاحة لهم كمواطنين للتنافس على السلطة من خلال التنظيمات السياسية، وهو حق مشاع متى تركوا المؤسسة العسكرية. في ظل ثورات الوعي التي تجتاح الشعوب في عصر تجاوزت فيه وسائل التواصل والمعرفة كل الحدود دون تأشيرات، أخشى أن يتشكّل فهم قوي في أوساط الشعب بالتفكير في إلغاء وجود المؤسسة العسكرية في الدول مثل دولنا، والإستعاضة عنها بترتيبات أخرى شبيهة لما اتّختها كوستاريكا حين ألغت القوات المسلّحة لديها وحوّلت منسوبيها إلى قطاعات إنتاج أخرى، إذا ما تعذّر تعميم فهم دور المؤسسة العسكرية لمنسوبيها بأنها وُجدت لحماية سيادة الوطن وليس للحكم.

عبد الجبار محمود دوسة
رئيس حزب العموم السوداني
jabdosa@yahoo.com
////////////////////

 

آراء