هل نسمح بذوبان السودان في حكومة العالم؟

 


 

 

هل يكون السودانيون أهل السودان أم يكون السودان دولة للسودانيين؟
بمعنى آخر: هل البيضة من الدجاجة ام الدجاجة من البيضة؟
كنت قد حذّرت كثيراً في كتاباتي عن الخطورة التي تحيق ببلادنا عند حكم البشير وانقضاضه بأدلجة الهوية السودانية بفتل خيوطٍ يعيبها بها.
قبل عهد النميري، كان الشعب السوداني في بداية تجربته في إدارة الدولة، وتأمين هويّتها وتأهيل أبنائها بممارسة الحوار المدني الديمقراطي وفرز الانتماء السياسي في النظام العالمي الجديد بتجربته الديمقراطية الوجيزة، وكان الشعب في رضىً بحاله وبإيمانه بالدور الذي ارتضى السودان القيام به من أجل المساهمة في بسط سلام وخير البشرية من مكارم الأخلاق والتضامن، والتي ميّزت شخصية السوداني بالتفاؤلية والعفوية
ولكن في عهد الديمقراطية قبل الانقلابات العسكرية التي وردت أعلاه، منح حزب الأمة الجنسية السودانية لقبائل من دول الساحل العابرين السودان في مواسم الحج، مستقطباً إياهم لحملة جمع القطن ومن ثَمّ التصويت للحزب، وصارت مدخلاً لكمٍّ هائل من الاستيطان المنظم للأجانب.
ومن جهةٍ أخرى قامت الجماعات الموالية للعمل مع مماليك مصر لإرجاع ميراثهم للسودان من الأتراك الذين استعمروه والذي دخلته بريطانيا عند الانتقام لمقتل غردون باشا، وحكمته ثنائياً معهم الذي منحته الاستقلال بعد قرار إنهاء المستعمرات.
وهنا تشكّلت من تلك الجماعات حركات سياسية في السودان تساند الحكم المصري وتنادي بالاتحاد مع مصر، والذي نسجت فيه مصر خيوطها المخابراتية لتجعل منه دولة داخل دولة اشتهرت بها وتعمّقت فيها في المراحل التالية حتى اليوم.
[rhathymia]
لم يتهدد السودان أي خطرٍ مما أصابه ذلك من تحللٍ في إدارته، عدا الشفقة عليه من أطماع دول الجوار.
وقد كان السودان مسانداً لحركات التحرر العالمية فساند كوريا وفلسطين وتحرير إرتيريا من إثيوبيا، وحركات التحرر في إفريقيا، ولكن كانت إيجابيته لا تتسق مع وضعه الهش كدولة ناشئة ضعيفة، لخلق حساسيات مع الدول التي أصابها موقف السودان في مشكلاتها الداخلية، نعم كانت تمشيطاً مفيداً للنفسيات ولممارسة التحرر الفكري والتقارب مع ما يدور حوله في العالم، ولكن ترك ذلك بالمقابل ترسبات قد تقود للاشتطاط في التدخل في أمور الغير والتي حتماً تؤدي للوحل عند ترد صاعاً بصاعين وقت تدخلات الغير في أمور السودان، خاصة بحلول حكّامٍ هوج مجبولين على المقامرة والتهور.
وكان أن احتلت الحبشة منطقة الفشقة قبل استقلال السودان، باتفاقٍ قصير الأجل مع الادارة البريطانية في ثنائيتها مع الاستعمار المصري، وتعثّرت في إعادتها للسودان الذي ظلّ كما هو دائماً عفوياً في ذلك. وكان أيضاً ان اختلقت مصر خلافات مع السودان في حدودها مع السودان، إعداداً لسناريوهات المستقبل في ارتهان السودان لكلمتها ليس إلا، وتعدت يوغندا على مثلث اليمي في جنوب السودان.
أما الأحداث فقد بدأت تتسارع في مرحلتين، قبيل المرحلة الحالية. هما المرحلة الأولى، والتي كان فيها الجيل الثاني بعد ميلاد السودان الحديث، قد قدم أمثلةً نادرة من كفاحٍ وتضحياتٍ لشعبٍ مسالم، ضمن مساهماته في بناء الدولة ودعم الهوية السودانية، وما أكسب الشعب السوداني اعجاب واحترام العالم في ثورة اكتوبر الفريدة التي أطاحت بنظام إبراهيم عبود، ومن المثال الفريد في انحياز الجيش السوداني للشعب الأعزل ضد دكتاتورية جعفر النميري في ثورة إبريل 1985 التي قام بها المرحوم الجنرال سوار الدهب الذي نزع الحكم من العسكر وسلمه للمدنيين تحت إعجاب العالم أجمع.
والمرحلة الثانية عندما حدثت الانقلابات العسكرية في عهد النميري وعهد الإنقاذ، واللذين في عهدهما احتلت مصر منطقة حلايب وشلاتين، والذي فيه هرّب النميري المواطنين الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل، كما وبه احتلت يوغندا مثلث اليمي جنوباً. والذي مورس فيه وتواصل التدخل في الشأن الإفريقي، خاصةً شاد، لتغيير نظام الحكم فيها بصراعٍ دام دهراً لزرع حسين هبري مكان إدريس دبي.
وعمد الإنقاذ لفتح أبواب السودان للحركات الإسلامية بما فيها المعارضة السورية وحركة حماس، بمساندة روسيا، ومنحهم الجنسية السودانية في عمليات تزوير الهوية السودانية لمسانديها من هويات غير سودانية ليحلوا محل من شردوا بالأرض المحروقة كمواطني دارفور، أو بطرد الكفاءات والعقول بالعزل للصالح العام وتشريدهم من البلاد.
كل ذلك كان حِمَماً جارفة من براكين القهر العسكري والفساد الإداري في السودان الحديث حول جنين الهوية السودانية الذي لم يبلغ صباه بعد، والتي قامت بتشويه معالم هويّته المتحصّلة، مفرِّخةً من خلاله التنافر والتفرقة العرقية التي بدأت في تبديد الوحدة الوطنية.
كانت تلك هي المرحلة المخططة لتقسيم السودان الواسع، إعداداً للمرحلة 3 الحالية للشروع في تجديد هوياته إيذاناً لبيعه حزماً بامتدادات معدة بالمواصفات المناسبة لكل من يرغب، في الأساس لدول الجوار النفطية الغنية والتي تهاتي لدرجة السُّعْر لتأمين غذائها بتملك سلة غذائها، المتحسّرة في عدم لحاق قطار الاستعمار الذي أسست به دول الاستعمار والعبودية الأطلسية نفسها، بأرصدةٍ ضخمة بها تؤمّن رخاءها وأمانها، وحُرِمت منها رغم ثروتها النفطية، التي هي رهن التغيرات المناخية التي بدأت تهدد أمن دول النفط، وتزيد أعباء غذائها بتدهور البيئة، والذي هو نفسه دخل عبئا جديداً على الدول الصناعية والنفطية. وعلى الطرف الآخر مصر والتي تطمع في استعادة السودان ولا ترغب في الشراكة معه كصنوٍ لها، بدليل فشل التكامل معها الذي لم تخلص النوايا لإقامته كنظامٍ متّسق مع الشرعية المتماشية مع النظام العالمي القائم في صيانة حقوق الإنسان. تلك الدول إنفضحت تورّطاتها في التآمر على الهجمة الضبعية على جسد السودان أثناء افتراسه بالنظام السابق، وهم يغذون ذلك النظام لإطالة فرصة المزيد من التهامهم له، والتمني فيه ولا مشكلة لهم فالرشاوي التي اعترف بها المخلوع في المحاكم تدل على ذلك، وهو نفس الحوار الذي تمثّلوا به لمناديب العالم الحر الذين يشورونهم في الحلول المتوفرة.
وخلافاً لدول الجوار، فالدول الكبرى في المحاور العالمية تواجه تزايد تكلفة بسط سيطرتها في المحاور المتعددة، في العولمة، الواقع المعاش في حكم العالم حسب الخطة الماسونية لحكم العالم التي نُسخت في في ورقة النقد فئة الواحد دولار الأمريكي في شكل مثلثٍ بداخله عينٌ بشرية، كما وتجدها على لافتاتٍ منصوبةً أعلى مباني مدن دولة الأمارات. هذا هو الواقع الصلب الذي ينزع الطمأنينة من النفوس والذي يتحاشى الكل الخوض فيه وينزعون للتعامي عنه.
قبلاً، وخلال المرحلة رقم 2، وفي انهيار السودان في حكم الإنقاذ الذي فتح شهية الضباع، كانت المافيا العالمية قد شرعت في بلورة مؤامرة "تقسيم لحمة" السودان حزماً صالحة للتصريف المجزي، تراقب من على البعد، بينما قام قصيرو القامة من المغفلين النافعين من مجرمي الإنقاذ من الإخوان المسلمين والخونة من القوات المسلحة بما نسجته المافيا العالمية من خططٍ خبيثة ومحكمة لقلب السلطة الديمقراطية للتدخل في صناعة وتزوير الهوية.
نعم، ليس كرهاً في الديمقراطية، فالمافيا العالمية لا تعجزها الديمقراطية، ولكن للقضاء المحكم المتأني للهويّة السودانية، بدءاً بعزل مواطنيها من حياتهم الاجتماعية بحظر تجوّلٍ دام خمس سنواتٍ، وعزل السودان من المعلوماتية العالمية، وحظر الثقافة الإعلامية بغمس عقولهم في برامج جافة مركّزة نحو الأدلجة العمياء، ثم برامج تأصيل الهوية قبلياً لتنشيط النزاعات بإعادة السلطة الكاملة للإدارة الأهلية التي لا زالت في النزاع الإثني بخلفيات الماضي الذي لا يمت بصلة للواقع الذي تأسس به السودان الحديث، كل ذلك من أجل إعداد شكل الحزم التي يريدون تجزئة الدولة والسودانيين بها حسب طلب السوق.
وتلك هي المرحلة رقم 3، المرحلة الحالية، مرحلة تصريف الهويّات القائمة تمزيقاً وتشريداً تكملةً لما قامت به الإنقاذ خلال الثلاثين عاماً من حكمها، وتوليد الهويات القادمة مما أعدت له من توطين يساعد في الأدلجة بتغيير سيما الهوية.
فالبشير وعصابته، في طيشه لتغيير أصول السودان حسب ما يتطلبه التسييس الديني الضال، تمكّن من جعل السودانيين يشيرون بإصبعهم بعضهم إلى بعض أنهم غير سودانيين. سخّر لذلك أبواب جهنم من الإدارة الأهلية وعصابات الجنجويد وصراع الحواكير بين البدو والحضر، والارتزاق، وبيع الجنسية والجوازات ومنحها بدون احترامٍ للهوية، فنالها المنبوذون من إرهابيين ولصوص
وتبعته فلوله الآن بافتعال حركة البجا ضد مسار الشرق للبدء في معصرة وتنقية الهوية السودانية. وانطلقت به ومعه نفحاتٌ من الشمال ومن كردفان، وتسريباتٌ فضحت شهية بعض الحركات المسلحة.
الأمر كما هو الآن بما نرى هنا، قضية الهوية من مقامرةٍ ماثلة ليس إلا، اقتربت لحظة فرصة إبطالها عند هز الكلايدوسكوب، الذي بدأت القوى العالمية الاستعداد لهزن، لأن في عدم إنقاذها سيُشرّد نفرٌ هائل من الشعب السوداني، وليس في ذلك سرقة وظُلم فقط، إنما فيه تقنين تزوير الهوية وسرقتها، وهو عملية ردة من النظام العالمي الحالي ورجوعاً لعهد الظلام. هل هو ما نقبل؟ وهل هو ما يقبله العالم؟
لن نعرِف وهذه فرصتنا لإنقاذه قبل أن يخرس صوتنا في القبر في الوضع الجديد.
ما يجري أمامنا الآن ليس صراعَ آراء، إنما رمدٌ في العيون. خياراتُنا فيه كالآتي:
**إما القبول بإعادة تخليق السودان والسودانيين حسب شروط البورصة العالمية لإعادة استعمار العالم، في زحف التطرّف اليميني، والذي لا تتضارب معه مصلحة الأقوياء اليوم
**أو الثورة والنضال المستميت: ﺇﻣﺎ ﺣﻴﺎﺓً ﺗﺴﺮ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ** ﻭﺇﻣﺎ ﻣﻤﺎتاً ﻳﻐﻴﻆ ﺍﻟﻌﺪﺍ
والمعطيّات التي لدينا هي:
1- الجيش مؤسسة وطنية تذخر بالكفاءات لحماية الأمانة، ويعيبه في العمل السياسي أساس الطاعة العمياء للتسلسل الهرمي، مما يتطلّب حمل الأمانة كاملةً فيها بائتمان قائدها، مما يعني منح شركائها الثقة عن النكوص، والثقة لا تُمنح إنما تُكتسب، وأمامنا الآن حقيق قائمة: الثقة مُنحت ونُكِصت.
2- الديمقراطية ضرورية لتأمين الحقوق والواجبات، وهي الأمانة حسب دياناتنا الإبراهيمية،
3- الوثيقة الدستورية، لم تعكس رأي الشعب كما حمله التجمع المهني، الذي بايعه الثائرون جلياً، إنما صاغتها قوى الحرية والتغيير التي وسّعت دائرة التمثيل بأحزابٍ لا تتفق مع شروط الديمقراطية مما أعاب تلك الوثيقة ويتوجب تصحيحها.
4- إضافة مصفاة برامج وأصل برامج الجماعات التي أدخلتها الحرية والتغيير، وفض شراكة العسكر، تزول الأسباب لتوحيد القوى المدنية.
هذه هي النقاط التي يجب ألا تغيب عن البصر في تمشيط المبادرات التي تتقاطر حالياً بحثاً عن الحل الأمثل
وفي المقابل، يبرز أمامنا أكبر عائق من بقايا النظام القديم "حويصلة النظام الرجعي" بعد هزيمته، والذي بدأ يجمّع من داخل مجرى انطلاقة الشعب ما تسنّى من ترسبات من بعض الإخفاقات التي تنشأ لحداثة النظام لحين احتوائها. وأي انتكاسات تحتسب انتصارات للرجعية في انتعاشاتها قبيل موتها تماماً.
لا شكّ أن في ذلك الجنون الماثل فائدة لا تقدّر بثمن، بانت لنا عند صحوة الشباب والشابات المفاجئة، إنعدام القيد الأسري الذي انكسر، والذي يغذي المرء بقبول الواقع وطاعة كبيرهُ، فطرّق ذلك قوة شكيمتهم وعزمهم الذي أدهش كل المتابعين بصلا بته ضد تلك الطغمة، بدءاً بثورة سبتمبر 2013، وتوّجها بأغلى التضحيات في ثورة ديسمبر المجيدة وأمّنتها مليونية الثلاثين من أكتوبر والإضراب العام المستمر
وهنا ينطرح حلّان لا ثالث لهما:
● إما الرجوع تماماً إلى ما كان الأمر عليه قبل يوم 25 أكتوبر، وقت الانقلاب العسكري.
حيث يجب تنقية الوثيقة الدستورية من عيوبها التي طفت إلى السطح، وأهمها:
أ- نكص الشراكة العسكرية، أو قبول العسكرية في المجلس التشريعي لتضارب المصالح والمهام.
ب- إضافة بند تنقية البرامج السياسية المسموح لها بممارسة السياسة من مخالفة وثائق الأمم المتحدة في حقوق الإنسان ورفض الوصاية العرقية والدينية والاجتماعية
ج- تكوين حكومة تكون شروط أفرادها: 1- تكنوقراط 2- من تنوّعٍ عادل للولايات من أهلها 3- بعيدين من تهمة الانتماء أو التعاون مع النظام السابق أو في أي وظيفة يمكن الطعن بها في كفاءة حمل الأمانة.
د- عدم المصالحة مع من مارس عداءاً للديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان في السابق إلا بعد قبولهم باحترام تلك الأسس من جديد والتعهد بعدم الانخراط في مثل تلك الأنشطة.
ه- إعادة كل مؤسسات الدولة لوضعها الطبيعي تحت الإدارة المدنية المهيكلة في النظام الديمقراطي بالوزارات وسلطة رئيس مجلس الوزراء
ه- البدء فوراً، وبعد تنقية النواحي الشرعية فيما سبق، إلى تأسيس المفوضيات لتأسيس السلام، ولجان الدستور، والانتخابات، والقضاء.
●- وإما النضال المستميت واحتساب الشهادة
بأن تقوم قيادة الثورة بانتهاج برنامجٍ ينتظم الدعوة للذين يرغبون في نصرة قضية السودان من شباب دول الجوار، لاستيعابهم في ضد النظام في السودان، بمنحهم وثائق تكفّل لهم الجنسية السودانية بعد الانتصار، والذي فيه يستطيع السودانيون في المهجر المساعدة في طرحه للعالم لتقنينه، مثلما قام به اليهود في اقتلاعهم وطناً بحرب العصابات بقياده مناخم بيقن، مع الاختلاف أن رغم أن قضيتهم عادلة، إلا أن خيارهم ذاك لم يكن له مبرر بعد أن منحوا وطناً مع الفلسطينيين، وفي حالنا أننا نزع منا وطننا كما حدث لليهود في عهد الفرعون ____________________
توجد هذه المقالة باللغة الإنجليزية في قسم
Articles and Views @ https://sudaneseonline.com/board/15-news%20article%20on%20sudan.htm
In two days’time

izcorpizcorp@yahoo.co.uk
///////////////////////////

 

آراء