.
.
.
"الناس يموتون وهم ليسوا سعداء"
ألبيرت كامو
.
في مكان ما في حي المربعات بجوار سوق المدينة والذي تحول فيما بعد لخرائب وأطلال، بعد أن أقدم السيد نائب الحاكم وقتها علي إزالة كل المساكن القديمة بالحي وتسويتها بالأرض، إذ كانت مشيدة بمواد بدائية وتكاد أعمارها أن تتجاوز مائة عام. قامت الحكومة في المقابل بتعويض ساكنيها أراض تبعد عدة أميال من منطقة السوق. كان عثمان ود العيش الذي يعمل سائقا بعربة أجرة، مشغولاً بتعبئة حاوية معدنية بأربعة لترات من الوقود، كان قد تقاضي ثمنها للتو من أحد أصحاب السيارات الخاصة، حينما قامت الشرطة بإلقاء القبض عليه وإقتياده للمخفر بالمدينة، ومن ثم تحويله للأنتظار بالسجن العمومي بمدينة بربر.. فقد كان وقود السيارات العامة كالتاكسي والميني بص في تلك الأيام، تدعمه الدولة ويحظر لذلك تداوله، بينما يمنح بواقع ستة عشر ليترا لعربة التاكسي الواحدة مرتين كل أسبوع..
.
إن الدخل الذي كان يتحصل عليه عثمان ود العيش من بيع حصته من الوقود بالسوق السوداء، كان يفوق ما تجلبه عائدات عربة الأجرة بأضعاف أربع.. حتي أنه خلال الثلاثة أشهر السابقة تمكن لأول مرة من سداد متأخرات الإيجار كاملة لصاحب الدار الملحاح، وأن يشتري فوق ذلك موقدا يعمل بالغاز البترولي المسال.. كانت تلك أحدي الأمنيات التي ظلت تتمرغ في خياله لعدة سنوات.
.
كان عثمان ود العيش الذي قد شارف الأربعين من عمره، أبا لطفلتين ويسكن هو وأسرته الصغيرة بصحبة أمه المُسنة في دارٍ في ضاحية أم بكول، تتكون الدار من غرفة واحدة، ومرحاض مشترك، ألحقت بهما حديثا فراندا جلدت بصفائح معدنية، وقد شد السقف البلديّ علي قضيبين من الفولاذ كانا قد تحصل عليهما عثمان في وقت سابق من أحد أقربائه العاملين بهيئة السكك الحديد.. إلتحقت الصغيرتان للتو بمدرسة حكومية قريبة من الدار، بينما كانت أمهما تُقضّي النهار بأكمله وهي تعمل في بيع البيض والفطائر المحلاة للمارة والمسافرين بمحطة القطار الرئيسية بالمدينة.
.
في وقت ما في أحد أيام شهر يونيو قبل ستة وعشرين عاما، وقد كان الحرُّ علي أشده، عقب أيام قلائل من تلك الحادثة الصغيرة، إنشغلت مدينة عطبرة بأخبارٍ مروعةٍ فحواها أن ناقلتين باليتين تتبعان للسجن العمومي بمدينة بربر، قد فُقِدتَا لأكثر من ثلاث ليالٍ في مكان ما في وادي الحمار، وأن السلطات هناك علي مستوي المحافظة والمديرية ظلت تمشط بالسيارات الحكومية كل المنطقة الواقعة إلي الشرق من المدينة.. ويخشي الناس علي ثلاثة وأربعين سجينا بخلاف مرافقيهم من مصلحة السجون، تصادف أن كانوا علي متن الناقلتين، من أن يكونوا قد تعرضوا لظروف مناخية بالغة القسوة.
.
إلي الشرق من مدينة بربر حاضرة المحافظة والتي يوجد بها السجن العمومي، وبعد مسيرة أكثر من عشرين ميلا ناحية الشرق، يجد فيها السائر نفسه يعلو ويهبط في عزلة موحشة وسط متاهة من سلاسل متتالية من الكثبان الرملية الشاسعة، وقد رسمت عليها الرياح الشمالية الجافة في مساراتها اللولبية المتعاكسة، فصودا عشوائية متباينة وغير متناسقة.. هناك في مكان ما عند نهاية الكثبان الرملية يتمدد الوادي الذي تنتشر فيه دون حدود واضحة للناظر، مجموعات كثيفة ومتقطعة من شجيرات المسكيت المقاومة للجفاف.. تعودت إدارة السجن العمومي أن ترسل إليه كل إسبوع إحدي الناقلات التابعة لمصلحة السجون، وعلي متنها العشرات من السجناء، للقيام بتحميل شحنة كاملة من الأحطاب المشذبة، ليتم تسويقها لاحقا لإستخدامها كوقود بمدينتي بربر وعطبرة لقاء عائد مادي كبير..
.
في اليوم الخامس وفي نهار حارقٍ وكأن الأرض قد اندلقت فيه على كوة من الجحيم، تم العثور علي ثلاثة وأربعين جثة من السجناء وهي متصلبة تماما بسبب التعرض المفرط لأشعة الشمس الحارقة ونقص شديد في السوائل الحيوية، جنبا إلي جنب مع مرافقيهم من عساكر السجن العمومي، وكان البعض منهم قد تم العثور عليه بعد ساعات طويلة من البحث المضني، في دائرة واسعة تجاوز قطرها الثلاثة أميال. حدث ذلك علي ما يبدو بعد أن علقت الناقلتان في فخٍ من الرمال المتحركة.
.
لم تعرف المدينة منذ ميلادها حزناً كحزن ذلك اليوم، لكن الصدمة كانت قاسيةً أكثر حينما تناهى لمسامع الناس أن عثمان ود العيش، سائق عربة الأجرة، الذي تم إلقاء القبض عليه قبل أقل من شهر وهو يقايض أربع لترات من الوقود مقابل حفنة من المال، والذي كان يقبع بالسجن العمومي إنتظارا لإنقضاء محاكمته، كان قد ورد إسمه ضمن آخرين في قائمة القتلي بوادي الحمار..
.
إنتهي
nagibabiker@hotmail.com