أخبار أخرى
واشنطن: محمد علي صالح
هذه هي الحلقة الخامسة عشر من ثلاثين حلقة من وثائق وزارة الخارجية الاميركية عن سنوات اسماعيل الازهري، اول رئيس وزراء في السودان (1954-1956). بداية من اول انتخابات، واول برلمان.
منذ قبل استقلال السودان، بدأت السفارة الاميركية (كانت مكتب اتصال) في الخرطوم ترسل تقارير عن التطورات الداخلية في السودان.
بدأت هذه الحلقات بخمس حلقات عن الشيوعيين السودانيين (من سنة 1953): عن تأسيس حزبهم، وقادتهم، و نشاطاتهم.
كانت تلك بداية سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي. وخاف الاميركيون من انتشار الشيوعية في الشرق الاوسط. وخاصة في مصر. ثم انتقالها الى السودان. ثم الى دول وسط وشرق افريقيا. ومنذ ذلك الوقت، ظلت السفارة الاميركية في الخرطوم تتابع الشيوعيين، سنة بعد سنة.
هذه الحلقات الثلاثين عن سنوات الازهري (1954-1956): شخصيته. وشخصية محمد احمد محجوب، زعيم المعارضة. واعضاء اول وزارة. وازمة حزب الامة بسبب انتصار الازهري في الانتخابات. ودعوة بابعاد الحزب عن عائلة المهدي. وتردد الازهري بين الاتحاد مع مصر والاستقلال. والازهري والشيوعيون. والازهري والجنوبيون. والازهري والمصريون. والازهري والاخوان المسلمون. والازهري والبريطانيون.
بعد حلقات الازهري، ستأتي عشرين حلقة عن سنوات رئيس الوزراء عبد الله خليل (1956-1958). ثم عشرين حلقة عن سنوات الفريق ابراهيم عبود (1958-1964). ثم عشرين حلقة عن سنوات الديمقرطية الثانية (1964-1969). ثم اكثر من عشرين حلقة عن سنوات المشير جعفر نميري (1969-1975، حيث تنتهي الوثائق التي كشف عنها حتى الآن).
هذه هي الحلقة الخامسة عشر عن سنوات الازهري. وهي عن موقف الجنوبيين من الاتحاد مع مصر، او الاستقلال. وعن بداية التوتر الجنوب (والذي استمر لخمسين سنة، حتى اتفاقية السلام):
عبد السميع غندور:
من: مكتب الاتصال، الخرطوم
الى: وزارة الخارجية، واشنطن
الموضوع: قلق البريطانيين على الامن في الجنوب
التاريخ: 11-11-1954
“خلال الايام القليلة الماضية، قابلت مسئولين بريطانيين وسودانيين، منهم: مستشار الحاكم العام للشئون الدستورية والخارجية، ومساعده، ووكيل وزارة الداخلية، وحكام المديريات الجنوبية الثلاث، ومفتشي مراكز. وقالوا كلهم انهم قلقون على تدهور الوضع في الجنوب.
علمت ان اداريا شماليا عين مفتش مركز الناصر (مديرية اعالي النيل) قال انه خائف على حياته. وان اداريا شماليا عين مفتش مركز توريت (المديرية الاستوائية) تبادل شتائم باصوات عالية مع ضابط شرطة. وتناقش في غضب مع مساعد ضابط شرطة. وفصله في الحال. وان مجهولين حرقوا منزل تاجر شمالى في توريت، ومن قادة الحزب الوطني الاتحادي هناك. وان ضابط مركز الرنك (مديرية اعالي النيل) عبد السميع غندور، اصيب بجروح كبيرة في راسه، ونقل الى الخرطوم للعلاج. وقيل ان جنوبيا ضربه بعد ان اتهمه بمشاغبة زوجته.
وقال لي مسئولون بريطانيون عائدون من الجنوب ان زيادة مثل هذه الحوادث قبل رحيلهم من الجنوب تدل على انها ستزيد بعد رحيلهم. وقالوا انهم متشائمون.
وقال لى بيتر ايفانز جونز، مفتش مركز جوبا الذي انهى عمله قبل ايام وجاء الى الخرطوم، ان الوضع في الجنوب لن يتوتر الأن. ولكنه سيتوتر ربما بعد سنة. بعد ان يتسلم كل الشماليين وظائفهم الجديدة في الجنوب، ويفهم الجنوبيون ذلك، ويخططوا للتمرد الحقيقي.
وقال لي بوث ديو، زعيم حزب الاحرار الجنوبي ونائب زعيم المعارضة في البرلمان، انه قلق على الوضع في الجنوب. واعترف انه، كجنوبي، طبعا يقف مع الجنوبيين. لكنه قال ان السبب الرئيسي هو رئيس الوزراء الازهري. لانه يؤيد الاتحاد مع مصر. ويؤيد صرف رشاوي كثيرة على الجنوبيين، نوابا وزعماء قبائل، ليؤيدوا الاتحاد مع مصر.
رأينا:
عندما قال لى المسئولون البريطانيون انهم قلقون على الوضع الامني في الجنوب، لم يقصدوا ان الجنوبيين سيعلنون في الحال التمرد السياسي، او الانفصال. ولكن، ستظهر حركات تمرد هنا وهناك، ستؤثر على الامن، وستعرقل تطور الجنوب … “
(تعليق: قال المفتش البريطاني جونز ان “التمرد الحقيقي” سيبدأ ربما بعد سنة. واستعمل عبارة “ريال ريفولت”. وبعد اقل من سنة، وقع التمرد في توريت. وبدأت الحرب الاهلية التي استمرت، متقطعة، لخمسين سنة، حتى اتفاقية السلام الشامل سنة 2005).
بوث ديو:
من: مكتب الاتصال، الخرطوم
الى: وزارة الخارجية، واشنطن
الموضوع: حديث مع بوث ديو
التاريخ: 30-11-1954
“لساعات، تحدثت مع بوث ديو، امين عام حزب الاحرار الجنوبي ونائب زعيم المعارضة في البرلمان، ومن قادة الدعوة لاستقلال السودان. يمثل دائرة بحر الزراف في البرلمان. واهم قائد سياسي لقبيلة النوير، رغم ان زعماء القبيلة يتمتعون بوزن سياسي اكبر منه.
قال: “المستقبل الوحيد للجنوب هو سودان مستقل.”
بوث ديو رجل قوي ونافذ. لكن، اثرت ملاهي الخرطوم على سمعته وعلى صحته.
قال النقاط الأتية:
اولا: سيتقدم الجنوب فقط اذا نال السودان استقلاله. لكن، اذا اتحد مع مصر، سيهبط الجنوب اكثر الى قاع التأخر (“باكووردنيس”).
ثانيا: سيصير الاتحاد مع مصر ممكنا بسبب دعايات ورشاوي المصريين.
ثالثا: لهذا، يؤيد نوعا من الفدرالية (فدريشن) للجنوب.
رابعا: اتخذ مؤتمر جوبا الاخير قرارا سريا بتقديم مذكرة الى الحاكم العام البريطاني ليقدمها الى مصر وبريطانيا، لضمان الفدريشن للجنوب.
وقال ان المذكرة حددت الاسباب الآتية لطلب الفدريشن:
اولا: الجنوبيون متأخرون.
ثانيا: يواجون الدخول في وضع لا خيار لهم فيه.
ثالثا: يحتاجون الى تنمية اكثر من الشمال.
رابعا: لن يقبلوا اداريين اغلبيتهم شمالية.
خامسا: ستظهر حركات تمرد مسلحة اذا لم يتحقق الفدريشن … “
صلاح سالم:
” … واعترف بوث ديو ان مؤتمر جوبا الذي عقد في شهر سبتمبر فشل. وان السبب الرئيسي كان ضغوط الصاغ صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة في مصر، ووزير شئون السودان.
ضغط صلاح سالم على اسماعيل الازهري، رئيس الوزراء، وجعله يقاطع المؤتمر. وقال الازهري ان حزب الامة المعارض، وحزب الاحرار الجنوبي المعارض خططا للمؤتمر لكسب النواب الجنوبيين التابعين للحزب الوطني الاتحادي، ولاسقاط وزارة الازهري.
وقال بوث ديو ان الجنوبيين لا يريدون الاتحاد مع مصر، ويريدون الاستقلال. لكن، هناك مشكلتان:
أولا: لا يقدرون على التاثير بسبب الفقر والتأخر.
ثانيا: يتعرض قادتهم لاغراء الرشاوي.
وقال بوث ديو ان السودنة، وارسال الاداريين الشماليين الى الجنوب ستقود الى حركات تمرد هنا وهناك. لكن، لن تتطور هذه وتصبح حربا اهلية الا اذا اصر الشماليون على استغلال الجنوبيين. وانه، كزعيم للنوير، يقدر غدا على قيادة النوير في حرب اهلية. لكنه يعرف ان ذلك لن يفيد.
وانتقد الازهري، وانتقد تأييده للاتحاد مع مصر. ولاحظ ان جناح الختمية في الحزب الوطني الاتحادي اقل حماسا للاتحاد مع مصر من جناح الازهري (جناح الاشقاء). وقال انه مستعد للتحالف مع الختمية اذا اعلنوا تأييدهم للاستقلال. ومستعد لحشد نواب جنوبيين في حكومة تحالف تقود الى الاستقلال.
وسألته عن اشاعات نشرها جماعة الازهري بانه استأذن عطلة ثلاثة اسابيع من البرلمان ليسافر الى الجنوب ليخلق مشاكل. نفى ذلك، بدليل انه لن يذهب الى فنجاك، مسقط رأسه. ولكن الى ملكال، وذلك للتحقيق مع رجال من قبيلة الشلك متهمين بمحاولة اغتيال الازهري عندما زار الجنوب في شهر سبتمبر.
وقال ان علاقة طيبة تربطه مع الازهري، لكنه لا يؤيد الازهري في حماسه للاتحاد مع مصر، ويفضل التعاون مع الختمية اذا ايدوا الاستقلال … ”
جولة في الجنوب:
من: مكتب الاتصال، الخرطوم
الى: وزارة الخارجية، واشنطن
الموضوع: جولة في الجنوب
التاريخ: 28-12-1954
“مؤخرا، في مقابلات مع مسئوليين بريطانيين وسودانيين، قالوا لى انهم قلقون على الوضع في جنوب السودان. وقال لى مسئولون سودانيون انهم، فعلا، يواجهون مشاكل لضم الجنوب الى سودان موحد.
وتأكد لي ذلك بعد زيارة الى المديرية الاستوائية.
لاحظت توترا في كل الجنوب. وعرفت ان السبب الرئيسي هو نظرة الجنوبيين الى الشماليين والى المصريين بأنهم: اولا: “اتراك”. ثانيا: اجانب. ثالثا: لا يعطفون على الجنوبيين.
ولاحظت انه، مثلما يريد الشماليون السودنة لشغر المناصب التي سيتركها البريطانيون، يريد الجنوبيون الجنوبة لشغل نفس المناصب في الجنوب.
لكن، لا يوجد عدد كاف من الجنوبيين المؤهلين.
وسمعت ان وزيرا جنوبيا في وزارة الازهري اقترح عليه تعيين جنوبيا مديرا لواحدة من المديريات الجنوبية بعد رحيل المدير البريطاني. وان الازهري قال له: “يسهل عليك ان تكون وزيرا من ان تكون مدير مديرية!”
وخلال زيارتي للجنوب، سالت عن التوتر المتوقع. وعرفت انه ربما سيكون تمردا قبليا غير منتظم، او تمرد افراد في قبيلة. لكن، لن يكن تمردا شاملا في كل الجنوب. وقال لى مسئولون شماليون في الجنوب انهم يتوقعون مظاهرات هنا وهناك. وانهم، حسب السياسة الحكومية، سيخمدونها في قسوة.
لكن، ربما ستقود القسوة الى مزيد من التمرد.
وخلال زيارتي، لاحظت زيادة التأييد للفدريشن. لكني لم احس ان هناك رايا عاما فعالا يعبر عن مثل هذه الأراء. وقلت قوة ومصداقية حزب الاحرار، الحزب الرئيسي في الجنوب، بسبب استلامه للرشاوي التي وزعها المصريون عن طريق الحزب الوطني الاتحادي، حزب الازهري.
ولاحظت ان اغلبية الجنوبيين لا تريد الاتحاد مع مصر، وتريد السودان مستقلا. لكنى ايضا لاحظت ان اغلبية الجنوبيين لا تهمتم بالسياسة، وتعمل ما يطلب منها زعماء القبائل … “
عبد العزيز عمر الامين:
” … خلال زيارتي للجنوب، قال لى عبد العزيز عمر الامين، مدير المديرية الاستوائية، والقدير جدا، ان الحاكم العام البريطاني اصدر امرا لمديري المديريات الجنوبية بتوقع اعمال عنف او شغب او تمرد. وانه ارسل اوامر بنفس المعني الى مفتشي المراكز في مديريته.
لكنه قال ان بعض المفتشين بالغ في تصوير الوضع.
مثل مفتش مركز يامبيو (المديرية الاستوائية). مثل بقية المفتشين الشماليين في الجنوب، لا يحب العمل في الجنوب. ويعتقد ان الجنوب دولة اجنبية.
ارسل هذا المفتش رسائل الى الاروبيين في منطقته، ومعظمهم بريطانيين يعملون في الحكومة المحلية، او في مصنع انزارا، وتجار يونانيين. وقال لهم ان الوضع متوتر، وهناك احتمالات اضطرابات.
وقال لهم اذا وقعت اضطرابات، عليهم الحضور الى مكاتب المركز مع زوجاتهم واولادهم وبنادقهم واسلحتهم. وقال لهم انه وضع خطة لحمايتهم. وان الطريق عبر الحدود الى الكونغو سيكون مفتوحا للهروب، اذا تدهور الوضع.
لكن، زادت هذه الاوامر قلق الاجانب. ووصلت الاخبار الى رجال قبيلة الزاندي المنتشرين في المنطقة، وزادت قلقهم ايضا.
وقال عبد العزيز عمر الامين انه، عندما سمع بذلك، انب مفتش المركز. ونصحه بالغاء الاجراءات التي اثارت القلق. وفعلا، فعل المفتش ذلك. وسافر الامين الى يامبيو، وتجول في المركز، ولم يشاهد اي دليل على امكانية حدوث شغب او عنف او تمرد … “
قصة اخرى:
” … وحكى عبد العزيز عمر الامين قصة اخرى عن يامبيو:
قال ان اوامر صدرت للقوات المسلحة في جوبا بارسال فرقة عسكرية الى يامبيو، لمواجهة ما قالت انها احتمالات شغب او عنف او توتر. قال ان الاوامر صدرت من قيادة القوات المسلحة في الخرطوم، بدون استشارته.
ومرة اخرى، قلق سكان يامبيو، اجانب ومن قبيلة الزاندي، وهم يشاهدون السيارات العسكرية تتجول في شوارع المدينة.
في وقت لاحق عرف عبد العزيز عمر الامين ان الازهري، رئيس الوزراء ووزير الداخلية، امر بارسال القوات الى يامبيو. وان الهدف هو ابلاغ السكان ان الحكومة مستعدة للدفاع عنهم.
غير ان ذلك زاد القلق، تماما مثل اوامر مفتش المركز باحضار الزوجات والاولاد والبنادق الى مبنى المركز …
في جو الهلع والقلق هذا، انتشرت اخبار بأن كل مفتش مركز شمالي في المديرية الاستوائية سيحمل مسدسا. وان المسدسات سترسل اليهم من الخرطوم.
عندما سمعت انا هذا الخبر، تذكرت ان المفتشين البريطانيين اداروا الجنوب بدون مسدسات. وان المفتش البريطاني كان يتسلح بريشة يضعها على قبعته. وبمقدار كبير من الشجاعة.
وقال لى اروبيون قابلتهم هناك ان قلقهم زاد بسبب اخبار تسلح المفتشين الشماليين بمسدسات وسط جنوبيين لا يحملون كثيرا من الود لهم …”
(تعليق: يبدو واضحا من ملاحظات الدبلوماسي الاميركي ان المسئولين الشماليين الذين ذهبوا الى الجنوب ليحكمونه، بعد رحيل المسئولين البريطانيين، لم يكونوا متعودين على العمل مع، ووسط، الجنوبيين. وفي الجانب الآخر، اعتبرهم الجنوبيون اجانبا. وكان عدم الثقة كان من الجانبين).
(تعليق: كما اوضحت وثائق سابقة، اشتكى سياسيون جنوبيون من اهمال الازهري لهم. واشتكوا بأنه حتى الوزارات الثلاث التي اعطاها للجنوبيين لم تكن وزارت هامة. لكن، في الجانب الآخر، تسلم سياسيون جنوبيون رشاوى كثيرة من حزب الازهري ومن المصريين في جانب. ومن حزب الامة في الجانب الآخر. وقلل هذا من مصداقيتهم، ومن الثقة فيهم).
(تعليق: كما ستوضح وثائق تالية، بعد ثمانية شهور، وقع تمرد الجنود الجنوبيين في حامية توريت، بداية حرب اهلية متقطعة استمرت لخمسين سنة، حتى اتفاقية السلام الشامل سنة 2005).
mohammadalisalih@yahoo.com <mailto:mohammadalisalih@yahoo.com>
———————-
الحلقة السادسة عشرة: مفاوضات ماء النيل مع مصر
بسم الله الرحمن الرحيم نقابة المحامين السودانيين لجنة التسيير ورشة عمل: الحوار حول الإطار الدستوري …