وعلى الأقباط السَّلام [3] .. بقلم/ كمال الجزولي

 


 

 

 

بَيْنَ غطاسِ حَنَّا وبَرَكاتِ وَدَّ الأرباب

(مَبْحَثٌ حَوْلَ دَوْرِ المَسِيحِيَّةِ السُّودانيَّة فِي دَعْمِ الوُحْدَة)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإهداء:

إلى روح صديقي سمير جرجـس، شيخ قبيلة الأقباط السُّـودانيِّين، بمناسبة الذِّكرى العَاشِرةِ لرَحيلِهِ، فقد ظلَّ ينافِحُ بالإظفر والنَّاب، عن كلِّ ما يجمع ويوحِّد، جَاهَدَ الجِّهادَ الحَسَنَ، أكمَلَ السَّعيَ، حفِظَ الإيمانَ، وأَخيراً .. وُضِعَ له إكليلُ البِرِّ!

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تم الاكتتاب لإكمال مئذنة جامع أم درمـان الكـبير بفضل قصيدة الشَّاعر المسيحي صالح بطرس في الاحتفال برأس السَّنة الهجريَّة!   بإشراف الأستاذ سعد تادرس أنشئت إدارة بوزارة التَّربية والتَّعليم لتضمين الدِّين الإسلامي للتلاميذ المسلمين في المدارس المسيحيَّة والعكس صحيح!     ما تزال الذاكرة الأمدرمانيَّة تختزن "خلوة بولس" كملمح بليغ للتَّسامح الدِّيني وأثر شديد الإفصاح عن عبقريَّة المكان لم يستنكف الشيخ عوض عمر من العمل بمدرسة الكنيسة الأرثوذكسيَّة ولا الشـيخ احمـد بمدرسة الكـنيسـة الأنجـيليكـانيَّة ولا ابـن الشـيخ قـريـب الله مـديـراً لمـدارس الأقـباط!

  ***

نواصل من حيث أشرنا في الحلقة الماضية لمشاركة الشَّاعر القبطي المسيحي صالح بطرس في الاحتفال الذي أقيم بنادي الخرِّيجين بأم درمان بمناسبة العام الهجري الجَّديد 1341 هـ، وهي من المناسبات التي درج الخرِّيجون، مسلمين ومسيحيِّين، على استغلالها لإشعال الحماس الشَّعبي ضد الاستعمار. اعتلى بطرس المنبر أمام حشد الضُّيوف الذين كان في مقدمتهم الشَّيخ إسماعيل الأزهري، مفتي الدِّيار، والشَّيخ أبو القاسم أحمد هاشم، شيخ العلماء، واستهلقصيدته مخاطباً "الهلال" بكل رموزيته الإسلاميَّة:

                               يا من رأى طوق الهلال وقد بدا

                               يُهـدى لنا عـامـاً أغــرَّ مُشـهَّـرا ثم عرَّج على ذكر الأسلاف يمجِّدهم، ويحرِّض الشَّعب مستثيراً لوطنيَّته، ومستفزَّاًلنخوته:

                               ذهـبوا وقد أدُّوا الأمانة حقها

                               ونمـا إليكـم ذكرهـم متعـطـِّرا

                               إنَّا  قُبرنا  بعـدهـم في هجعـة

                               شتَّان ما  بيـن الثُّريا والثَّرى

                               يا عـام  إنا  آملوك  لخـيرنا

                               أمـلاً ينيل الحظَّ فيـك موفـَّرا

                               (المصدر ، ص 75 ـ 76)

ويستمرُّ راوية حسن نجيلة، في كتابه "ملامح .."، واصفاً كيف أن المزاجالجَّماهيري العام، القائم على التَّسامح الدِّيني والإلفة الوطنيَّة، جعل مشايخالإسلام يحتضنون ويوقِّرون الفتى صالح بطرس الذي ".. يزايل المنصَّة ونحن نتبعهبالتصفيق والهتاف ، ويجلسه كبار العلماء بينهم فى إجلال وإكبار" (المصدر ، ص76). ويضيف الراوية واقعة إسلامية أخرى كان صالح بطرس أيضاً بطلها: "..فالذين عاشوا فى ذلك العهد يذكرون أن مسجد أم درمان الكبير .. ظل بناؤه ناقصاًلفترة طويلة ، وكانت التبرعات تجبى له فى كثير من البطء .. وأثار هذا الموقفالمشين شاعرنا .. فبعث إلى "الحضارة"(1) بقصيدة ينعى فيها على المسلمينتباطؤهم فى إكمال مسجدهم. وقد كان لهذه القصيدة أثر كبير فى إزكاء حماسالمسلمين لإكمال بناء المسجد:

                              "يا مسـجـداً مطـلت بنوه بعهـده                                                             حتى غدا  وهو الحسير المعـدم

                              بدأوك جوداً بالصَّنيع وأحجمـوا

                              مـا كان  أولـى  أنَّ  ذاك  يُتمَّـم                     حتى يبلغ الأبيات:

                              أمنارة الدِّيــن الحـنيـف تحــيَّـة

                              من شاعـر لك قـد غـدا يترحَّـم"(2)

ويختم محدِّث حسن نجيلة روايته متساءلاً: "ترى هل يذكر المصلون في هذا المسجداليوم أن الفضـل فـي حـثِّ المسـلميـن لإكـمـال بنائـه لشـاعــر مسـيحـي" ؟!(المصـدر، ص 76 ـ 77).

إن تلك المواقف وغيرها لتؤكِّد، حتف أنف أيَّة وقائع أخرى سالبة تسبَّبت فيهاتاريخيَّاً تيَّارات الغلوِّ والتَّعصُّب، ومشروعات الاستبداد السُّلطويِّ والدَّولةالثِّيوقراطيَّة، أن الميل إلى "التَّسامح" ظلَّ يمثِّل القانون الأساسي لعلائق المسلمينوالمسيحيِّين خلال مختلف فترات تاريخنا الوطني، فلكأنهم يجسدون أبيات أحمدشوقي:

                              نعلى تعاليـم المســيح لأجلهم

                              ويوقِّـرون لأجـلنا  الإسـلامـا

                              الدِّين  للدَّيَّان  جــلَّ  جــلاله

                              لو شـاء ربُّـك وحَّـد الأقواما    

الواقعة الثَّالثة من مطالع حقبة الاستقلال:

وتتعلق بإدراج مادَّة الدِّين الإسلامي للتَّلاميذ المسلمين ضمن مناهج مدارسكمبوني، ومدارس الأقباط، والمدرسة التِّجاريَّة الأمريكيَّة "الإنجيليَّة" بأم درمان. ورغماختلاف الرِّوايات بالنِّسبة لكمبوني، حيث يؤكِّد محمد سعيد محمـد الحسـنوالمرحـوم سمير جرجس(3) أن ذلك قد تم بمبادرة من السَّيِّد على الميرغني معالمطران باروني عميد كمبوني الأسبق خلال النِّصف الأوَّل من خمسينات القرنالماضي، على حين يُغلب عبد الله على إبراهيم، بالاستناد إلى على هريمي(4)، أن ذلك قد تمَّ إثر استجابةٍ من إدارة كمبوني عطبرة لمطالبة بهذا الشَّأن من اتحادالطلاب تحت قيادة الجَّبهة الدِّيموقراطيَّة خلال النِّصف الأوَّل من السِّتينات، إلا أنما يهمنا هنا، أيَّاً كانت الرِّواية، هو أن مرحلة ما بعد الاستقلال قد شهدت إدراجتعليم الدِّين الإسلامي للتَّلاميذ المسلمين ضمن مناهج المدارس المسيحيَّة، وكذاإدراج مادَّة الدِّين المسيحي للتَّلاميذ المسيحيِّين ضمن المنهج الحكومي، وقد عُهد،آنذاك، إلى سعد سليمان تادرس(5) بتأسيس إدارة خاصَّة لهذا الغرض بوزارةالتَّربية والتَّعليم. وربما يكون ثمَّة مغزى خاص للإشارة هنا إلى عدم استنكافمشايخ كثر، وأبناء طرق وبيوتات صوفيَّة، من العمل بالمدارس المسيحيَّة، كالشيخعوض عمر الإمام بمدارس الأقباط التَّابعة للكنيسة الأرثوذكسيَّة بأم درمان، والشيخأحمد بالمدرسة التِّجاريَّة الأمريكيَّة التَّابعة للكنيسة الإنجيليكانيَّة بأم درمان ، ومحمدالهادي بن الشَّيخ قريب الله الذي عمل، فترة من الزَّمن، مديراً لمدارس الأقباط.

ويجدر أن نذكر، هنا، أن ذلك قد شكَّل، على نحو ما، إعادة إنتاج لتجربة "خلوة بولس" التي ما تزال تختزنها الذَّاكرة الأمدرمانيَّة كملمح بليغ للتَّسامح الدِّيني، وأثرشديد الإفصاح عن عبقريَّة المكان. فأسرة بولس(6) القبطية الأرثوذكسية، النازحة من صعيد مصر، استقرت بأم درمان في "حوش بولس" المعروف على تخوم حيبيت المال وحي اب روف، حيث أنشأت "خلوتها" المشهورة ذات المساقين: تعليمالدِّين المسيحي لأبناء المسيحيِّين، والدِّين الإسلامي لأبناء المسلمين، علاوة علىتقديم وجبة مجانيَّة لكلِّ التَّلاميذ أثناء اليوم الدِّراسي. ويهمنا، هنا، التَّشديد، بوجهخاص، على أن مسيحيَّة بولس وأسرته لم تحُل يوماً دون إلحاق المسلمين أطفالهمبهذه الخلوة طوعاً، بل وعن محبَّة وتقدير لصنيع أصحابها.    

الواقعة الرابعة من خمسينات القرن العشرين:

وقد رواها لي المرحوم الشَّاعر "سر" أناى كيلويلجانق(7)، وفحواها أن الصَّبي الدِّينكاوي الفقير "بيتر" أناي، وكان ذلك اسمه الأصلي، لجأ في خمسينات القرنالماضي، إلى "سِر" الختم الخليفة، مدير التَّعليم بالمديريَّات الجَّنوبيَّة آنذاك، متوسِّلاًإليه أن يزيح من طريقه عقبة الرُّسوم الباهظة التي كادت تجهض حلمه بالالتحاقبمدرسة رُمبيك الثَّانويَّة، فاستقبله "سِر" الختم، على عكس توقُّعات الأهل والأقران،بحنان وأبوَّة أشاعا الطمأنينة فى نفسه، مسهباً في سؤاله عن أبويه وإخوته، صحَّتهم، القرية، الزِّراعة، الأمطار، مِمَّا أشعر الصَّبيَّ بتعاطف "الخال"، ثمَّ أمَرَ فأُعفي "بيتر" أناي من الرُّسوم، وأُعيد إلى مدرسته والأرض تكاد لا تسعه منالفرح. وما أن استقرَّ في رمبيك حتَّى سارع لإشهار إسلامه، وتغيير اسمه من"بيتر" أناي إلى .. "سِر" أناي!

الواقعة الخامسة من مطالع سبعينات القرن العشرين:

وتتعلق بالأداء السِّياسي للشَّهيد جوزيف قرنق، الجَّنوبي الكاثوليكي، إبان توليهمنصب وزير الدَّولة بوزارة شئون الجَّنوب في حكومة مايو الأولى، حيث لم يستخدمنفوذه لمحاباة أهله أو قبيلته، بل رمى بثقله كله في خدمة قضايا الوحدة والسَّلام،فأعدَّ "بيان 9 يونيو 1969م" الذي تأسَّست عليه "اتفاقيَّة أديس أبابا 1972م"،مرتكزاً على الاعتراف المستقيم بالحقائق الموضوعيَّة للمشكلة القائمة، بالأساس، في الفوارق الاقتصاديَّة ـ الاجتماعيَّة ـ الثَّقافيَّة التَّاريخيَّة بين الشَّمال والجَّنوب، وراسماًالأسس التي يمكن أن تنبني عليها الوحدة والسَّلام (راجع نصَّ البيان ضمن:محمد عمر بشير؛ مشكلة جنوب السُّودان، ترجمة هنري رياض والجِّنيد علي عمر،دار نهضة مصر ومكتبة النَّهضة السُّودانيَّة، القاهرة 1970م، ص 168 ـ 171).وقد روى لي صديقه ووكيل وزارته إبراهـيم جـاد الله(8) أنهم، عندما اقترحوا، ضمنميزانيَّة التَّنمية في الجَّنوب، حفر أربعين بئراً أرتوازيَّة لمحاربة العطش في أعاليالنِّيل، شطب جوزيف أربعاً وعشرين منها بلا تردُّد قائلاً: "في هذا ظلم كثير للنَّاسفي كردفان ودارفور"!  

الحقيقة الثالثة تتمثَّل في المساهمات الواضحة للمجموعات المسيحيَّة السُّودانيَّة، منذ مطالع القرنالماضي وإلى عهد قريب، في شتَّى حقول النَّشاط المدني السِّياسي والثَّقافيوالاجتماعي والرِّياضي. ويكفى أن نشير، مثلاً، إلى ملحظين بارزين في هذاالإطار:

الملحظ الأول: أن المكتبة القبطيَّة تعتبر أقدم مؤسَّسات المجتمع المدني السُّودانيَّة، حيث جرى إنشاؤها عام 1908م، قبل إنشاء سودان كلب Sudan Club نفسه، حالة كونه المنتدى الصَّفوي للإنجليز في الخرطوم. وتعتبر المكتبة من عيون الخزائنالجِّياد، إذ تحتوى على نحو من عشرة ألف كتاب في مختلف فروع العلم، والأدب،والفن، والثَّقافة العامَّة، علاوة على ثروة من الوثائق النَّادرة. وعضويَّة المكتبة مفتوحةلكلِّ السُّودانيِّين، بصرف النَّظر عن معتقداتهم الدِّينيَّة، ومن بين مؤسِّسيها وأعضائها علماء مسلمون مرموقون كمحمَّد إبراهيم أبو سليم، وزكى مصطفى، والمرحوم نجم الدِّين محمَّد شريف. كما وأن الكثير من أساتذة الجَّامعات وطلاب الدِّراسات العليا يستعينون بها في وضع بحوثهم ورسائلهم. ويكتسي دلالة خاصَّةأن لائحة المكتبة قد جرى تعديلها، ذات مرة، بقرار خاص من الجَّمعيَّة العموميَّة، استجابة لرجاء من أبو سليم، كي تسمح بإهداء ستَّة مجلدات قيِّمة من مجموعة المصرَّيات ضمن مخزونها إلى دار الوثائق السَّودانيَّة. كما يجدر أن نشير إلى أنالمؤرخ يونان لبيب رزق، وبمساعدة من أبو سليم، قد عثر، لاحقاً، بين هذه المجلداتعلى الوثيقة الأساسيَّة التي حسمت النِّزاع لصالح مصر، في التَّحكيم الدَّولي بينمصر وإسرائيل، حول تبعية منطقة "طابا". وقبل ذلك كانت هذه المكتبة قد زوَّدت وزارة الثقافة المصريَّة، في عقابيل ثورة 23 يوليو 1952م، على نسخ نادرة،لأغراض إعادة الطبع، من "أصل الأنواع" لشبلي شميل، و"حرب النهر" لونستونتشيرشل، و"عشر سنوات في أسر المهديَّة" للأب جوزيف أهولدر، بعد نفاد الطبعاتالأولى من هذه المؤلفات التي كانت قد صدرت من مطبعة بولاق بالقاهرة في أوائل القرن الماضى.

الملحظ الثانى: أن أروقة الأحزاب السِّياسيَّة، كجزء من مؤسَّسات المجتمع المدني،ظلت تضمُّ، دائماً، وعبر مختلف الفترات، عناصر مسيحيَّة ناشطة بين قياداتهاوقواعدها، كتادرس عبد المسيح "عضو مجلس الشِّيوخ سابقاً"، وجوزيف صبَّاغوإبنه لطيف في حــزب الأمَّــة، ووديـع جـيِّــد، وعـبـد الله النَّجـيـب، وحـنَّا يسـا البيباض فـي الاتحـادي الدِّيموقراطي، وموريس سدرة، وسمير جرجس، وميشيل اسطفانوس، وجوزيف قرنق، وجوزيف موديستو، وجرجس نصيف، في الحزب الشِّيوعي، على سبيل المثال.  

(6)

في خلفيَّة هذه الحقائق وغيرها تتجلى المفارقة المأساويَّة بوضوح حين ننظر الآن فيما انتهى إليه هذا الحضور الرِّيادي، فلا نجد، إلا في ما ندر، غير ضعف مشاركة المجموعات المسيحيَّة، خصوصاً القبطيَّة، في الحياة العامَّة، بل غيابها شبه التَّام عنأنشطة المجتمع المدني، وانزوائها الكامل كما الجَّاليات المعزولة! وقد لا يحتاج الباحث إلى كبير عناء ليعود بتاريخ هذه الظاهرة إلى فترة أواخر سبعينات وأوائلثمانينات القرن الماضي، والتي شهدت بداية الإرهاص الجِّدِّي بتدشين مشروع الدَّولة الدِّينيَّة الذي أُنجز أولى حلقات تمظهره الكيفي بإصدار وتطبيق قوانينسبتمبر 1983م، باسم الشَّريعة الإسلاميَّة، ثمَّ عاد لاحقاً إلى مراكمة عناصرحركته بذات الاتجاه في ظل الظروف التي تمخضت عنها الانتفاضة الشَّعبية بينأبريل 1985م ويونيو 1989م، حيث استكمل خطوته التَّحويليَّة نحو حلِّ قضيَّةالسُّلطة عن طريق الانقضاض المسلح على الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة.

صحيح أن المسيحيِّين شهدوا، خلال هذه الفترة، من عنت المعاش والثَّقافةوالاجتماع، ما لم يشهدوا طوال قرن بأكمله، بما في ذلك التَّشريد الذي طال أندركفاءاتهم في سلك الإدارة والمصارف وخلافه. ولكن الصَّحيح، أيضاً، أن الكثير من المسلمين أنفسهم أضيروا، ربما بأكثر من المسيحيِّين، من مشروع التَّيَّار "السُّلطويالاستعلائي". وليس سوى مكابر من ينكر أن هذا المشروع لم يعدم مساندةمسيحيِّين بين الجَّنوبيِّين الكاثوليك والأقباط الأرثوذكس. كما وليس سوى مكابر منلم يلمح، في ملابسات الحرب التي جرى تصويرها على أساس ديني، كيف أنالمسلم قد قتل بيد المسلم، والمسيحي بيد المسيحي. لذلك ينبغي الكفُّ عن التَّرويجللمشكلة كما لو كانت قائمة بين المسيحيِّين ككتلة متجانسة، وبين المسلمين ككتلةمتجانسة مضادَّة. لقد بدت هذه الحرب اللعينة، أوَّل أمرها ، كانعكاس، بالفعل، لمشكلة وطنيَّة فيظروف التخلف “.. national question under backward conditions”، كمـا ذهـب إلـى ذلك جوزيف قرنق، مـثلاً، في كـتابه “The Dilemma of the SouthernIntelligentsia” الصَّادر عن وزارة شئون الجَّنوب عام 1970م. وقد كان منالميسور، أوان ذاك، حساب التخلف الاقتصادي كأهمِّ أساس لها. ولكننا الآن، وفقملاحظة د. محمد سليمان السَّديدة في كتابه (حروب الموارد والهُويَّة، دار نشر كيمبردج، لندن 2000م)، نكاد نكون قد نسينا الأسباب المباشرة والهيكليَّة للحرب، على حين تضخَّمت لدينا، مع مرور الزَّمن، إحدى أخطر "النتائج" المترتِّبة عليها،لتشكِّل بنفسها "مورداً" مستقلاً لتفاقمها، وهي منظومة المُدركات والفهوم السالبةperceptions التي تتخفى خلف التَّعبيرات الدِّينيَّة، في الغالب، كصورة للوعيالاجتماعي المقلوب (!) والذي لطالما غذَّته أيديولوجيَّة التَّسلط والاستعلاء، وعزَّزتهالحربُ فى الذهنيَّة العامَّة. لذا، وبالمقارنة مع السَّلاسة النِّسبيَّة للحلول التنمويَّة التيكان من الممكن اجتراحها على كلا البنيتين التحتيَّة والفوقيَّة منذ مطالع الاستقلال،فإن هذه الحلول قد تستنفد منا اليوم أعماراً بأكملها ريثما تجدي فتيلا! ومع ذلك لايبدو، لسخريَّة الأقدار، أن ثمَّة مخرجاً أمامنا سواها!

لقد ثبت أمام أعين الجَّميع أن فضل "الإيقاد" لا يتجاوز إسكات البنادق! أما كلُّ ماعدا ذلك، كتعميق الدِّيموقراطيَّة، وعدالة التَّنمية، ونبذ الاستعلاء بالدِّين، والثَّقافة، واللغة، والعرق، وخلافه، فإنه ما يزال من مهام المجتمع المدني، بما في ذلك الضَّغطعلى الدَّولة لتنفيذ ما يليها من واجبات. وغافل من يكِلُ عمل المجتمع المدني إلى الدَّولة، حتى بمشاركة الحركة الشَّعبيَّة في إدارتها! ومن نافلة القول أن أهم مهامالمجتمع المدني، في هذا الإطار، هو ترميم اطمئنان المجموعات المسيحيَّة بالوطن،واستعادة دورها في ساحات النشاط السِّياسي والاجتماعي العام.

(انتهى)

الهوامش:

(1) جريدة (حضارة السودان) التي اشترك فى تأسيسها، عام 1919م، السَّيِّد عبد الرحمن المهدي، والسَّيِّد علي الميرغني والشَّريف يوسف الهندي، وكان أوَّل من تولى رئاسة تحريرهاالمرحوم حسين شريف.

(2) النصُّ الكامل للقصيدة منشور ضمن كتاب سعد ميخائيل، المسيحي أيضاً، والذي أصدره عام 1925م، بعنوان: (شعراء السودان، مطبعة رعمسيس بالفجالة بمصر، ص 140).

(3) صحفي مخضرم من أكثر الأقباط السُّودانيِّين انشغالاً بهموم السَّلام والوحدة الوطنيَّة والدِّيموقراطيَّة والتَّقدُّم، وأبرزهم في حقل النَّشاط السِّياسي والاجتماعي العام (من مقابلة شخصيَّة معه في منزله بالخرطوم، نهار الأحد 21 ديسمبر 2003م).

(4) رجل أعمال من خريجي مدرسة كمبوني بعطبرة أواسط السِّتينات، وكان عضواً في لجنة اتحادها.

(5) مسيحي من أبكار رجال التَّربية والتَّعليم، والد الضَّابط الشَّهيد ميلاد سعد سليمان الذي التحق بقوَّات المعارضة خلال تسعينات القرن الماضي، واستشهد في بعض ملابسات العمل العسكري بشرق البلاد. 

(6) وفى سلالتها نفر من مشاهير الشَّخصيَّات السُّودانيَّة التي لعبت أدوار مهمَّة في شتَّى مجالات الحياة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في البلاد، كوديع حبشي، الخبير الزِّراعي العالمي، والوزير ومدير مشروع الجَّزيرة الأسبق، وأوَّل رئيس للنادي القبطي عندتأسيسه في 1978م، ونجيب يسا، مدير مصنع سكِّ العملة الأسبق، وسكرتير نادى المريخالأسبق، وغيرهما.

(7) وقد سبق أن أوردت هذه الواقعة ضمن فصل (جنوبيُّون)، في كتابي (الآخر)، تحت عنوان (الثقب في سقف البيت).

(8) من محادثة هاتفيَّة معه عصر السَّبت 21 يوليو 2001م. وقد سبق أن أوردتها أيضاً ضمن (جنوبيُّون) تحت عنوان (جو: أىّ فتى أضاعوا).   ■ ■  kgizouli@gmail.com

 

آراء