ومع ذلك المظاهرات السودانية سلمية

 


 

 

 

 

نقلا عن القدس العربي
هذا المقال لا يهتم كثيراً بسطح هذا الحدث الضخم الذي تفجر في السودان منذ 21 كانون الأول/ديسمبر وما زال يختزن شتى الاحتمالات، وإنما يهتم باعماق الحدث وما يحمله من تاريخ وميثولوجيا وأشواق للآتي.

لا بد أن المتابعين لوسائط التواصل الاجتماعي قد رأووا التظاهرات والحشود والقتلى والقنّاصة وقرأوا ما كتبته الشابة ألاء في رسالة – وصية تقول فيها انها قد تستشهد في التظاهرة وقد يكون ذلك اليوم وتلك الرسالة، آخر شكل لتواصلها مع الأحياء وأنها ترغب أن يُدفن جثمانها في قبر مجاور لقبر جدتها.

كما أنهم لا بد قد رأوا شريطاً للفنان أبو عركي البخيت، أخذته له أسرته وهو خارج للتو من التخدير بعد خضوعه لعملية جراحية، ولم يكن قد بلغ بعد وعيه الكامل، فيما كان يردد عبارات وهتافات عن حبه للوطن والشعب.

بالطبع لا يحق لعمر حسن أحمد البشير، رئيس البلاد الحالي حتى إشعار آخر، أن يسأل “من أين أتى هؤلاء؟” (المتظاهرين) فالسؤال ربما كان مشروعاً حينما طرحه الروائي الطيب صالح في أوائل التسعينات متسائلاً عن حكام السودان الجدد في أول عهدهم حين بلغ بهم الطموح السياسي أن يتطلعوا لكتابة تاريخ المنطقة بمداد دواتهم، لكن تلك قصة أخرى.

في خطابه الأول صباح انقلابه على الحكومة المنتخبة في 30 حزيران/يونيو 1989 قال عمر البشير أنه الأنسب للتفاوض مع حملة السلاح في الحركة الشعبية لتحرير السودان والوصول لاتفاق سلام لكن منطق الحرب ظل ملازماً لسلطته على مدى ثلاثين عاماً أي أنه واصل حربه، مع حاملي السلاح والمسالمين معاً، طوال فترة حكمه.

من أشكال الحرب التي اتبعها البشير أنه بدأ بتجفيف موارد معارضيه عن طريق الاعتقال التعسفي في بيوت الأشباح وفصل الآلاف عبر قوائم أعدتها له منظمات حزبه السياسي وتحت هذا الغطاء فصل العديد من قيادات الخدمة المدنية واستبدلها بعناصر من حزبه في سياسة تُسمى التمكين، وبعد أن تمكن هؤلاء من مفاصل الدولة قاموا بخصخصة العديد من مؤسساتها العامة لبيعها لرصفائهم الذين سيشكلون في السنوات التي تلت الانقلاب قطاعاً خاصاً رأسمالياً. وفي عمليّة تبادل المنافع هذه بين المتمكنين في قطاع الدولة وزملائهم من الشرائح الرأسمالية المتمكنة في القطاع الخاص نما الفساد وترعرع وازدهر، وقاد إلى تفجر الصراع بينهم وبين عامة الشعب، وبين بعضهم البعض، حتى صار شعار (سلميّة سلميّة، ضد الحراميّة) شعاراً معتادا في التظاهرات. وبطبيعة الحال فقد واكب عمليّة التمكين التي استغرقت سنوات طوال، شن الحرب (العمريّة) للقضاء على النقابات والصحافة المستقلة والقضاء المستقل ثم تقدمت تلك الحرب لقفل آخر منافذ للكفاح المدني بادخال استراتيجية استخدام القناصة ضد انتفاضة أيلول/سبتمبر 2013 حيث بلغ عدد القتلى بسلاح القناصة نحو 250 قتيلا لم يتم التحقيق في قتلهم ولم يكشف عن الجهة التي اقتنصتهم حتى الآن. ولا شك أن معظم المنخرطين في الحدث الكبير الراهن هم أصلا من الناجين من ذلك القنص.


سلمية المظاهرات

تغوص سلمية التظاهرات عميقاً في الوعي الشعبي السوداني وتستند إلى مشاعر حب عميقة للشعب تكاد تأخذ بعداً إيمانيّاً، وتتشكّل في سردية تأخذ شذرات من التاريخ وأخرى من الميثولوجيا في لغة وايقاعات تتوسل الشعر وسيطاً للوصول إلى قلوب حشود المتظاهرين.

في مقابلة مع صحيفة مصرية في أول عهده قال البشير أنه جندي مشاة “يجيد التمويه”. ويبدو أنه كان يتباهى بخديعته للشعب ولا يتحمل عدم الإفشاء بسره الكبير. وتسرب سر (التمويه) في عملية القفز إلى كرسي الحكم وذهاب قائده حسن الترابي إلى السجن. وظل حجم تسرب هذه المعلومة يتضخم ويتضخم في اعترافات الترابي التي تلت ما يسمى بعمليّة المفاصلة بينهما بعد مذكرة العشرة، وبلغ منتهاه في اعترافات الترابي لقناة “الجزيرة” التي أذيعت بعد موته.

هناك عمل غنائي سوداني يُسمى (الملحمة) من كلمات الشاعر هاشم صديق وغناء الفنان محمد الأمين يمثل وصفاً ميدانياً لثورة تشرين الأول/اكتوبر 1964 التي انهت حكم الفريق ابراهم عبود (1958-1964). وقد رسّخ هذا العمل الفني حالة معيارية لاستخدام الأغنية كعنصر حاسم في التظاهرات والصمود أمام عمليات البطش فنجد من بين كلماتها (كان في الخطوة بنلقى شهيد، بدمه بيرسم فجر العيد). وقد صارت هذه الملحمة بمثابة نقلة كاملة لعلاقة المواطن بالشارع وبالتظاهر.

بعض أقوال في حب الشعب

كما يشكل الشعر غذاءً حقيقيّاً للروح الناهضة بين الشباب، فبالرعم من أن إثنين من أهم شعراء الشعب، محجوب شريف وحمّيد، قد توفيا إلاّ انهما لا يزالان حاضران في المشهد التظاهري حيث تضبط كلمات اشعارهما باللغة العامية خطوات المتظاهرين في الشوارع. وهم (الشباب) يستلهمون روح المحبة العميقة للشعب في أشعار هؤلاء الشعراء للمواطن البسيط. لا بد ان ابيات قصائد محجوب شريف تتحرك في وجدانهم مثل قوله:

نحن شعبنا مدرستنا ياهو أمنا ياهو يابا (هو أمّنا وأبونا)

هو البيدي شهادة الميلاد ويابا (يابا – يرفض)

هو البفرق بين حكومة وبين عصابة

وقوله:

يا شعبنا يا والداً أحبنا

يا من وهبتنا ثباتك الأصيلا

وحلمه بـ:

وطن حدادي مدادي

ما بنبنيه فرادي ولا بالضجة في الرادي ولا الخطب الحماسية

وطن بالفيه نتساوى نحلم نقرأ نتداوى

بالإضافة إلى اكتوبريات الشاعر محمد المكي ابراهيم التي غناها الفنان الراحل محمد وردي، التي يقول محمد المكي ابراهيم فيها:

انني أؤمن بالشعب حبيبي وأبي

وبأبناء بلادي الشرفاء

الذين اقتحموا النار وكانوا بيد الشعب مشاعل

وبأبناء بلادي البسطاء

الذين انتفضوا في ساحة المجد فزدنا عددا

وبأبناء بلادي الشهداء الذين احتقروا الموت فعاشوا أبدا

ويغنون مع الشاعر محمد الحسن سالم حميد

باسم السلام نبدأ راحة أغانينا

على خاطره تتمدد ساحة حكاوينا

ونغني للاطفال ياهن تقاوينا (ياهن – هم)

أو يرددون معه:

يالتواريخك فصيحة فكفكت عقدة لساني

رحل محجوب شريف وحميد لكن ما زال أزهري محمد علي يغرد بمقطوعاته البديعة وطارق الأمين بشبابية قصائده، وهناك محمد طه القدّال، الذي اعتقل في التظاهرات الأخيرة، وهناك وسائط التواصل الاجتماعي التي استعصى على السلطات اغلاقها.

هناك فئتان من الشباب المشاركين في الحدث الراهن احداهما الشباب الذين شاركوا في انتفاضة أيلول/سبتمبر 2013 والأخرى فئة الشباب الذين وُلدوا في عهد الانقاذ هما الفئتان اللتان تشكلان أغلبية المتظاهرين في الشوارع اليوم ولقد ظل هؤلاء الشباب يحاولون ابراز مساهمتهم في الحياة العامة ووضع بصماتهم على زمانهم وشكلوا جماعات للعمل الخيري مثل (مبادرة شارع الحوادث) وغيرها للمساعدة في قضايا العلاج ودعم أسر المرضى وفي مبادرات دعم الكوارث، ولا بد انهم اكتشفوا ان هيبة الدولة ليس لها ما يدعمها من أفعال.

إلى جانب تظاهرات المدن المختلفة التي خلّفت وراءها حتى الآن 37 شهيدا (حسب منظمة العفو الدولية) هناك الاضرابات الآنية والمقبلة، وهناك مشاكل الخبز والسيولة لكن فوق كل ذلك هناك مشكلة المصداقيّة والأيام القادمة حُبلى.

 

آراء