يونيو من مايو، والبشير من النميري: حقائق حول أسْطوانة مَشْروخَة لِتَمْجِيدِ ديكتاتور، سفاح، أسْقَطه الشعب

 


 

 

 

isammahgoub@gmail.com


# كان النميري يَحْكُم السودان بالودِعِ أوّل عهده، وآخِره بخُزَعْبِلاتِ الذين لَحَسوا عَقْله، لذلك تنقّل مِن فَشَلٍ لِفَشلٍ
# البشير والنميري وجْهان لعُمْلَةٍ واحدةٍ غير مبرئه للذمةِ.. ""طُرّتها" قَتْل وظُلْم وقَهْر، و"كِتابتها" تشريد وفساد وتدمير للخدمة المدنيّة
# أنْصح بتركِ النميري في قبرهِ لرحمةِ رَبّهِ، ولا تحرِّكوا مشاعر الظُلم المَكْبوتة في الصدورِ فتَلْحَقه اللّعنات التي يستحقها
# النميري حَكَم السودان باسم الإسلام، قطع، بتر مِن خلاف، سجن، تحسّس، تجسّس، تلصّص ونَطّ "الحِيط" للقبضِ على البشر بالشروعِ في الزِنا، والبشير انْطَلَق من تلك الحِتّةِ وفعل أسْوأ من ذلك
********
قَبْل أيام رفع أحد الأصدقاء لقروبِ في منصةِ (واتساب) للتواصل الاجتماعي رسالة مَنْقولة طويلة تفيد بأنّه بدأ العمل لإنتاج عمل درامي عن جعفر نميري. وكتب ما كتب في تَمْجِيد السفاح المخلوع بأمر الشعب في ثورة مارس أبريل 1985. وأسْهب حول المراجع التي سيسْتنِد عليها العمل الفنّي وأماكِن تصويره داخلياً وخارجياً.
لَمْ يهِمّني كل ذلك في كثيرٍ أو قليلٍ، إلّا عندما جاء حديث التَمْويل، فوقَع الشخص الذي وراء تلك الرسالة في اقْبَح أفْعاله عندما كتب "سيكون التَمْويل بمشاركةِ الشعب السوداني وتَكْفي جُمْلة واحدة (جنيه لمُسَلْسَل القائد)، مثل قِرْش الكرامة".
عندها توقفْت عن قراءةِ بقيّةِ "تقيؤ تلك الرِسالة" في ثورة مارس ـ أبريل 85، فقد "أصِبْت بطُمام"، وكَتَبْت:
والله لو منتظرين شعب السودان يموّل هذا القرف "واطتكم" أصْبحت. أتْرُكوا الديكتاتور السفاح في قَبْرهِ ولا تنْبشوا عليه دعاء أُسَر الذين ظلمهم وشَرّدهم وقتلهم وعَذّبهم. قالوا ايه، قالوا يعملوا فيلم عن نميري‼
فعلا المطلوب فيلم عن جرائمهِ والدمار الذي سَبّبه للسودان وقد فَرَشَ الطريق للسفاح الآخر عُمر البشير وشركائه ليجْعلوا عهد ظُلْمه وقَسْوته وفشله وفساده عَهْدَين، فأصبحت الإنقاذ من مايو، وعُمَر امتداد لجعفر، والخُلاصة أنّ النميري والبشير "شبهينا واتلاقينا" في تدمير السودان.

* على الفور بدأ ما لا أطْلِق عليه حواراً، وإنّما جدلاً دار أغْلبه حول المقارنة التي جاءت في تعليقي القصير، وكنت بالفعل أتوقّعه. بيد أنّ ما استغربت منه استعمال عبارات وجُمل كَسِيحة لا تقف على ساقين ولكنها تجرجر النقاشات وتزحف بها زحفاً زحفاً. بعضها من صُنع نظام مايو، يعْلِكها سدنته دون الاعتراف بأنّها فقدت مذاقها، مِثل العبارة المستهلكة "النميري لو رجع كان خَلّص البلد من الكيزان". وباصطياد أهم معاناة الحاضر الذي افرزه وأنتجه نظام الإنقاذ البائد في مجال التعليم الذي اصبح بالفلوس (وبالشي الفُلاني من الفلوس)، يجري الدفع في الجدال بعبارة "كان التعليم في عهد نميري مَجّاناً" أو "تعلّمْنا مَجّاناً إلى الثانوي العالي.... وبعضنا في الجامعات أيضاً بالمَجّانِ".
وأكثر الجُمل والعبارات في تمجيد نميري، تجتزئ بعض حالات ومواقف، ولا تَقْرأ أخلاقه وسلوكه وما قام به طوال عهده كوحدة متكاملة. وهنالك عبارات تثير التَقَزُّز، لَمْ يَنْفَكْ شموليو مايو من اسْتِعْمالها واسْتولى عليها نظام يونيو وظلّ يجَدّدها بما تَمَرّس عليه من أدوات التمويه والخداع التي أسّس عليها نظامه فاسْتَمَر ثلاثة عقود، وعمل بها وجعلها أحد أهَمّ أدواته في الجدلِ والحواراتِ غير المُنْتِجَة، مثل "أنت زول قاعد بَرّه البلد ونحن……"، فتضطر للحديث عن نفسك، ولا مَفرّ من ذلك.
ويرفُض مُمَجِّدو جعفر نميري مقارنته بعمر البشير، منطلقين من السِيرة السَيّئة للأخير في كافة المجالات التي تعامل فيها بها، والتي اتصفت بحُبه للمال والامتلاك وفتح خزائن الدولة لأهله وإخوانه وزوجته ومَن لفّ لفِه وجماعته، وبخِسة تجاه رفاق السلاح وطردهم وخداعهم وقتلهم، وبسُمْعَة قبيحة تركها في تعامله مع الرؤساء الآخرين عرباً كانوا أم أفارقة وحتى زعماء مثل الروسي فلاديمير بوتين الذي ذهب إليه البشير يستجديه الدفاع عنه وعن نظامه من مطاردةِ العدالةِ الدوليّة له.
ويخْتصِر مُمَجِّدو جعفر كل ذلك في العبارة الدارجِة "ده بقولو ليهو أبْعاج ويلقبوه بالأسد والتاني بقولو ليهو بِشَّه!، ده مِش فرْق كبير بينهما؟".

* في رسالة ثانية لذلك القروب، كتبت:
دعني أبدأ أولاً بأسْطوانة الكيزان المَشْروخة وعَبَدَة نوستالجيّة نظام مايو البغيض، الذين يَطْرِبهم صوتها المشْروخ، بالأخص تَرْدِيد حكاية "أنت قاعد برّه البلد!…".
فماذا يعني ذلك، هل يعني أنّ "البرّه البلد لا يَعْرِف ولمْ يَكْن يَعْرِف ما فيها"؟ لا تصله معلومات؟ ليس عنده أهل في البلد متأثرين بما يجري فيها؟
ما يَخُصّني من تلك العبارة السمِجة، وعفواً لجعلِ الخصوصيةِ مدخلاً، أنّني أكْمَلت دراستي الجامعيّة في 1982، ورجعت فوراً إلى السودان. نظام نميري وجهاز أمْنه رفض توظيفي في الخارجيّةِ أو في وزارةِ السياحةِ أو حتى في فندق هيلتون الذي كنت قاب قوسين أو أدني أنْ أحْصل على وظيفة جيِّدة فيه. ومع ذلك، كل ذلك ليس مُهِمّاً، فقد انْتهى بِيّ الأمْر والحمد لله من قِبْلِ ومن بَعْدِ، بِعُدَّةِ وظائف، صباحاً ومساءً وفي العُطْلات وكل الوقتِ، في القطاعِ الخاص بمدينة بورتسودان التي ذهبت إليها هارباً من تَضْييق الرِزق في الخرطوم إلى أنْ عُدت قبل أسبوع من انطلاق انتفاضة مارس أبريل 85 استجابة لرسالةٍ من البطلِ المرحوم علي محمود حسنين بأنّ "الثورة نَضِجت، عُد للمشاركة المباشرة فيها بَعْد مُساهَمَة الإعداد لها من هناك في بورتسودان".
بقية العِبارَة "تعلّمنا مجّاناً إلى الثانوي العالي.... وتَكْمِلَتها" ليس فيها ما يثْبِت أنّ نظام نميري وراء ذلك، وقطعاً فحْواها ليس من أفْضاله. وجَدَت بعض الأجيال تلك الفرصة لان نظام مايو كان يأكل من سَنامِ الاقتصادِ القوي الذي تركته له الأنْظِمَة التي سبقته، والإدارة السليمة للبلاد التي تأسّست محدداتها وكفاءتها قبل تربُع نميري على السُلْطة.
ومعلوم للقاصي والدّاني أنّ الاقتصاد السوداني بدأ تدهوره بقرارات نميري الظالمة البليدة التي لا يقتنع بها ويطبقها إلّا "طِيش حنتوب"، فأمّم وصادر وعبث بشركاتٍ كانت ركيزة التنميّة في البلد، فافْشلها وأضاعها.
وعلى صعيدٍ آخر، المطْلوب معْرِفته وتثبيته أمام الأجيال الجديدة، أنّ التعليم في السودان بدأ بِدَوْرِه تدهوره مع نظام نميري بقراراته الفطيرة في السلم التعليمي الذي قطعه محي الدين صابر من رأسه لتطبيقهِ في السودان تشبُهاً بمصر الناصرية واقْنَع به "جهلول افندي جعفر نميري"، فوضعا حجر أساس دمار التعليم كله وأدّيا إلى تخلفه. ومن حينه لَمْ تَقُمْ للتعليم في السودان قائمة، وصار يتدهور إلى أنْ جاءت الإنقاذ و"فعلت فيه الفعايل" وأكْملت على الباقي، وها هو الأستاذ الدكتور عُمَر القَرّاي يَفْعَل المستحيل لوضع أوّل لبِنات التصحيح الذي سيكون مشروعاً طويل المَدى.
الموضوع ليس مقارنة النميري بالبشير، لأن غباء هذا يماثِل قَماءة ذاك، وفشل ذاك يُضْرَب به عنجهيّة هذا، وكل واحد مُطيّن بالوسخ الذي أنْتَجه في المجتمع، وكلاهما في الظُلم والقتل سيّان، الأوّل حَرّكه انقلابيّون من اليسار الطفولي المُتَسَرّع للسُلْطة، والثاني كان دميّةً في يدِ جماعة الإسلام السياسي التي مكّنها النميري في الاقتصاد وساعد في انْتِشارها وتَوسُّعها في المجتمع.
النميري والبشير من طِينةٍ واحدةٍ، طِينة فاسِدة أنْتَجت الظُلْم والقَتْل وتَسْييس الخدمة المدنيّة وتدميرها. الأوّل أفشل إنْجازه الوحيد في تحقيق السلام مع الجنوب، وعاد وانقلب على نجاحِه فأشعل الحرب من جديد، يا لغبائه، وكل ذلك فقط للتشبُث بالسُلْطة والبقاء فيها. والثاني جعل إنْجاز استخراج البترول للبلاد بدلاً من نِعْمَة، نَقَمة، فانتهى بها لانْفِصالها وعَمّ الفساد البلاد واسْتَشْرى بين العِباد.
بَقِيّة ما يُقال عن نميري في الأسْطوانَة المَشْروخَة مَحْض خُزَعْبِلاتِ، وأغْلَبه نَجْر وتأليف من عقولٍ مريضةٍ مِثْل حكايته مع الرباطين في سوبا. نميري أجْبَن مَخْلوق، وثبت جُبْنه عندما لم يستطع مواجهة عبد الخالق محجوب إلّا مَخْموراً. فقتله ظلماً، والمَشْهد مشهود وكُتِبَت حوله اعترافات.
نميري قاتل، قتل شيخ تجاوز السبعين من عُمْره. ابْتَسم الشهيد الأستاذ محمود محمد طه وهو يواجه الموت، فشيّعت تلك الابتسامة نظام الديكتاتور السفاح نميري لمَزْبَلَةِ التاريخ.
مَقولة "نميري كان داير يَرْجَع يخلِّص على الكيزان".. لا تَعْدو أنْ تكون من بابِ العَبَطِ الذي رَدَّدَه سدنة مايو وبقاياها في الاتحاد الاشتراكي بعد أنْ أصبح فَص مِلح ودَاب بذهاب نميري، كما سيحدث للمؤتمر الوطني والأحزاب التي دارت في فلكه.
أنْصح بترك النميري في قبرهِ في حالهِ لرحمةِ رَبّهِ والدعاء وطلب الرَحمة له من جَرائمه وسيئاته التي ارتكبها في البشرِ وفي البلدِ، ولا تحرِّكوا مشاعر الظُلْم المَكْبوتَة في الصدورِ فَتَلْحَقه اللّعْنات التي يستحقها.

* أرْسل أحد الأصدقاء صورة للدكتور نبيل عبد الحميد وهو يجلس مع قريبه جعفر نميري وهما يلعبان الطاولة، وقد أكّدَ الصديق نبيل أنّه غلب نميري "عشرة طاولة" في ذلك اليوم الذي أُخِذَت فيه تلك الصورة. وتدخّلَت في الجْدَلِ إحدى الصديقات رافِضَة عِبارة "شبهينا واتلاقينا" التي اسْتَعْمَلْتها في مداخلتي، وكتبَت مُسْتَنْكِرة مُقارَنَة نميري بالبشير، واضْطَرَت، بالقطعِ مُجْبَرة لا بطلة، لِتمَجِد وتَرْفَع عالياً ديكتاتور 25 مايو 69، وتكيل التراب على ديكتاتور 30 يونيو 89، مُتماهية مع حقائق الأشياء القريبة للذاكرة.
دفعني تعليق أحد الأصْدِقاء على مُداخلتها، لأكْتُب في رسالة ثالثة:
كَفّيْت ووَفّيْت في الرد على صديقتنا التي أعلم تماما أنّها لَمْ تَكُنْ مايويّة، ولا إنقاذيّة، ولعله اختلطت عليها الأمور فدافعت عن نميري الذي لا يَسْتَحِق منها أيِّ دفاع وكان عليها أنْ تترك ذلك لسدنته، ودعنا نقول لغيرها.
وبكلِ الصِدْقِ، إنّني أغْفِر لأهله دفاعهم عنه، فهذا وفاء مِنْهُم أضعه في خانته الصحيحة، خاصة الصديق الدكتور نبيل عبد الحميد الذي ذاق الظُلم ولا أظُنّ أنّه يَرْضى عن الظُلم الذي سببه قريبه النميري لبشرٍ أمْثاله وهؤلاء بالملايين، علماً بأنّ نبيلاً أقَلّ حديثاً عن صاحبه وأقَلّ تمجيداً له، وحُبّه له مفهوم، وإنْ لَمْ يحِبّه فلن يكون نبيلاً الذي أعْرِف، الحِنيِّنْ السُكّرة.
أتمنى من صديقتنا التي رَكِبَت مَرْكَباً ليس لها، أنْ تتأمل في عهد نميري ونظام حُكْمه الذي أسْقطه الشعب، ككلٍ متماسكٍ ولا تأخُذه جُزَئيّات وجُذر معزولة ومتفرقة. نميري يؤخذ بمحصلةِ كل أعماله لا تجزئتها.
صَفْوة القول، مَن فتح سِيرة نميري تقع عليه مسؤوليّة عدم تَرْكِه في قَبْرِه لِرَبّه، وللربِ معه شئون وهو غفور رحيم، وضحايا نميري تركوه لربّه فهو أيضاً شديد العقاب، فلماذا تدعونهم للإكثار من دعائهم عليه؟
وبِصِدْقٍ أيضاً بِتّ أتساءل، هل مَن تبقى من سدنة مايو ساديّون وهم يفتحون سِيرة صحبهم نميري؟! الله اعلم.

* أشدّ ما يغيظني اعْتِبار البعض، وهو ذات ما فعلته تلك الصديقة، أنّ أخطاء نميري "كبوة جواد". وما يزيد غَيْظي عدم اعْتِبارها على الأقل خَطايا وهم يسردون في نفسِ الوقتِ عمليات القتل والإعدامات التي تمّت في عهدهِ.
وَصْف تلك الجرائم البَيّنة بأنّها "كبوة جواد"، تلاعُب يُبْقي جعفر في مشهدٍ يضيفون له بأنّه "كان صنديداً، مُكَمِّلاً الشجاعة والرّجالة وصارِماً في قراراته، رحيماً جداً لا يَرْضي الظُلْم، أمِيْناً حَدّ التقشف"!….. ويختمون رفض مُقارنته بالبشيرِ بعبارةِ مُمْعِنَةٍ في الدارِجَةِ "شِنْ جاب لجاب، نميري للمُتَسَوِّلِ الرَقّاص البشير؟!".
ولذلك كتبْت في رسالة رابعة للقروب المَعْنِي:
كلام كُله يناقض بعضه البعض.. مرّة صديقتُنا تَغْزِل في عبارةٍ تشَكِّر، ومرّة تَنْقُض غزلها وتفكِّكه في جملة مُكْتَمِلَة الإدانة حيث لا مَفَر من أنْ تتناول الحقيقة التي لا يمكن مواراتها أو السكوت عنها.
مرّة تقول نميري قتل مين ومين ومين من الشرفاء، وهو بالطبع قتْل بدمٍ باردٍ، ومرّة تقول نميري رحيم وشجاع وجَسور، فيما الجبان الرِعْدِيد هو الذي يَقْتُل مُتخبئ خلف قوّة السلاح الذي بيده، بينما الآخر المَغْدور أعْزَل. وهي حالة تنْطبق على نميري تماماً مع كلِ مَن قتلهم.
وبذلك تثْبِت صديقتنا أنْ الدفاع عن الباطل صعب خاصة لِمِثْلها، ولكنه بالطبعِ ساهل جداً للبقايا والفلول والسدنة الذين لا يدخلون في تناقضاتها لأنّهم لا يوردون الحقيقة أبداً، أبداً. ولا شكَّ أنّ صديقتنا تتبندل بين الحقيقة والوهم الذي يَعَشْعِش في مشاعرها بعد أنْ أفْسَد تفكيرها سوءات البشير وجماعته المُجْرِمَة.
لا ريب أنّ البشير ونظامه، والنميري ونظامه، وجهان لعملة واحدة غير مبرئه للذمة.. "طُرّتها" قَتْل وظُلْم وقَهْر، و"كتابتُها" تشريد وفساد وتدمير للخدمة المدنيّة والبلد، وفوق كل ذلك حروب وتَقْسِيم للبلد وتشريد لأبْنائهِ في كلِ أصقاعِ الدنيا.
هذه هي الحقيقة التي لبقائها وتَثْبِيتها لا تحتاج أنْ تَقْتَنِع بها صديقتنا وهي تدْخل في شأنٍ كان من الممكن أنْ تقف فيه بحِكْمةِ، قارئة، ومتابعة، وأشْبَه بقاضيةٍ تصدر حُكْماً بعد التَثَبُت من حيثيات الاتهام الصَلِدة المُتَماسِكة مادياً وأخْلاقِياً والتي يؤكدها الواقع وتَدْعمها الوقائع وهي مُحَرّزَة زماناً ومكاناً ومعروضات أيضاً، والنظر بعد ذلك في مرافعات الدفاع التي تعَوّل على الزمن حتى تشيخ ذاكرة الوطن والشعب، وتتغطّى بالأيام بأنْ تأتي مُحاكَمَة الذي هو أظْلَم مَن ظَلَم أمام ذات القاضي، فَيْنَسى ظُلْم نميري الثابت لأنّ ظُلْم البشير هو الأقْرَب والأسْوأ.
ويلٌ لقاضٍ لا يَنْطُق بالحَقِ، ولا يساوي بين جُرْم النميري الذي قال "قتلت محمود محمد طه وغير نادم"، وجُرْم البشير الذي يقول (بعَضْمةِ) لسانه "لَمْ أقْتُل 300 الف مواطن في دارفور وإنّما 10 الف فقط". القاضي الذي يتغطّى بالأيام يَصْبح حُكْمه عارِياً من الحَقِ.. بَخْ بَخْ بَخْ.
أخْتَم وأقول لرافضي المُقارنةِ الثابتةِ بالوقائعِ، لقد كتبْت مُنْذ سنين: البشير من النميري وجرائم عُمر من جرائم جعفر، ويونيو 89 من مايو 69 في الظُلم والقهر والقتل والفساد ودمار وتدهور السودان، والمؤتمر الوطني من الاتحاد الاشتراكي في حشد شُذاذ الآفاق والمُتسلقين والشُموليين الذين كالخفافيش لا يحبون غير الظلام، وهكذا وهكذا وهكذا المقارنة واضحة، بَيِّنة، لا تحتمل الغلط أو الجدل أو محاولة تَجْمِيل قُبْح أيّ من القبيحين.
النميري حَكَم السودان باسم الإسلام، قطع، بتر مِن خلاف، سجن، تحسّس، تجسّس، تلصّص ونَطّ "الحِيط" للقبضِ على البشر بالشروعِ في الزِنا، والبشير انطلق من تلك الحِتّةِ وفعل أسْوأ من ذلك.
(بوخارست 25 مايو 2020)

 

آراء