أبجديات أهداف التنمية المستدامة وموقع السودان منها ، الهدف الرابع: التعليم الجيد (4 من 17)

 


 

د. حسن حميدة
6 November, 2023

 

يرمي الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة إلى توفير التعليم الجيد والمنصف والشامل لكل شخص مع إتاحة فرصة التعليم للجميع وعلى مدى الحياة. ويتخذ التعليم هنا كوسيلة مثلى للهروب من وطأة الفقر وطغيان الجوع وتفشي المرض، خصوصا في الدول النامية، ودول أفريقيا جنوب الصحراء. وبما أن نسبة 90 % من أطفال الدول النامية تتمتع بزيارة المرحلة الابتدائية في المدارس، إلا أن جزءا أكبر من هذه النسبة لا تتاح له فرصة إكمال هذه المرحلة المهمة في العمر.

وفي المناطق التي تتفشى فيها الحروب والنزاعات يفقد 50 % من الأطفال فرصتهم في الالتحاق بالمرحلة الابتدائية. و تعتبر هذه المرحلة من أهم مراحل الطفل ونوموه، والتي تصقل فيها مواهبه الذاتية الكامنة وتتفجر، وفيها يتعلم الطفل أساسيات القراءة والكتابة، وقواعد اللغة والحساب. كما يلعب أيضا الاهتمام المبكر بالطفل وتلقينه أساسيات التعلم منذ الصغر دورا هاما في النبوغ المبكر في المراحل المدرسية.

في كثير من الدول الفقيرة لا تتمكن الأسرة من الإيفاء بوعدها أو التزامها تجاه تعليم الأطفال، بدخول المدارس، أو إكمال المرحلة الابتدائية. وهذا الشيء ينتج لعدة عوامل، نذكر منها: عدم وجود مدرسة بالمنطقة التي تعيش فيها الأسرة، عدم توفر المدرسين والفصول والأثاثات المدرسية ومواد التدريس من كتب ودفاتر وأقلام وغيره، عدم توفر وجبة مدرسية للطفل، عدم وجود مكان ملائم في المدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة من الأطفال، التفرقة الجنسية والفصل بين تعليم البنات والأولاد، عدم وجود إمكانية دمج الأطفال في فصول أو مدارس موحدة لأسباب دينية أو ثقافية أو عرقية، عدم وجود أبوين يقومان على رعاية الطفل والتكفل بنفقاته المدرسية، وحوجة الأسرة للطفل لكي يعمل ليزيد من دخلها من أجل العيش.

ويعتبر السبب الأخير المتمثل في عمل الأطفال هو الأكثر شيوعا في بلاد العالم الفقيرة، بل يعتبر أيضا شيء محزن عندما يقع عبء عيش الأسرة على عاتق الطفل وفي سن مبكرة، في حين يتمتع أطفال البلاد الغنية باهتمام أكبر وحماية أكثر، ليكونوا القادة في المستقبل. وتنتشر الأمية في دول أفريقيا الفقيرة جنوب الصحراء بنسبة 27 % عند الرجال، وبنسبة 40 % عند النساء. وعالميا يتمكن فقط 4 من 10 أطفال من القراءة والكتابة، الشيء الذي تنعكس عواقبه على تطور المجتمع والنهوض به من بين براثن الأمية والجهل والتخلف.

في فترة جائحة كورونا اتضح للجميع، ماذا يعني الفقر حتى في مجال التعليم (ذا بور إديوكيشن). وهذا عندما توجب على معظم دول العالم إغلاق المدارس تحوطا من تفشي فيروس واصابات كورونا، لكي يتلقى التلاميذ التعليم المدرسي من داخل المنازل. وتبين وقتها جليا لمجتمعات العالم الفقيرة بأنها بعيدة كل البعد عن تحقيق امكانية تطبيق التعليم المدرسي عن بعد لأطفالها بسهولة، وهذا بغض النظر عن التعليم الجيد. فإذا أخذنا هنا فقط توفر التيار الكهربائي أو الربط الشبكي أو توفر أجهزة الكمبيوتر وربطها بين المدرس والتلميذ، نجد أن هناك فجوة تقنية وتطبيقية ليس بإمكان دول العالم الفقيرة سدها بسهولة. في حين نجد أن هذه الخطوة لم تمثل أقل عائق أمام دول العالم الغنية، والتي كانت مجهزة تقنيا وتطبيقيا، لكي تسد العجز المدرسي والتعليمي في وقته.

وهذا الشيء لا ينطبق فقط على التعليم المدرسي في الدول الفقيرة، بل كان أيضا على نفس المنهاج وبنفس الطريقة في مواصلة التعليم الجامعي أثناء تفشي الجائحة. وقل من الدول النامية ميسورة الحال نوعا، كان بمقدورها مواكبة التعليم ومواصلته من دون وجود عقبات كبيرة، مقارنة بحال الدول الغنية في أوج جائحة كورونا وتبعاتها. ومن هنا تحدث الطفرات التعليمية في الدول وقت الأزمات، والتي يكون بعضها ايجابيا يؤدي إلى الهدف المنشود كما هو الحال في الدول المتقدمة، ومنها ما يكون سلبيا، تدفع البلدان النامية والفقيرة ثمنه بتخلفها عن بقية الركب ولمدى سنوات عديدة.

يعول كثيرا على التعليمين المهني والجامعي في التنمية المستدامة وسبل الوصول إليها. وهذا ليس فقط لأن الأثنين مخرج آمن للمجتمعات من الفقر والجوع والمرض، بل أيضا طوق نجاة ومنفذ آمن للوصول للمساواة بين الجنسين في الحقوق الاجتماعية والفرص العملية. فنجد أن تعليم المرأة على سبيل المثال من الأشياء المهمة للغاية في المجتمع الحديث، والذي به يؤمن تعليم أفراد الأسرة من الأبناء والبنات في المستقبل. فعندما تكون الأم مثلا متعلمة، تتمكن من تلقين أطفالها الدروس آنيا وتساعدهم في واجباتهم المدرسية اليومية. الشيء الذي ينعكس بإيجاب على مستوياتهم المدرسية للتحصيل في كل المراحل، وبه تأمين الطريق لهم لإنهاء التعليم المهني أو الجامعي، ووجود فرص مناسبة للعمل بعد التخرج.

وبهذا الخصوص، كان للزعيم الراحل نلسون مانديلا دلو في إحدى مقولاته المشهورة عن التعليم، إذ قال: "التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم". بالتعليم تعزز صحة الأفراد والمجتمعات، وتتبع سبل الوقاية من الأمراض المعدية والأمراض غير معدية، بتجنبها بالتثقيف المباشر وتلقي المعلومات المفيد عبر عدة طرق وقنوات. والتعليم في العصر الحالي يعني في أبسط صوره، التقدم الاجتماعي والنمو الاقتصادي والترشيد المالي والاستدامة العالمية. ولكن يتطلب التعليم، خصوصا الجيد منه مقومات أساسية تتمثل في تأهيل المدرسين والبنية التحتية للمدارس ومؤسسات التعليم الأساسي والمهني والجامعات للمواكبة عالميا.

ويعتمد التعليم في كل مراحله المختلفة على تأهيل الكادر المدرسي والتعليمي أحسن تأهيل، بمساعدة الدورات التأهيلية والتدريب المتواصل وتبادل الخبرات بين المشاركين. كما تلعب التعددية في المجالات والتخصصات والربط بينها (إنتردسبليناري إديوكيشن) دور مهم في العصر الحديث للتعليم. والذي يمكن عن طريقه اكتساب معلومات وتجارب وخبرات مهنية وعملية، تؤتي بثمارها لكل من يتبع هذا المنهج المتقدم، ولا يتعالى على التعلم والتحصيل الأكاديمي. الشيء الذي يحدث يوميا في مؤسسات الدول المتقدمة، خصوصا في نطاق الاجتماعات التشاورية (بورد ميتينجس)، أو الجلسات العلمية (جورنال كلوبس).

نعود في هذا الخصوص "التعليم الجيد" لبعض منارات التعليم اعريقة في السودان، ونبدأ ببعض هذه الصروح الشامخة:
جامعة الخرطوم، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا وجامعة الخرطوم: لقد بدأ بناء كلية غردون التذكارية في العام 1899 لتفتتح رسميا في العام 1902، وتحمل إسم الحاكم العام للسودان آنذاك، الجنرال البريطاني "تشارلس جورج غردون"، لتصبح لاحقا، ومرورا بكلية الخرطوم الجامعية، جامعة الخرطوم في العام 1956. وتزامن افتتاح كلية غردون التذكارية، مع تأسيس مدرسة الخرطوم الفنية ومدرسة التجارة، أو معهد الكليات التكنولوجية، وحديثا جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا. ثم أتى من بعد ذلك تأسيس المعهد العلمي قديما بأمدرمان في العام 1912، ليصبح حديثا جامعة أمدرمان الإسلامية في العام 1965.

وبالرجوع لجامعة الخرطوم، كانت ومازالت جامعة الخرطوم بمثابة القلعة الأكاديمية للسودان وأفريقيا وكثير من البلاد العربية. والتي يقصدها طلاب العلم والمعرفة من كل صوب، وحتى الآن، لتخرج طلاب من شتى الكليات. والتي عرف عنها قديما مستوى الخريجين العالي، الذي لا يقل عن مستوى خريجي الجامعات البريطانية أكاديميا. وهذا بعد أن عدلت شهادات جامعة الخرطوم، لتتساوى مع شهادات الجامعات البريطانية، ولتكون أول جامعة أول جامعة أفريقية ذات اتصال وثيق ومباشر بجامعة لندن في المجالات الأكاديمية.

ثم أتت ثورة التعليم العالي التي بنت فكرتها على الاعتماد على المقومات الذاتية في مجالي التعليم والبحث العلمي. وقررت اللجان المختصة آنذاك في اتخاذ خطوات عملية لسد العجز في الكتب والمراجع والفجوة اللغوية. فأتت بناء على ذلك فكرة التعريب، متمثلة في تعريب الكتب والمراجع ومناهج ولغة التدريس في الجامعات. الشيء الذي أربك أغلبية الأساتذة الجامعيين والباحثين المختصين في البلاد، وأضعف أداء الجامعات، بما فيها جامعة الخرطوم العريقة. واتضح أخيرا أن خطوة التعريب لم تدرس بتأن من الجهة سيدة القرار والتنفيذ، وهذا على الرغم من إتاحة عدد أكبر من مقاعد الدراسة للدارسين. وكانت النتيجة أيضا أن يتوالى فتح الأبواب لتأسيس عدة جامعات وكليات خاصة، تنافس الجامعات العريقة في البلاد، خصوص في هيئات تدريسها ومواردها وسبل تمويلها وغيره.

جامعة الجزيرة: تم تأسيس جامعة الجزيرة في العام 1975، وأتى اختيار هذه المنطقة لتأسيس الجامعة، امتدادا للأبحاث الزراعة التي أسسها الإنجليز في هذه المنطقة الخصبة، نسبة لأهميتها الزراعية والاقتصادية، بوجود مشروع الجزيرة (جزيرا بورد) بمنطقة النيل الأزرق. والذي تبلغ مساحته الحالية حوالي 2.2 مليون فدان ليصبح أهم مراكز الزراعة والأبحاث الزراعية في أفريقيا، أي بمساحة في حجم هولندا. ويعتبر مشروع الجزيرة الرئة الخضراء للبلاد، ويرجع تاريخ تأسيسه للعام 1911، لزراعة القطن في مساحة تقدر بحوالي 250 فقط بمنطقتي طيبة وكركوج، ولتغذية مصانع النسيج البريطانية بالقطن أبان فترة الإستعمار البريطاني للسودان.

جامعة الأحفاد للبنات: فيما يتعلق بتعليم المرأة في السودان، لا بد من ذكر مدرسة الأحفاد، كلية الأحفاد، كلية الأحفاد الجامعية، وجامعة الأحفاد لاحقا. والتي تعتبر الرائدة في التعليم النسوي، ليس في السودان فقط، بل أيضا على نطاق أفريقيا والدول المتحدثة باللغة العربية. ترجع فكرة تأسيس هذا الصرح التعليمي العريق، والذي واجهته كثير من العقبات منذ تأسيسه للعام 1904. وهذا عندما تقدم الشيخ الراحل بابكر بدري بطلب للحكومة البريطانية من أجل تأسيس مدرسة تعني بتعليم البنات في السودان. وكانت بداية تأسيس المدرسة التاريخية في العام 1907 بمدينة رفاعة، على ضفاف النيل الأزرق، والتي لا تبعد كثيرا عن العاصمة السودانية الخرطوم.

لقد كان الشيخ بابكر بدري زعيم ذكي وحكيم سابق لأوانه. وتتجسد حكمته هنا باهتمامه بتعليم المرأة في الوقت الذي كان فيه الناس في البلاد يتجاهلون تعليم الرجل. وكانت من إحدى مقولاته المأثورة، وكما ورد على لسان ابنته الأستاذة آمنة بدري "علم البنت والولد لينتفع بهم البلد". وعلى هذا المنهاج عمل وأشرف الشيخ بابكر بدري بنفسه على تعليم المرأة في مدرسته التاريخية وحتى رحيله. وتخليدا لذكراه، وري جثمانه الطيب الثرى في حرم الصرح التعليمي الهام الذي بناه وأشرف على تأسيسه. تم تحويل المدرسة إلى كلية الأحفاد لتعليم البنات في العام 1930، ليتم نقلها من مدينة رفاعة لأمدرمان في العام 1932. وأشرف على إدارتها من بعد ذلك ابنه العميد يوسف بدري، الذي ترك بصمات واضحة ومؤثرة في تعليم التعليم النسوي في السودان. ومن بعد تحولت كلية الأحفاد على يد العميد يوسف بدري إلى كلية الأحفاد الجامعية في العام 1966. ورفعت كلية الأحفاد الجامعية بعد ازدياد عدد الطالبات وتعدد الكليات فيها إلى جامعة قائمة بذاتها في العام 1995. وتعتبر هذه الجامعة العريقة وذات التاريخ المشرق والمستقبل المزهر، منارة لا يستهان بها في تعليم المرأة، خصوصا في كثير من المجالات المهمة في المجتمع، لتعليم المرأة وتطويرها والنهوض بها في حقول العلم والمعرفة ومن أجل رقي المجتمع.

جمعة أفريقيا العالمية: تم تأسيس المعهد الإسلامي الأفريقي بالخرطوم في العام 1966، ليضم مبكرا مرحلتي المتوسطة والثانوية. والذي كان قبلة لتعليم الطلاب الوافدين من الدول الأفريقية للتعليم والتحصيل الأكاديمي، خصوصا من أجل التعلم أو البحث مجالي اللغة العربية والتربية الإسلامية ودراسات التراث المرتبطة بالاثنين. والذين يرجعون بعد اكمال الدراسة مرة أخرى لبلدانهم، للمساهمة في نقل معرفتهم للمواطن ذي الاهتمام بهذه المجالات المذكورة. وتطور هذا المعهد في العام 1977 ليضم كليات أخرى مهمة في دراسات المجتمع، ليسمى من بعد ذلك المركز الإسلامي الأفريقي، والذي أصبح من بعد عنوانا مهما، حتى لموظفي الوزارات في الدول الأفريقية المسلمة. ومن بعد ذلك رفع المركز لجامعة أفريقيا العالمية، لتضم عددا من الكليات المختلفة التخصصات.

واعتمد التمويل لهذا الصرح التعليمي الهام للتواصل القاري والتعليم الخارجي، على الدعم الخارجي الذي كان يصل للدارسين في شكل منح ومرتبات المدرسين وطاقم العمل من الدول المسلمة الغنية. وتمثل توظيف هذا الدعم عبر منظمة الدعوة الإسلامية، التي توالى على رئاسة مجلسها الأعلى ورئاسة أمانتها، رئيسا سابقا للسودان، ومن بعده رئيس وزراء سابق بعد ثورة أبريل من العام 1985 لأهميتها. وتمتع الدارسون من الدول الأفريقية في هذه المؤسسة التعليمية العالمية بامتيازات مالية مريحة من قبل الجهات المانحة، ليتفرغوا كليا للتحصيل العلمي والتدريب على أيدي أساتذة أكفاء، وذوي خبرة في مجالات اللغة العربية والدين الإسلامي والتراث المرتبط بالاثنين. وكان الناتج من كل هذا الجهد، أن تتاح الفرصة لكي يتبوأ معظم الخريجين من الطلاب الأفارقة مراتب معتبرة في مجالات التدريس والإدارة، بل تمكن البعض الآخر منهم من الوصول إلى مراتب وظيفية أعلى، كمشرفين تربويين، ومديري تعليم وعمداء كليات، ومديري جامعات، ووكلاء وزارات، ووزراء في بلدانهم.

جامعة بخت الرضا: يرجع تأسيس معهد بخت الرضا على ضفاف النيل الأبيض إلى الأستاذ البريطاني، فرانسيس لويلين جريفيث، أو كما كان يسميه طلابه "مستر جريفيث". وبعد أن تخرج "مستر جريفيث" في العام 1922 من جامعة أكسفورد، أوفد للعمل في الهند بكلية سانت أندروز. الشيء الذي جعله يتأثر بفلسفة الزعيم الهندي الراحل، المهاتما غاندي – الحياة الريفية، العيش فيها، وسبل تطويرها. ولمستر جريفيث عدة مؤلفات في التعليم، منها "تجربة في التعليم" كمثال. اختار مستر جريفيث منطقة بخت الرضا الريفية لتأسيس صرح تعليمي لا يستهان به الريف الأوسط للسودان في العام 1934. وأسس هذا الصرح من أجل تطوير إنسان الريف وحفظ ثرواته وموارده بمساعدة التعليم والتدريب. وكان هذا الصرح التعليمي العريق يغذي كثيرا من مدارس ومعاهد السودان ودول الجوار بالمناهج والكتب التي كانت تؤلف من علماء سودانيين يعرفون بيئة الأنسان، ومتطلباته. وفي هذه السانحة لا بد هنا من ذكر أول عميد عميد سوداني لمعهد بخت الرضا بعد مستر جريفيث، العلامة الراحل، البروفيسور عبد الرحمن الحاج على الحاج طه. الذي خلف مستر جريفيث بعد أن كان نائبه، ومشى على نفس خطاه، ليترك بصمات واضحة في البحث والتعليم والإشراف، وتأليف الكتب والمناهج في السودان. الشيء الذي يتوجه ليكون بدون منازع الأب للتعليم في السودان.

كانت بخت الرضا أيضا عنوانا في المنطقة لتلقي العلوم والبحث والتبحر فيها. ولم يكن يرسل لهذا الصرح العلمي فقط البسطاء من مريدي التعليم، بل كان يقصده أيضا أفراد الأسر المالكة لتعليم النبلاء والأمراء، ليكونوا سلاطين وملوك المستقبل. وكان ظن أسر كل من يرسل إلى هناك لا يخيب، بالوصول إلى الهدف الذي تصبو إليه أسرهم في التعلم والتبحر في العلم والتحصيل في كل المجالات. هذا المعهد الذي كان بمثابة مصنع الرجال لثقل الشباب بالمعرفة والعلوم، بتدريب وتخريج أكفأ المعلمين آنذاك في السودان، في وقت كان يغط فيه نصف سكان المنطقة في غفوات من الأمية والجهل والتخلف. وتحول هذا المعهد العريق أيضا إلى جامعة، لتضم عدة كليات يحتاج إليها أهل المنطقة في العام 1995. وهذا بعد أن كان نبراسا للعلم والمعرفة، ليس فقط للدارسين والمتعلمين، بل أيضا للباحثين والعلماء.

التعليم العسكري في السودان - الكلية الحربية السودانية: لا بد هنا من ذكر الكلية الحربية السودانية التي أنشئت في العام 1905، والتي حملت إسمها الأول "المدرسة الحربية" بعد أن أسست على يد الحاكم العام البريطاني للسودان آنذاك، الجنرال فرانسيس ريجنالد وينجيت أو "وينجت باشا". وتخرجت أول دفعة لهذه المؤسسة العسكرية في العام 1907 لعدد سبعة خريجين أبان الفترة الإدارية للبكباشي، الراحل المقبول الأمين الحاج، والذي يعتبر أول قائد سوداني للكلية الحربية السودانية. تعرضت هذه المؤسسة العريقة لفترات مختلفة من الإغلاق، كان من بينها الإغلاق في العام 1924 بسبب مقتل السير لي أستاك بمصر، لتعاود أفتتاح أبوابها لاحقا في العام 1932. وتتوزع مباني الكلية الحربية السودانية في عدة مناطق بالعاصمة السودانية، منها أمدرمان (وادي سيدنا وكرري والسلاح الطبي، وجنوب الخرطوم (أبو آدم والشجرة والمدرعات)، كما توجد حاميات في ولايات السودان المختلفة، تختلف في نقاط تمركزها، وواجباتها الدفاعية.

وتعتبر الكلية الحربية السودانية، التي تحمل أيضا إسمها الفخري "مصنع الرجال، وعرين الأبطال" من أعرق الكليات الحربية في أفريقيا والعالم العربي. والتي تستقبل سنويا عدد كبير من الدارسين والمتدربين من الدول الأفريقية والعربية. وتبني على الجانب العملي بالتدريب والنظري بالتدريس. وتمنح الكلية الحربية السودانية المتخرجين شهاد الدبلوم العسكري برتبة ملازم بعد ثلاثة أعوام من الدراسة والتدريب. كما تمنح درجة البكلاريوس بعد أربعة أعوام بدرجة الملازم أول للدارسين. ومن ضمن الكليات التي تحتوي عليها الكلية الحربية السودانية، كلية الدفاع، كلية الحرب، كلية القيادة والأركان، كلية الدفاع البحري، وكلية الدفاع الجوي.

جامعة كرري للتقانة العسكرية: في العام 1994 أسست جامعة كرري للتقانة العسكرية، والتي تعتبر أكثر تخصصا وتعددا في كليات الهندسة العسكرية والتقنية وهندسة الحاسوب ومجالات الإتصالات وهندسة وصناعة الأسلحة. وتطورت هذه الجامعة بسبب امكانياتها المالية الميسورة وطواقمها التعليمية والتدريبية المؤهلة، لتمنح شهادات البكلاريوس والماجستير للدارسين، والدكتوراة والدراسات العليا والباحثين. ومن أهم الأكاديميات بجامعة كرري للتقانة العسكري، أكاديمية الدفاع الجوي، أكاديمية البحرية السودانية، أكاديمية كرري للتقانة العسكري، وأكاديمية كرري الطبية العسكرية.

التعليم العسكري للنساء في السودان: بما أن للمرأة السودانية القديمة باع طويل، ومنذ القدم في مشاركتها الفاعلة في الحروب، إلا أن هذا الدور تناقص في العصر الحديث. فتاريخيا كن كنداكات الحضارة النوبية أساس تحرك المحاربين للدفاع عن أرض السودان الكبيرة، بل أيضا التوغل شمالا واحتلال ممالك أخرى لبسط الهيبة والنفوذ. إلا أن هذا الدور تراجع كثيرا بمشاركة المرأة في المؤسسات الحربية والدفاعية. وربما كانت هنا سانحة لمشاركة المرأة في هذا المجال، في عصر تعمل فيه دول العالم العظمى على أن تكون المرأة ممثلة في كل المجالات وحتى في المجالات الحربية. وربما أتيحت الفرصة هنا للمرأة السودانية للمشاركة في هذا المجال الذي عادة ما يمثل فيه الرجال الأغلبية العظمى. فعلى سبيل المثال يمكن أن يكون للمرأة السودانية حضور في المجالات الدفاعية أيضا، بداية بالمجالات الهندسية والتقنية، والطبية، للوصول للمساواة مع الرجل في فرص العمل، وفي حدود المعقول.

التعليم الشرطي في السودان - كلية الشرطة السودانية: يرجع تاريخ تأسيس مدرسة الشرطة في السودان لمجهودات مستر بلومبيرج في العام 1910، بإشتراط جانبين نظري وعملي في العمل الشرطي، ثم تلته مجهودات مستر أيوات في العام 1924 بوضع تصور لعمل الجهاز الشرطي الحديث في السودان. وكان الرائد في فكرة إنشاء أول مدرسة لتأهيل وتدريب ضباط الشرطة، التي افتتحت لأول مرة في العام 1925 بأم درمان. وتطورت مدرسة الشرطة لتصبح كلية الشرطة، وفي العام 1952م تم ترفيعها إلي كلية البوليس وانتقلت في ذات العام من أمدرمان لتستقر في الخرطوم.

جامعة الرباط الوطني: تم ترفيع كلية الشرطة في العام 2000 لتصبح جامعة الرباط الوطني، والتي تضم عدة كليات في علوم الشرطة والقانون والإدارة والطب والصيدلة والتمريض العالي والمعامل الطبية وغيرها من كليات في دراسات المجتمع. وخرجت جامعة الرباط الوطني حتى الآن دفعات لا يستهان بها من الدارسين من السودانيين، ومن الدول الأفريقية والدول العربية، خصوصا دول الجوار ودول شرق ووسط أفريقيا.

التعليم الشرطي للنساء في السودان: للمرأة السودانية تاريخ ناصع في العمل الشرطي، والذي خاضت المرأة غماره مبكرا مقارنة ببقية شعوب المنطقة. وتعتبر الضابطة السودانية، السيدة محاسن التازي عبد الوهاب أول ضابطة للشرطة في أفريقيا والعالم العربي على الإطلاق. والتي التحقت بالعمل بقوات الشرطة في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كأول سيدة تصبح ضابطة للشرطة، وتتولى إدارة السجون. وفيما يختص بمشاركة المرأة في الشرطة، فأنه يعتبر شيء ضروري في المجتمع الحديث، خصوصا أن هناك قضايا جنائية تتطلب في المقام الأول أن تكون هناك شرطة نسائية تعمل على التحري الدقيق مع النساء. وهنا على سبيل المثال الأوضاع التي تقتضي معاملة خاصة مع النساء في بعض الجرائم، وعلى وجه التحديد في عمل السجون والأسرة والطفل وفي المطارات لتفتيش النساء. وللنساء أيادي خضراء ومقام معتبر في العمل الشرطي في السودان، والذي سوف يواكب التطور بمشاركة العنصر النسوي من أجل أمن المواطنين ومحاربة الجريمة المنظمة في البلاد.

وبالرجوع للمؤسسات التعليمية التجارية الخاصة، وتأثيرها على مؤساست التعليم القديمة وقطاع التعليم في السودان ككل، يمكن القول أن التعليم في السودان قد عانى في أثناء السنوات الأخيرة كثيرا. وهذا بسبب فتح أبواب عدد كبير من الجامعات والكليات، والتي لا تطابق كلها مواصفات مؤسسات التعليم التذكارية والتاريخية التي عرفها السودان من قبل. لقد شيدت مؤسسات تعليمية جديدة، خاصة وتجارية وربحية، على حساب الجامعات الحكومية، فيما يختص بالتمويل الجذري والتحصيل الأكاديمي والإيفاء بمتطلبات الدارسين والطواقم التعليمية والأكاديمية العاملة، وما يحيط بذلك من بيئة دراسية وتدريبية لا تلائم متطلبات الدارسون من سكن وإعاشة ودراسة وتدريب، ولا تطابق احتياجات طواقم التعليم العاملة. هذا الشيء أدى لتدني المستوى العام للدارسين، وخصوصا بغياب فرص التدريب قبل التخرج وفرص العمل من بعد التخرج. الشيء الذي مهد لعطالة الخريجين الجدد، وأدى لفشل الأغلبية العظمى منهم في وجود العمل المناسب في ذات الاختصاص الذي درس، أو الحصول على المرتب الكافي لتطوير الاختصاص في ذات العمل. ومن هنا ينتج إهمال قطاع مهم لتطور الإنسان ونهضة البلدان والرقي بها. من هنا ينتج أيضا إهمال العقول الذكية من بين مجموع الدارسين، الذين يكون همهم الأول والأخير، مغادرة البلاد، بعد التحصيل الأكاديمي والتخرج، للعمل خارج البلاد وأحيانا خارج نطاق المجال الذي درس. وتنتهي الرحلة بالأغلبية العظمى للخريجين، بالعمل في وظائف غير محل دراستهم، وأحيانا في تقبل مهن هامشية لا تفي بتوقعات المغترب، ولا تدفع ثمن الاغتراب ومشاقه من أجل حياة أفضل ومستقبل أمثل.

لنعود بنا لموقع السودان من هذا الهدف المهم "التعليم الجيد". يعرف عن السودان، وعلى الرغم من الظروف القاحلة التي أحاطت به ومنذ عدة سنين، أنه دولة رائدة في التعليم. وهذا ليس سر نتحدث فيه بصوت من خافت، بل هو حقيقة أن كان للمعلم السوداني والمعلمة السودانية، الفضل في تعليم كثير من الشعوب في المنطقة الجغرافية التي يوجد فيها هذا كقطر. ولم يكن ممكن في مثل هذه اللحظة، أثناء هذه الحرب القائمة، أن يفتقد تلاميذ المدارس، ويفتقد طلاب التعليم المهني، ويفتقد طلاب الجامعات والباحثين، سنوات قيمة من عمرهم المدرسي والتعليمي والأكاديمي والبحثي التي ضيعت سدا.

ربما صلح التعبير إذا ما أطلقنا على الفئات المذكورة أعلاه، ومنذ الأربع سنوات المنصرمة، من دون تحصيل تعليمي أو علمي أو تدريبي أو عملي يذكر، إسم الجيل المفقود (ذا لوست جنريشن). فمنذ بداية ثورة ديسمبر المجيدة، مرورا بجائحة كورونا، ثم بداية هذه الحرب السائدة، وحتى اللحظة، لم ينعم هؤلاء المتلقون للتحصيل المدرسي أو الأكاديمي بالعلم والتعلم. وهذا لأن كل السبل التي كانت متاحة لهم لكي يتعلموا، أوصدت عن قصد أمامهم. ولا أدري بأي الوسائل يريد أن يحكم الآخرون، الشباب والشابات في بلادنا، في وقت يعطل فيه التعليم في البلاد وبشتى ضروبه.

للأسف إن محصلتنا المدرسية والجامعية والأكاديمية ومنذ لا يقل عن أربع سنوات كاملة، هي في حقيقتها ومن دون أي مجاملة صفر كبير. فكيف لنا نريد أن نواكب التقدم والتطور، لنجلس مع بقية دول العالم في نفس القارب؟ كيف يمكن لشيء كهذا أن يكون؟ - لنجد مقعد مريح للجلوس هناك تحت ظروف حرب هوجاء لا معنى لها هنا - وهذا بغض النظر عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة حتى العام 2030، ومن ضمنها التعليم الجيد لكل الناس في العالم، بما في ذلك السودان كقطر ذي كينونة وسيادة.

(نواصل في الهدف الخامس: المساواة بين الجنسين...)

E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de

المصدر: ترجمة معدلة من أوراق ومحاضرات للكاتب.

///////////////////////////

 

آراء