أبكر آدم إسماعيل: “تاكلو الزلابية براكم .. اهو حميدتي داك قاعد” (2-2)

 


 

 

من الغفلة ألا نرى من تعديات الدعم السريع على الدور من أهل اليسار خاصة واحتلالها غير "تفلت" ننسبه لعقل رعوي أو خفة اليد. فجندهم القائمون بهذا الاحتلال عندي صادرون عن ثقافة سياسة مما عرف بجدل المركز والهامش، أو السودان الجديد، ذاعت منذ نصف قرنق عن وجوب كسر المركز العربي الإسلامي الذي استأثر بخيرات الوطن والعيش في النعماء بينما ترك الضراء للهامش. وغير قليل من هذا القول حق لو شمل الهامش قوى اجتماعية في المركز نفسه لم يستأثر المركز من بني جنسها، إذا شئت، بالخيرات دونها فحسب، بل ناضلت هي أيضاً لاسترداد حقوقها من فوق منصة النقابة وبالتشريع. ولكن ما يفسد هذه الثقافة عن ظلم الهامش هذه المرة أن من حملها هذه المرة إلى نهاياتها الفاجعة هو جيش تحت خدمة واحدة من أثرى الأسر السودانية وأغلظها يداً ارتزاقاً وتضرجاً بدم الهامش قبل المركز. لقد سلط الله على قضية نبيلة كقسمة السلطة والثروة عصبة استباحت مدينة بأسرها في طموح ضرير للحكم.
وقفنا أمس عند الدعامي الذي اقتحم دار المرحوم سامي عزالدين، لا عب المريخ، فظنه بيت لأحد الكيزان ليلقي خطبة عصماء نظر فيها لثقافة جدل الهامش والمركز. ونواصل:
وتجد في خطاب جدل المركز - الهامش الغث مع الثمين. فانتشر بُعيد تنصيب جبريل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة المسلحة، فيديو لحشد صاخب لقواته قبل سقوط نظام الإنقاذ. خرج فيه من بين صفوفهم رجل راقص يهتف "دمر عمارات، دمر عمارات" وسط استحسان رفاقه من حوله بصيحات مجلجلة. وظهر جبريل خلال ذلك الاجتماع ليقول لهم "العمارات ما تدمروها، شيلوها". وضحك الجميع. وتابع جبريل قائلاً "نتقابل في الخرطوم". وصاحت القوات "خرطوم جوه".
ولهذا الخطاب في حسد الريف من عمائر المدينة غثاثاته. ومن ذلك أقوال الفريق إبراهيم الماظ من حركة العدل والمساواة. فتداولت المنابر كلمة له عن نعماء الخرطوم في جمع من أنصار الحركة مناهم فيها بمغادرة منازل ضنكهم في الريف إلى الخرطوم ليستحموا "ساونا" في عماراتها صباح مساء، وترطب "الإسبلت" جلودهم المكدود. وقال لهم إن "إحلالاً وإبدالاً سيتم، وستغادرون للخرطوم في حين سيأتي أهلها إلى بلدكم هنا".
مما صح أن نسأل عنه لماذا كانت جدلية المركز والهامش، على علاتها، هي النظرية الوحيدة المعتمدة في تفسير تفاوت الأرزاق على بينة الإثنيات والأعراق في بلد كالسودان لم يتأثر بلد مثله بالماركسية التي تعتقد في الصراع الطبقي، بل وأنتج حزبه الشيوعي أدباً غزيزاً في هذه الناحية. وستقتضينا الإجابة عن السؤال أن نوازن بين حجم القوى الليبرالية واليسارية (المقاومة المدنية) في معارضة نظم المركز الديكتاتورية، وحجم الحركات المسلحة المعارضة منذ الثمانينيات ومن لدن قيام الحركة الشعبية لتحرير السودان (جون قرنق) في 1983. إذ تضاءل دور المقاومة المدنية تحت عسف تلك النظم وتحت ثقل أدواء أخرى انتابتها في حين طغى نفوذ الحركات المسلحة في الساحة السياسية بمتوالية هندسية. وذاعت نظرية قرنق في السودان الجديد التي تولدت عنها جدلية الهامش والمركز ذيوعاً كبيراً. فالسودان الجديد سيولد، بحسب هذه العقيدة، بواسطة بندقية الهامش التي ستكسر المركز القابض في الخرطوم، وتقتسم السلطة والثروة معه عنوة وبالقسط. وتبنت النظرية حركات المسلح في هامش دارفور والشرق. ولم يتأخر الليبراليون واليساريون من المقاومة المدنية في تبني النظرية. فلم يكونوا مشيعيها المقدمين فحسب، بل هاجر منهم نفر كبير أيضاً ليفديها حاملاً السلاح جنباً إلى جنب مع مسلحي الهامش. وسمى أحدهم بألمعية هذه الهجرة بأنها من النقابة، وهي إقليم المقاومة المدنية في الحضر، إلى الغابة.
ولما كانت المقاومة المدنية، بالضعف الذي انتهت إليه، لم تعد هي التي تشكل استراتيجية النهوض الوطني، أو حتى التأثير على من يشكلونه في الهامش. وسقمت هذه الجماعة من ثقافتها وتاريخها لما تطاولت الديكتاتوريات الحاكمة بعنوانهم، "الإسلاموعروبية"، وعنفت مع الهامش الإثني الأفريقي بالذات بالقهر الثقافي المسلح، فأصابتها عقدة الذنب الليبرالي من جراء تأنيب ضمير مسهد بخطايا بعض أهله في الوطن. وهي حال من المسكنة الفكرية تعض الجماعة الممحونة في إثنيتها بنان الندم على فشل مشروعها في تآخي الأمة الذي حاولته وأفسده حكام منهم عرقاً وليسوا منهم نهجاً في الحكم. ولا عزاء للمرء هنا سوى ندب الأجداد الذين ورطوه في قرابة حكام مسيئين يخجل المرء لهم ومنهم. وساق فشل مشروع هؤلاء الليبراليين اليساريين السياسي للتآخي الوطني للارتماء في سياسات الهوية التي شغلت العقود الأخيرة بفضل صعود بندقية الهامش وصمودها. فصار عرض حال هذه الهويات الإثنية تحت بندقية نفر من بين قومهم مبلغ همهم بل علمهم من السياسة. ووقعوا في الخطأ الذي أخذه الفيلسوف الأميركي ريتشارد روتري على الليبراليين الأمريكان، فقال إنهم كفوا عن التفكير في تصميم استراتيجية سياسية وطنية جامعة بعد جنحوهم لخطاب الهوية في مناصرة الأفارقة الأميركيين والمثليين وغيرهم. فتبدد بالنتيجة حسهم بما يجمعهم بسائر بني الوطن كمواطنين وما يواثق بينهم كوطن. وقال فيلسوف أميركي آخر، هو مارك ليلا، إن الليبراليين انطووا في خطاب الهوية متقهقرين عن الوطن إلى كهوف ابتنوها لأنفسهم.
ومن هذه الكهوف الإثنية خرج "الدعامي"، موضوعنا هنا، يصفي ببندقيته حسابه مع المركز "الإسلاموعروبي". فأخطأ الطريق إلى دار لاعب كرة مثقل بالكؤوس في حين أراد دار كوز ليتلو بيان احتلاله له، كاشفاً عن نعماء الحياة فيه وضرائها عندهم. فحتى أبكر منظر جدلية المركز لا يرى في مثل كسب ذلك اللاعب مأخذاً لأنه كسب فردي من فوق ميزاته ومهاراته. فالكسب الحرام عنده هو ما يقع بامتياز جماعي يناله المرء كعضو في جماعة تستأثر بالسلطة والمال وتمنع غيرها عنهما. فكان هذا "الدعامي" سيبلغ منزل ضرائه الصحيح لو لم تستبد نظرية المركز والهامش به. وكان أجاد لو خالط نظرية جدل المركز والهامش علم أفضل بتفاوت الرزق مما خاض فيه ليبراليو المدينة ويسارها قبل أن يكفوا عنه وينخرطوا في جدل الهوية.
لعله من الصدف المحيرة أن يكون طلب محمد حمدان دقلو الحكم الآن مما تنبأ به أبكر آدم إسماعيل. ففي محاضرة له منذ سنوات قال إن من حمل بندقيته من الهامش لغرض جرد الحساب مع المركز "الإسلاموعروبي" لن يلقي بها حتى ينفذ إلى غرضه. وسأل "تاكلو زلابية براكم؟"، وأردف "أهو حميدتي داك قاعد".

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء