أبو شوك يقول المستقبل في التاريخ والعقل

 


 

 

بالحرب الدائرة الآن في البلاد: تكون قد وقعت الواقعة، و تاريخ السودان الحديث سوف يبدأ بعد معرفة نتائجها على الأرض. و الذي ينتصر في الحرب إذا كان النصر بالضربة القاضية أو بالنقاط هو الذي سوف يشكل مستقبل السودان، و تاريخ الخرطوم المعاصر الذي بدأ بعد حملة محمد على باشا في 1821م، قد تشكل مرتين؛ الأولى عند دخول جيش محمد أحمد المهدي إلي الخرطوم و قتل غردون باشا، 26 يناير 1885م، لكي يبدأ تاريخ جديد للخرطوم مع انصار المهدية، الذين لم يحدثوا إضافة جديدة في الخرطوم، لأنهم اعتمدوا على التعليم التقليدي الذي كان سائدا منذ الحكم السناري و بذات القمع و البطش، فالهدف كان عند الخليفة عبد الله حماية سلطته و ليس التنمية و تطور المجتمع، و أصبحت الدولة تسير بذات المنهج التعليمي الذي كان يطبقه الحكم التركي، لذلك لم يغير في طريقة التفكير التي كانت سائدة في تلك الفترة. و الثاني عندما سقطت الخرطوم على يد كتشنر باشا في سبتمبر 1898م، و بدأت مرحلة جديدة في الخرطوم في عهد الحكم البريطاني، حيث أسسوا التعليم الحديث و مناهج جديدة فتحت أفاقا جديدة و اكتساب معارف جديدة، و أيضا تنوعت القرأة بالغتين، الأمر الذي مهد لظهور عقل جديد مغاير لطريقة التفكير التي خلفها الحكم المهدوي. لذا تصبح دعوات قراءة التاريخ و التبصر فيه مسالة في غاية الضرورة، فالنخب السياسية التي مرت على الحكم في السودان و حتى القيادات السياسية لم تعط لقراءة تجارب التاريخ أهمية، مما جعلتهم ينتجون الأزمة مرات عديدة و يقعون في ذات الأخطاء السابقة.
استمعت للبروفسور أحمد إبراهيم أبوشوك أستاذ التاريخ المعاصر و هو يقدم عرض لورقته المعنونة ب ( جذور الأزمة السياسية السودانية و تحدياتها) التي كان قد القاها في ندوة (المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات) بعنوان ( صراع الجيش و الدعم السريع الأزمة في السودان) و الندوة هي مدخل لحوار تتلمس فيه الأجندة التي تنبثق من انعكاسات الحرب الدائرة بين القوات المسلحة السودانية و مليشيا الدعم السريع، باعتبار أن نهاية الحرب بالضرورة سوف ينتج عنها واقعا جديدا. لذلك كانت قراءة بروف أبوشوك ضرورة حيث قال "أن حل الأزمة يحتاج إلي توصيف موضوعي لجذور المشكلة" و أضاف قائلا " أن الماضي سوف يخرجنا من خطاب السياسة المأزوم الذي يستخدم فيه المزايدات السياسية و العاطفة" نجد أن بروف أبوشوك يريد من مقولاته التي جاءت في مقدمة الورقة؛ أن يبرز عقل جديد أي طريقة تفكير جديدة تتجاوز الطريقة السابقة التي قادت للفشل. و قال هذه تحتاج إلي قيادات سياسية وطنية يصب جل تفكيرهم في المصلحة الوطنية العامة ( مصلحة الوطن و المجتمع) بعيدا عن المصالح الاقطاعية التي تشمل المصالح الحزبية و الذاتية الضيقة.
إذاً فكرة أبوشوك تتكيء على قاعدة معرفية تستوعب تجارب التاريخ المعاصر، لأنه سوف يبين ماهي العوامل التي قادت للفشل في تجارب ما بعد ثورة أكتوبر 1964م، و انتفاضة إبريل 1985م و ثورة ديسمبر 2018م، كل تجربة تؤكد أن القيادات الذين جاءوا بعد النظم الشولية لم يكونوا مستوعبين للتجارب السبقة، و تعاملوا بذات العقلية التقليدية أسهمت بالفشل. أن طريقة التفكير الجدية تحتاج إلي إدراك ما حدث في الماضي، و معرفة أسباب الأخطاء، فالمعرفة و طرح الأسئلة الجديدة لابد أن ينتج عنها طريقة جديدة في التفكير. و قد كنت قد كررت كثيرا في مقالاتي أن البلاد تحتاج لطريقة جديدة في التفكير، فالتحصيل المعرفي و استيعاب تجارب التاريخ و اتخاذ المنهج النقدي بديلا لمنهج التبرير الذي اعتمدت عليه أغلبية النخب السياسية لكي يكون الشمعة التي تعلق عليها أخطائها، لذا أصبح المنهج النقدي ضرورة، و من خلاله تتولد الأسئلة المطلوبة و محاولات الإجابة عليها سوف يخلق وعي جديد في المجتمع، و هو المطلوب لعملية التغيير و التحديث و التنمية.
أن ثورة ديسمبر 2018م هي المرة الأولى التي يخرج فيها الشباب باعداد كبيرة، ستطاعوا أن يخلقوا توازن القوى في المجتمع مع المؤسسة العسكرية، و هي القاعدة الضرورية المطلوبة لعملية التحول الديمقراطي، لكن القوى السياسية لم تستطيع أن تستفيد من موقف الشارع ككرت ضغط تنجز به مطلوبات الديمقراطية، و الشروع في المؤسسات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، لأنها حصرت جل تفكيرها في السلطة، و التفكير في السلطة يجعل الذهن متعلق بالرغبات الحزبية و الشخصية، لذلك تضيق دائرة التفكير، و تبرز شعارات الإقصاء، بحجة العمل من أجل تأمين مصالح الثورة و الثوار، هي نفسها طريقة التفكير التي اعتمدت عليها النظم الريديكالية في الشرق الأوسط و خاصة في مصر و العراق و سوريا و ليبيا و اليمن و الجزائر، بعد الاستيلاء على السلطة عن طريق الجيش تبدأ خروج شعارات التخزيل ( لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) أي عملية تأمين الانقلاب الذي يطلق عليه ثورة، كل المصطلحات السياسية في منطقة الشرق الأوسط يتم تعديلها لكي تلاءم العق الديكتاتوري. و السودان جزء من هذه المنظومة.
الآن المطالبة بوقف الحرب دون أن تكون هناك شروط تمنع أشتعالها مرة أخرى، تعني ترحيل الحرب لوقت أخر. لذلك أي حل يجب أن يؤسس على دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة أولا، و معرفة الذين شاركوا في التخطيط للحرب من العسكريين و مالدنيين، و يجب أن تكون من أولويات أول حكومة منتخبة في البلاد، أن تجمع كل الأسلحة الثقيلة الموزع داخل القبائل و الأفراد، فالقوات المسلحة يجب أن تكون هي وحدها المؤسسة التي تحتكر امتلاك السلاح الثقيل، أما الأسلحة الخفيفة العادية، تملك للاشخاص بأذن من وزارة الداخلية. أن سودان ما بعد الحرب، يجب أن يفارق سودان الفشل الذي بدأ مع أول حكومة عسكرية في البلاد عام 1958م، و تضع ألأسس الجديدة لبناء سودان المستقبل من خلال إجراء حوارات عديدة تشارك فيها كل القوى السياسية و المؤسسات الإكاديمية و مراكز البحوث المختلفة مدنية و عسكرية و منظمات المجتمع المدني.
أن التفكير الذي يشير إليه البروف أبوشوك يجب أن يبدأ التفكير فيه من خارج الصندوق، فالأحزاب الحالية و بقياداتها الحالية هي تفتقد للعناصر التي تملك القدرت على استخدام الفكر الأداة الناجعة في التغيير، فالفكر وحده هو الطريق للتجديد، و الفكر وحده هو الذي يجعل أصحابه قادرين على طرح أسئلة جديدة تهدف لصناعة التفكير الجديد في المجتمع، و لابد من الابتعاد عن المنهج التبريري الذي يسيطر على العقيات السياسية في البلاد. و نسال الله التوفيق و حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء