أبيي من شقدوم إلى لاهاي (4) … عرض وتحليل: أحمد إبراهيم أبوشوك

 


 

 



أبيي من شقدوم إلى لاهاي (4)

تأليف البروفيسور سليمان محمد الدبيلو

عرض وتحليل

أحمد إبراهيم أبوشوك


تناولنا في الحلقات السابقة البُعد التاريخي لقضية الصراع في منطقة أبيي من منظور الأستاذ الدكتور سليمان محمد الدبيلو، المعضد بإرث أهله المسيرية والوثائق التاريخية المصاحبة؛ وقدّمنا قراءة تحليلية لموقع أبيي في خارطة النزاع التفاوضي الذي أفضى إلى اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005م، ونختم هذه المراجعة بعرض لأهمية الكتاب من منظور الدراسات التاريخية والقانونية، ثم نقويم مفرداته في إطار الأدبيات السابقة، آملين أن يكون هذا العرض والتقويم حافزاً للقارئ بأن يقف على مادة الكتاب بنفسه؛ لأن رحلة أبيي من شقدوم إلى لاهاي تحمل بين طياتها مادة علمية قيمة، وثائقيه جديرة بالاقتناء والإطلاع من زوايا متعددة.  


الكتاب من منظور الدراسات التاريخية والقانونية
يُعدُّ كتاب البروفيسور الدبيلو أبيي من شقدوم إلى لاهاي سفراً وثائقياً مهماً بالنسبة لطلبة الدراسات التاريخية والقانونية المرتبطة بنزاعات الحدود؛ لأنه جمع بين دفتيه كماً مقدراً من الوثائق التاريخية والقانونية المرتبطة بحيثيات النزاع، وشهادات الشهود، ودفوعات الخصوم، والمسائل الإجرائية المرتبطة بالتحكيم، والمواقف المعارضة لقرارات التحكيم، فضلاً عن نص اتفاق شقدوم لعام 1994م، وإعلان مبادئ إيقاد لعام 1994م، وقرارات أسمرا المصيرية لعام 1995م، ورؤية أبناء مناطق التماس لعام 2001م، ووثيقة إيقاد 2002م، ورأي منظمات المجتمع الدولي الأممية حول قضايا السُّودان 2002م، وبروتوكول مشاكوس 2002م، وبروتوكول أبيي 2004م، ونص خارطة الطريق 2008م، ووقائع محكمة التحكيم بلاهاي، ووقائع مؤتمر المسيرية العام بالستيب لسنة 2009م، وقانون الاستفتاء لسنة 2009م. وإلى جانب هذه الوثائق الرسمية وثق مؤلف كتاب أبيي من شقدوم إلى لاهاي إفادات عدد من الشهود، أمثال نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه، البروفيسور إيان كنيسون، والناظر علي نمر علي الجلة، والأمير مختار بابو نمر، والناظر الحريكة عز الدين؛ ونصوص بعض المقالات الصحافية التي تناولت القضية، مثل مقال شارلس دينق، ومنصور خالد، وفرنسيس دينق، دوغلاس جونسون عضو مفوضية تحديد وترسيم الحدود، والسفير دونالد بيترسون رئيس المفوضية. ولاشك أن هذه المصادر الأولية والثانوية ستكون مادة مهمة للذين يرغبون في دراسة قضية أبيي بشقيها القانوني والتاريخي.
وفوق هذا وذاك، فإن المصادر التاريخية الأولية والثانوية التي استأنس بها طرفا النزاع في مفاوضات السلام وتقديم مرافعاتهما أمام محكمة التحكيم الدولية في لاهاي ستكون مادة خصبة لطلبة التاريخ؛ لأنها خضعت للعديد من الاستنطاقات المتباينة من طرفي النزاع.  ولا عجب أن هذا التباين يدفع طالب التاريخ إلى طرح جملة من الأسئلة المنهجية: هل الذين قاموا بدراسة تلك المصادر التاريخية واستأنسوا بها في تقاريرهم المرتبطة بالنزاع كانوا محايدين أم تشايعوا لفئة دون أخرى؟ وهل كان استنطاقهم لبعض الأحداث التاريخية ذاهلاً عن مقاصدها ومعرفة الأسباب الكامنة وراء إنشائها؟ وهل تأثير قرارات التحكيم واللجان المختصة بمستقبل الحراك السياسي في السُّودان، بمعنى أن السُّودان سينفصل إلى دولتين؟ كل هذه الأسئلة المشروعة ومثيلاتها، تثرى نقاشات الدارسين لحيثيات الصراع الذي نشأ في منطقة أبيي والنتائج التي ترتبت عليها. 

تقويم الكتاب
أوضحنا في عرضنا أعلاه أن كتاب البروفيسور سليمان محمد الدبيلو "أبيي من شقدوم إلى لاهاي" يُعدُّ إضافة مهمة للمكتبة السُّودانية؛ لأنه يعالج قضية عصية المشكل، كانت ولا تزال تمثل أنموذجاً حياً لمشكلات السُّودان التي تتطور من بدايات بسيطة، فتتراكم الأخطاء عليها، وتتصاعد المعالجات القاصرة لحلها، فتحيلها إلى أزمة بالغة التعقيد. فمشكلة أبيي كما عرضها المؤلف كانت تمثل واحدة من تلك المشكلات التي لم يعالجها ولاة الأمر بالحكمة، ويتفهموا نسيج بيئاتها المحلية الذي جعلها موطناً للتعايش والتمازج القبلي، قبل أن تكون بؤرة لصراع المصالح السياسية والاقتصادية، التي نأت بواقعها المعيش بعيداً عن تقاليد الأجيال التي أرست دعائم تواصلها الاجتماعي والاقتصادي، وجعلت حلول إشكالاتها الآنية حلولاً مستوردةً من شقدوم ولاهاي، دون أن تجد ضالتها في أدبيات الواقع المحلي الموروثة. ولعلنا نقدر دعوة الدبيلو لحل مشكلة أبيي محلياً، لكن الدعوة في حد ذاتها لا تنطبق مع القواعد الذهبية للعبة السياسية، علماً بأن السُّودان أصبح سودانيين، ولكل واحدٍ منهما مصالحه المشتركة والمتعارضة مع الآخر، وأن دينكا نقوك لم يكونوا حريصين في أن يعيشوا أقلية في الشمال، بل الأرجح عندهم أن يكون مجموعة عرقية فاعلة في صناعة القرار السياسي في جنوب السُّودان، فضلاً عن تميزهم الاقتصادي في المنطقة، وإسقاطات الفعل الإقليمي والدولي التي دوَّلت صراعهم المحلي وأخرجته من دائرة التقاليد والأعراف المرعية.
وإذا حاولنا أن نوطِّن لكتاب البروفيسور الدبيلو في إطار الأدبيات التي نُشرت باللغة العربية عن قضية أبيي، والمداخل السياسية والتاريخية التي اتخذها المؤلف أساساً لعرض أطروحته وبلورة أفكاره، فيمكننا أن نلخص ملحوظاتنا العامة في النقاط الآتية:-
أولاً: يحتل كتاب أبيي من شقدوم إلى لاهاي المرتبة الثالثة في سلسلة الدراسات التي تناولت قضية أبيي باللغة العربية، فالكتاب الأول أصدره الأستاذ الصادق بابو نمر، أبيي حقائق وثائق، 2008م، وزيَّنه بصورة نادرة تجمع بين السلطان دينق ماجوك والناظر بابو نمر (مارس1966م)،  مجسدةً قيمة من قيم التلاحم السياسي والاجتماعي بين المسيرية ودينكا نقوك آنذاك، والصورة نفسها وضعها الدبيلو على ظاهر الصفحة الأمامية لغلاف كتابه. ويقول الأستاذ الصادق في مقدمة كتابه: "إن دينكا نقوك مواطنون سودانيون لهم ما للآخر، وعليهم ما على الآخر من حقوق وواجبات، وإن إمكانية التعايش السلمي بينهما ممكنة، وهي الأسلم والأجدى، وإن محاولة فرض أي واقع عليهما بقوة السلاح من المستحيلات." وبعد تلك المقدمة عرض المؤلف الأوضاع الجغرافية والسكانية في المنطقة من منظور تاريخي، ثم تناول التعايش السلمي والتمازج القبلي في المنطقة، وأخيراً انتقل إلى المشكلات الإدارية التي غرست بذور الفتنة بين المسيرية ودينكا نقوك، وأشار إلى الجهود التي بذلت من أجل محاصرة الفتنة، وركَّز على آليات حل النزاعات القبلية، وبعدها انتقل إلى تحليل الوضع السياسي الذي أفرزت اتفاقية سلام الخرطوم لسنة 1997م، وما أعقبها من تعقيدات سياسية وأمنية في المنطقة. ودرج المؤلف أيضاً على تعضيد فرضياته والنتائج التي توصل إليها بجملة من الوثائق التاريخية والقانونية. ويليه في الترتيب الزمني كتاب الدكتور أمين حامد زين العابدين الموسوم بــ "أزمة أبيي بين القانون الدولي ومسألة التحكيم"، 2009م. ويستند محور إشكالية الكتاب إلى علاقة القانون الدولي بمشكلة أبيي، والصراع الراهن في ملكيتها بين قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك، ثم كيفية تطبيق مبدأ قدسية الحدود الموروثة من الاستعمار في حالة تعارض حقّ تقرير المصير لجنوب السُّودان مع الحفاظ على سلامة أراضي شماله ووحدتها، وكيفية إعادة ترسيم حدود السُّودان القديم في ظل أطروحات السُّودان الجديد التي تنشدها الحركة الشعبية لتحرير السُّودان. ولا عجب أن هذه الإصدارات الثلاث من إنتاج نخبة من أبناء المسيرية الذين أرَّقهم الصراع الدائر في منطقتهم أبيي، ودفعهم إلى إشراك الرأي العام في همومهم المحلية القائمة على بُعد قومي مشترك مع الآخرين في إطار الدولة القطرية، فتراكمت جهودهم في هذا الشأن على بعضها، وتضاعف كيلها في العمل القيم الذي قدمه الأستاذ الدكتور سليمان الدبيلو  بعنوان أبيي من شقدوم إلى لاهاي.    
ثانياً: يتفق البروفيسور الدبيلو مع الدكتور أمين حامد زين العابدين بأن الاعتراف بتقرير المصير لجنوب السُّودان كان واحداً من الأسباب الرئيسة التي عقَّدت المشهد السياسي في أبيي، وأفضت أخيراً إلى بروتوكول أبيي وتداعياته السياسية والأمنية والقانونية. فالدكتور أمين يطعن في شرعية البروتوكول، ويقومه وفق مبدأ أوتي بوسيتيديس جوريس الذي يقضي بقدسية الحدود الموروثة من الاستعمار، ويرفض حق تقرير المصير الخارجي الذي يؤدي إلى تفتيت حدود الدولة القطرية الواحدة. وبذلك يصل المؤلف إلى أن القانون الدولي مصحوباً بمبدأ قدسية الحدود الموروثة من الاستعمار يقضي بعدم شرعية بروتوكول أبيي؛ لأنه ربما يفضي في خاتمة المطاف إلى تحويل منطقة أبيي المتنازع عليها إلى جنوب السُّودان، علماً بأن ذلك الإجراء يتعارض مع مبدأ الحفاظ على سلامة وحدة أراضي شمال السُّودان الموروثة من الاستعمار. ولذلك يحمِّل الدكتور أمين حكومة السُّودان مسؤولية الموافقة على الإقرار بحق تقرير المصير في اتفاقية السلام الشامل، ويعتبر هذا الإقرار الرسمي هو الذي قادة إلى صياغة بروتوكول أبيي والنتائج التي ترتبت عليه. أما البروفيسور الدبيلو فيضع وزر البروتوكول على كاهل حزب الأمة القومي، بحجة أن اتفاقية شقدوم التي وقعها الحزب مع الحركة الشعبية عام 1994م قد مهدت الطريق لصياغة بروتوكول أبيي، وإسقاطاته السياسية في المنطقة. وهنا نقف بين موقفين رافضين لشرعية بروتوكول أبيي، أحدهما ينطلق من أدبيات القانون الدولي، والآخر من إسقاطات الواقع السياسي الذي فرضته اتفاقية شقدوم. لكن من وجهة نظرنا أن رفض بروتوكول أبيي من الناحية القانونية لا يحل المشكل القائم بين الشمال والجنوب، بل يجب أن ينظر إليه في إطار القواعد الذهبية التي تحكم اللعبة السياسية، أي بمعنى آخر يجب أن يُفسر في إطار الواقع السياسي الذي أسهم في تخلُّقه وميلاده على صعيد الواقع. وقد أشار الدكتور الدبيلو إلى هذا الواقع عرضاً في خاتمة كتابه، عندما تحدث عن تعامل الحركة الشعبية مع القضايا السياسية والواقع التفاوضي بحنكة سياسية، ونفس طويل في المفاوضات، وذلك على حساب القوى السياسية الشمالية في الحكومة والمعارضة. وعلنا نتفق مع الدكتور الدبيلو بشأن واقع المشهد السياسي في الشمال، لكن يجب أن نصطحب مع ذلك إسقاطات التقابلية السياسية بين المشروع الحضاري الذي تبنته حكومة الإنقاذ الوطني وأطروحة السُّودان الجديد القائم على العلمانية حسب رؤية الحركة الشعبية لتحرير السُّودان. وعند هذا المنعطف، كما نعلم، بزرت قضية تقرير مصير جنوب السُّودان مقابل سيناريو الوحدة الجاذبة، وظهر مفهوم نظامين للحكم في إطار دولة واحدة. لا شك أن هذه القيم والمفاهيم السياسية تؤكد أن الثقة بين الجنوب والشمال قد وصلت إلى نقطة سياسية حرجة ونفق مظلم، وإن تضمين حق تقرير المصير لجنوب السُّودان كان يُعتبر من وجهة نظر الدكتور جون قرنق صمام أمانٍ لحفظ المواثيق والعهود بين طرفي القطر الواحد، ومخرج سلْمٍ في حالة انهيار المواثيق والعهود، وبذلك استطاع أن يميز اتفاقية نيفاشا عن اتفاقية أديس أبابا لعام 1972م. وتقودنا هذه التوطئة إلى القول بأن شقدوم كان واحدة من المحطات التي توقف عندها قطار التفاوض قبل أن يبلغ منتهاه في نيفاشا، وليست نقطة الانطلاق الأول والوحيدة التي قادت أهل السُّودان إلى التخاصم أمام المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي.
ثالثاً: أشار البروفيسور سليمان الدبيلو في ثنايا دراسته القيمة إلى قضية "التهميش" في السياسة السُّودانية وعلاقتها بالمفاوضات التي أفضت إلى بروتوكول أبيي وإسقاطاته السياسية، والتهميش لا يقصد به التهميش النمطي القائم على ثنائية الريف والحضر فحسب، بل يعني أيضاً التهميش المتصل بتقاسم السلطة والثروة العادل في مناحيه كافةً، وعلاقة الحاكم والمحكوم، وطبيعة التواصل بين الحكومة والمعارضة بشأن القضايا الاستراتيجية في الدولة. ويمكن أن يكون التهميش مفروضاً من الخارج على القُوى السياسية صاحبة القرار في الداخل، والشاهد في ذلك مقترح السيناتور الأمريكي جون دانفوث الذي تبلور في بروتوكول أبيي، وقرار لجنة الخبراء الأجانب الذي عقَّد المشهد السياسي، وأخيراً قاد الطرفين إلى الاحتكام  للمحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي؛ أو أن يكون داخلياً كما تجلى في اتفاقية نيفاشا ذات التركيبة الثنائية التي أقصت القوى السياسية الأخرى من المشاركة في مفاوضاتها، وفي ذلك يقول الدبيلو: "إن تمثيلنا في التفاوض لم يتعد الوفود الزائرة، وكان الأوجب أن يكون لدينا تمثيل فعلي في وفد المفاوضات؛ لأننا جزء لا يتجزأ فيما يجري من أحداث، وحتى يستقيم الأمر، فنحن ننادي بقيام المؤتمر الجامع لأبناء المنطقة، والذي يمكن أن يضع حداً للكثير من القضايا الشائكة، بعيداً عن المغالاة، وسداً للذرائع والثغرات مستقبلاً، وحتى نحقق بذلك عدالة التوزيع في السلطة والثروة." (مج 1، ص: 137). ولا شك أنَّ مثل هذا الواقع السياسي المتصدع في السُّودان يُعزى إلى ضعف الرؤية الاستراتيجية للسلطة الحاكمة والمعارضة، بحكم أنهما لا يفرقان بين الثابت والمتغير في إدارة الدولة والشأن السياسي، وتوظيف الحراك الديمقراطي في تداول السلطة وتوزيع الثروة.
رابعاً: يسعدني في خاتمة هذه المراجعة أن أضمَّ صوتي إلى الأستاذ هاشم الجاز، بأن يجد هذا الكتاب المهم في موضوعه الاهتمام اللائق من المؤسسات الأكاديمية والسياسية والأمنية؛ لأن فيه مادة قيمة، بذل المؤلف جهداً مقدراً في جمعها وتصنيفها والتعليق عليها، ولاشك أنها جديرة بالدراسة والتمحيص؛ لأن فيها كثير من الدروس والعظات والعبر، التي ربما تسهم في تثقيف مسارات السياسة السُّودانية، وخلق نوع من التعايش السلمي، أو التوأمة بين مناطق التماس وأحزمة التداخل القبلي والاقتصادي الرابطة بين دولتي السُّودان القديم، وذلك مراعاة لحياة الإنسان الفرد الذي يمثل ذروة سنام العمل التنموي الناجح في أي بلد يقدر قيمة الموارد البشرية.    
Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]

 

آراء