أحضان اديب …. بقلم: الرفيع بشير الشفيع

 


 

 


rafeibashir@gmail.com

    لقيت الناس في السودان مروقين  .... ومتعافين.... وحلوين لكين ما شاعرين ..... وفي غير نعمة وصابرين ...... مشغولين بأنغسهم ... مهام بالليل وبالنهار ، استاند باي ، كأنهم في معسكر كبير ، معسكر فيه اجنجة للمرضى ،  وبيوت للعزاء، وصالات للقاء ، لا برمجة ولا قوائم للاولويات ، ولا ترتيب للمواعيد ولا التزام بخطوط السير ، ولا تمسك بالبرامج بمواعيد مسبقة ،  ولكنهم ايضا دائبين في استمتاع لا تخطئه العين ، ومتحزمين ، قائمين بالواجب ، مأجورين لا مستأجرين ، يتحركون في جماعات كخلايا النحل ، هنا فاتحة ، وهناك زواج ، وذاك مريض ، وهذا عائد ،  وذاك رائح ، مشغولون بالتكافل والتكاتف والتألف ، رغم عثار العيش ،  وعسير الحياة ، وانعدام المعين الا الله ، لكنهم  كذلك فرسان حوبة ، و ماثر تسير على قدمين ، اخر ما يفكرون فيه الانا والخلود للراحة الذاتية ،  والرفاه ،  لكنهم لاتنقصهم مودة ولاتالف ..... شعب اذا قل المئين  صبروا ... واذا شح المعين أعانوا... واذا قرز الضرع دروا... واذا جف الزرع اعطوا وبذلوا واخرجوا النفائيس .... الايثار والتكافل ، والتراحم ... ترى على وجههم الرضا على العناء ، وتقرأ في عيونهم الاباء والعز والكرامة على العوز والفاقة والعدم ، وتحس في احضانهم الرحمة والحب والحنو والشوق، لكن أحضانهم دفيئة ، فارهة ، رحيمة ، يلتصقون على اضلعك هسرا وشوقا وتوقا حتى تفيض منك الوجدان ، وتروتي منك الاغصان .... ولكنا ،  جئنا من فجاج الغربة المجحفة الجائرة الجافة ، جفت فيها الوجدان ونضب فيها الحنان ، وعافتنا فيها النفوس وأبتنا الجنان ، اذا ابتسمت فيها فأنت متملق واذا احتضنت فيها تحدجك العيون ويشنؤك الشانئون ، وتلوكك الألسن .... لا يعرفون صديق ولا قريب ولا حبيب ، الا من خلال الجيوب والمصالح.... وتنعدم فيها الانسانيات ، .... وجئنا الى اناس مترعون بالرحمة موفوري الاشواق ، أشواق محتشدة في الانامل ، محتدمة في الصدور البريئة الدفيئة ، مشهودة في العيون ، وفي الابتسام العريض ومن الضحكات الحقيقية الأصيلة ، لا يرجون منك عطاءا ويبهرونك بالكرم ، ويجعلونك تستحي من نفسك ومن قلة حيلتك ألا تشبع فيهم اكنتهم الطهر ، ووجدانهم الدفيء...

    كنت اتخيل أني سألقى الوجه مسلوقة من العدم والاقتار،  وان النفوس مهيضة من الوجع والعلائق مهضومة من الجفاء ، وان الناس عنية بالشقاء ، ولكني وجدت وجوها منطلقة رحبة وجباه عالية وثغور وضيئة ونعمة فائضة ، ونفوس عالية متماسكة ، عما كنت اظن وما كنا نتوهم نحن الذين احتمينا بالغربة عن غبار الوطن وعن التوهد في وهاد الحياة فيه وعن التعفر بعجاجه الشهي  وحره الدفيء ، وشظفه الممتع، وأنفاسه الحرى الحبيبة للنفس  ، عن فيء نسائم في غربة لا نملكها وعن تشبث بأرض نمشي عليها ونحن واهمون واهنون هائمون بلا غرض حتى لو تقامسنا مع اصحابها نصف الفجاج واعطونا الجنسيات وملكونا نصف مخزون ارضهم وكل أهواءهم واجواءهم التي لا تعدل عندنا لطافة لفحة من سموم ولا متربة من سوافي في بلاد الأرحام ومدفن الحبل السري .

    انا اليوم هنا على ارضي ، أشتم نسائمي واخطو على ترابي ، واطعم من حقي ، وأتسنم صدور احبتي ، وأتنعم بنفسي بين اهلي وعترتي ..... أشعر أني ملك يملك كل شيء ، الطمأنينة والحب الحقيقي وخزائن الدنيا وما فيها واتقاسم مع الناس هواءا عليلا ، سماءه صافية ونجومه زاهية تنتمي الي وانتمي اليها ،  انظر اليها بنظرة الذي ازاح استاره وارخى اكنافه من طول عناء  ، ووضع سرج حصانه بعد سفر طويل استوحشت فيه النفس وثقلت فيه الضمائر بالاوهام والجفاء.

    ما أجحفها من غربة وان اعطت ، وما اطيب الاوطان وان جارت وضنت و
    ما اطيب اللقاء.... وما ارغد نعم الله وما اكرمك يا وطن .
    

 

آراء