أحمد الجنقول .. كيف لا أعشق جمالك

 


 

مالك جعفر
31 July, 2018

 


دخلتُ داخلية امتداد ترهاقا بجامعة الخرطوم للمرة الأولى في فبراير 1991 بصحبة أبي ـ رحمة الله عليه ـ فدلوني على الغرفة التي ينبغي أن أسكنها ، كانت هي الغرفة الثالثة يفتح بابها على الناحية الجنوبية تجاه مكتب القبول الذي يفصلها عنه صف من أربع غرف وسور . دخلت الغرفة فوجدت أحد قاطنيها شابا قصيرا ذا شارب واضح يتوكأ على عكازتين . كنت متوجسا ربما من العالم الجديد الذي أدخله للمرة الأولى والناس الذين لا أعرف منهم أحدا ، تبادلنا بعض كلمات التعارف فعلمتُ أنه أحمد الجنقول ، وقد تخرج حديثا في جامعة أمدرمان الإسلامية ، ويعمل تاجرا صغيرا في سوق بحري .
رويدا رويدا تكشفت لي شخصيته التلقائية المرحة المحبة للناس ، فقد كانت مناكفاته مع عصام صديقه وابن منطقته "تمبول" لا تنقطع ، فكل موقف بينهما ينتهي بضحكة مكتومة من عصام وأخرى مجلجلة من الجنقول .
ومن مقولاته الطريفة بالداخلية قوله (الضيف بترسل) ، فنتاج لوجود عدد من ذوي الإعاقة فإن المراسيل للأصدقاء بالداخلية تكاثرت ، ومن كثرتها فقد يتلكأ أحدهم تكاسلا أو قد يتماطل للإغاظة ، فكان الجنقول يغتنم فرصة مجيء الضيوف ويرسلهم ، وكانوا يلبون طلباته على جناح السرعة ، فيقول الجنقول ناصحا (رسل الضيف ..الضيف بترسل) .
كان يسخر من نفسه ومن مساكنيه ذوي الإعاقة سخرية دائمة ، وهي سخرية لا تنطوي على التقليل من ذوي الإعاقة ، وإنما تنطوي على أن تلك الإعاقات لا تعني شيئا .
كنا قد فقدنا جراء مقاطعتنا للامتحانات بنهاية السنة الأولى ، بسبب ملابسات مقاومة تصفية السكن والإعاشة والتي أفضت إلى اغتيال الطالب طارق محمد إبراهيم وتجميد النشاط وحل الاتحاد وفصل عدد من الطلاب ـ فقدنا جراء مقاطعتنا تلك ـ تحديدا نحن البرالمة ـ عاما دراسيا وفقدنا دعم "صندوق دعم الطلاب" نهائيا وإلى الأبد ، مما تسبب في شظف شديد في العيش. وكان الجنقول من الذين سدوا الفرقة .
فقد كان أحمد الجنقول كريما غاية الكرم ، فكم أطعمنا وسد جوعتنا بأطيب الطعام ، بالذات نحن الذين كنا نسكن غرفة شاع عليها اسم غرفة الكادخين ، طارق عبد الرحيم ، وصلاح الراعي ، وعمر التنكر ، وأنا ، فكم ذهبنا معا لتناول وجبة غداء فاخرة في إحدى الكافتريات المجاورة ، وكم "غَمَت" لنا حق الفطور قبل ذهابه إلى سوق بحري .
في ظل البيئة غير المهيئة كان الجنقول يوليني عناية كاملة ابتداء من تقطيع الرغيف أثناء الأكل ، مرورا بتقليم الأظافر ، وتوفيرا لصابون الحمام الراقي ، بل والمساعدة المباشرة في النظافة الشخصية ، كان الجنقول رؤوفا كأمي .
الجنقول إنسان طروب يحب جميل الغناء ، وكان كثيرا ما يترنم بأغنية (كيف لا أعشق جمالك) يغنيها بتلذذ شديد وصوت جميل تهتز له الأوصال . وهي الأغنية التي ستظل كلما أسمعها أرى الجنقول أمامي .
كان أحمد الجنقول ختميا محبا ، يظن بالناس الخير ، حبب لنا التصوف والصوفية وقد جذبنا إلى محاضرات الدكتور التجاني إسماعيل بكلية الآداب الراتبة كل ثلاثاء ، وساقنا معه لحولية السيد علي .
وبعد أن تخرجتُ وعدتُ إلى القضارف ما انقطعت تلفوناته عني قط ، كنت أنا دائما مقصرا وكان هو السابق للخيرات ، وكان لي وعد منه أن يزورني أثناء ذهابه لزيارة الشيخ أبوجلابية بكسلا ، وهو الوعد الذي لن يتحقق أبدا .
حبيبي الجنقول إن كنت قد نظّفتني مرارا بداخلية امتداد ترهاقا ، فها هي روحي ـ الآن ـ قد اغتسلت بأريج ذكراك .
ألا رحم الله الجنقول وأسكنه الفردوس الأعلى بمعية المصطفى صلى الله عليه وسلم .

gafar.khidir70@gmail.com
///////////////

 

آراء