أنتَ الذي بَجِحَ الزّمانُ بذِكْرِهِ ... وتَزَيّنَتْ بحَديثِهِ الأسْمارُ
المتنبي (1)
لم أقرأ منْ تحدث بخير عن الرعيل الأول من أهل الخدمة المدنية السودانية ، بُعيد السودنة .كلهم عند كثير من الناس ، موصومين بأنهم أذيال إستعمار، بل يقولون : لقد كستهم جمائلهم و أن الإنكليز هم عرّابيهم ، صنعوهم لينوبوا عنهم وكلاء الاستعمار الجديد . ويقولون إنهم كَتَبة ، يؤدون الأوامر ، بل ويصفونهم بأنهم يقومون بحماية مصالح الإنكليز .ويتحدثون عنهم كورثة للمُستعمرين ، وأنهم في الحاجة لهم في كل شيء. بمعنى أن المستعمر لم يخرج ، بقي كما هو . ترك أبناء من الوطن وكلاء عنه،و عاطلين عن الإبداع !!. هذا الوصف يطلقونه على السياسيين وعلى أهل الخدمة المدنية سواء ، بلا تمييز !. هذا هو جوهر الإدعاء، وتلك حُججه . ونظل نتعرف على الرعيل الأول دائماً من خلال منظار المكر السياسي الأسود : ( هؤلاء هم الذين أورثونا الضِعة والتغريب ، وأنه يتعين أن نعود لتُراثنا العربي الإسلامي بعد هدم تُراث هؤلاء) ! * هذا كله أحسبه من حبائل السياسيين ،قليلي الحِيلة عند مواجهة قضايا عصرهم. يبحثون بجِد عن كِباش فداء ، ينزلون عليها خيباتهم الكُبرى. !!. (2)
لم يعرف كثير من أصحاب الدعوة سالفة الذكر ، أن حُكم السودان الاستعماري ، يتبع لوزارة الخارجية البريطانية ، وليست إدارة المستعمرات، وهو فرق كبير ! .إن ما جعل السودان أفضل حالا نسبياً ، هو أنه لا يتبع إدارة المستعمرات ، التي تُهب الإدارة العسكرية كل شيء ،و تترك البشر أذلاء لجنود الإمبراطورية ، في حين أن وزارة الخارجية البريطانية تنتقى من الحُكام الإداريين من خريجي أكسفورد وكمبردج و غيرهما، من صفوة أهل العلم الإداري في زمانه ، ليقودوا العمل الإداري في حُكم السودان الاستعماري . لن نتحدث عن الطرف الأضعف في معادلة الحُكم الثنائي ، فهم ظِل المُستعمر .
(3)
من بعد .. ، نبدأ الحديث عن الإداري العظيم : " الأستاذ أحمد المرضي جُبارة " . وهو واحد من الإداريين الذين ابتعدوا عن المناخ السياسي مسافة تُجنبهم المكائد والأهواء ، التي اعتادت أن تصبح سيرة يومية لحياة .و الحُكم الحقيقي على أمثاله من أهل الخدمة المدنية ، هو بما قدم من سيرة ، يتعين أن تسير بها الرُكبان . تميَّزت هي بالشفافية والدقة والضبط الإداري ، له أو عليه . لا تُربكه علاقة قرابة أو زمالة عمل أو صداقة . نهج خطاً إدارياً كامل الاستقامة ،لا يلونه غرض ولا تلفه المصالح . الكل سواسية عنده ، يحكمهم قانون الخدمة المدنية وقوانين جامعة الخرطوم الخاص ، والقوانين المالية والخدمية التي تُزاوج بين حقوق المنتمين للجامعة وتشريعات الدولة . تلك الحقيقة التي نزُعم صحتها ، تُخالف كل التسويد الماكر للصحائف ، وتشويه سمعة الذين خدموا وطنهم بإخلاص ورحلوا عن الحياة ، تاريكين كل شيء لحُكم التاريخ . نحن هنا نُنقب عن أثرهم ، وقد تمرست خبرتي من وحي إرشاد الأستاذ " أحمد المرضي جبارة " ، وربما تكون شهادة مشكوك في صحتها ، ولكني أنقل وقائع ، والكثير من الشهود لم يزالوا أحياء . فمثله لم يتحدث عن نفسه . عاش حياة هادئة ، قام بواجبه الإداري والضبط المالي بمشاركة أهل الخدمة المدنية وفق النُظم المعمول بها . أمثال هؤلاء كُثر . لم يرتكبوا خطيئة ، بل قضايا يومية ، تحمل سلباً كما تحمل إيجاباً . يتم تناولها بكل شفافية ، وفق القوانين المعمول بها . لا تفويض ممنوع لهم إلا باقدر حجم وصلاحيات الوظيفة .
* نشهد اليوم بأم أعيُننا كيف يدوس الغادي والرائح على قوانين الخدم، بل يفخرون بهدم أسسها ، وهم يصفونها بــ " معوقات القرار السياسي "!. يستخرجون كل شيء من لا شيء كالحواة . إن المكر السياسي الجاثم على الصدور ، والذي قبض على خناق الخدمة المدنية ، لا بالتحديث والتطوير ، بل من أجل تهديمها ! . هذا الرعيل من الإداريين الأوائل الذين شهدنا أخريات أيامهم في " الخدمة المدنية بقانون المُشاهرة " . تدربنا على أياديهم الخيِّرة وإرشادهم الخلوق . فهم أهل النقاء والطُهر والعلم والحزم الإداري ، لا بتسويد الجِباه ، وإدعاء التقوى ، فيمنْ يعتبرون " المال العام " "مِلك يمين " . يَفْتُون بأن " مال الدولة الكافرة " فيئاً، فيتقسمونه بينهم . أين هم من عفة القلب و اللسان والعمل الرباني ، الذي صدعوا به رءووسنا !؟.
(4)
كل من أدرك" أحمد المرضي جبارة" مسجلاً لجامعة الخرطوم ، يعرف عنه القصة المشهورة ، التي تتوارث حكايتها أجيال الخدمة المدنية ، إذ أن أحد الأساتذة الإنكليز من حملة رسالة الدكتوراه المشهورين بالجامعة ، قد زار مكتبه ضُحى يوم لغرض ما . ولسوء حظه ، كان باب مكتب المُسجل شبه مفتوح ، كعادة أبواب مكاتب موظفي أهل الخدمة المدنية حينها . ويومها ركل الأستاذ الإنكليزي الباب بقدمه اليُسرى ، ليجد مسجل الجامعة جالساً أمام طاولته يواجهه ! . تبسم مُسجل الجامعة ، واستقبل الأستاذ كما ينبغي . أجلسه وطلب الضيافة المُعتادة ، ثم وطلب منه الانتظار ريثما ينجز بعض المكالمات الهاتفية الضرورية مع السيد مدير الجامعة و إدارة الخدمات والشؤون المالية . انتظر الرجل ، وقام مكتبه بواجب الضيافة المٌعتادة لكل أضياف مُسجل الجامعة وكافة قيادات الخدمة المدنية كذلك . لاحظ الأستاذ الإنكليزي ذكر اسمه في المهاتفات عُدة مرات، ولكنه لم يُعر الأمر انتباهاً . جاء الرد سريعاً ، وعندها ،أخطره " أحمد المرضي جُبارة" أن جامعة الخرطوم ، قد استغنت عن خدماته لسوء السلوك ، في فتح باب المكتب بقدمه ، وأن الجامعة قد قامت بحجز تذكرة العودة لموطنه خلال يومين ، مع كافة مُخصصات نقل الأثاث لموطنه ومخصصات نهاية الخدمة وشهور الإنزار . وشكره على مُدة عمله بالجامعة . أعتبر الأستاذ الإنكليزي أن الرجل يسردعليه مزحة ثقيلة الظل ،لأن من عادت الأستاذ أحمد المرضي ، إضفاء بُهار الود على متحدثيه ، يُذلل صعابهم الإدارية والخدمية والمالية . ولكنه اكتشف أن الحزم الإداري فوق كل شيء . وعلم أنه أخطأ كثيراً .واستدرك بإعتذاره الشفهي ، وأنه سوف يقدمه هذا الاعتذار الآن كتابة . وجاءه الرد : أن الأمر قد قُضيَّ ،وأن المهاتفات كانت عن الموضوع ، وستكتفي الجامعة بالقرار ، ولن يرفع مُسجل الجامعة تقريراً عن سوء السلوك لجامعته الإنكليزية التي انتدبته .
(5)
الأستاذ " أحمد المرضي جُبارة " هو أول مسجل لجامعة الخرطوم . خدم بعد انتدابه من مصلحة المعارف : ( 1958 – 1969) ، وكانت الجامعة السودانية الوحيدة ، بخلاف " جامعة القاهرة - فرع الخرطوم " التي أقامتها مصر عام 1956 ،واستمرت حتى صادرتها الإنقاذ أوائل تسعينات القرن الماضي . درس " أحمد المرضي جبارة " في مدرسة وادي سيدنا الثانوية ، قبل أن تصادرها القوات المسلحة لتُصبح " الكلية الحربية "، في ذات الموقع وذات المباني الأكاديمية وقاعات الطعام والداخليات والميادين الرياضية . كانت مدرسة وادي سيدنا الثانوية ،مثلها مثل حنتوب الثانوية ، وخور طقت الثانوية ، ورمبيك الثانوية ، ميزتها بريطانيا المُستعمرة ، لخلق مناخاً ومكاناً يصلُح للتربية والتعليم، و إخراج الطلاب من بيئة اجتماعية لا تقنع بالعلم ، إلى جزيرة معزولة يتم فيها إعداد الطلاب إعداداً يؤهلهم .وهو الذي كانت تحسدنا عليه مصر . لا أعتقد بأن المدارس المعزولة ميّزت الطلاب بالسكن والإعاشة والميادين الرياضية ، وضبط التذكار والنوم والدراسة والرياضة ، ليصبحوا طبقة جديدة تتتميز عن أهلها وتصبح أصابع استعمارية ، بل أزعُم أن العلم هو من الأهداف الرئيسة ، وأن يحكم البلاد أهلها آخر المطاف ، خيراً من تركها فوضى، وأغراض استعمارية أخرى ، ليست بأهمية ما ذكرنا .ومن حاد عن التعليم وأهدافه، فقد خاب هو . ومن يفعل الشر في أهل وطنه يجده ، ومن يفعل الخير فإنه المُصيب لا مُحالة . تلك كانت أفضال تبعية استعمار لوزارة الخارجية البريطانية . * مبتديات تهديم ، كانت قرارات وكيل وزارة التربية والتعليم ، الذي أصدر ها بقرار فردي عام قرر بموجبه تعريب مواد الثانوية ( الجغرافيا و الرياضيات والعلوم )عام 1965 ، بدون التجريب المعهود للمناهج في " مُجمع بخت الرضا " كما هو معروف . وتغيرت المناهج مرة أخرى مع قدوم " 25 مايو " ، فيما يسمى بالسلم التعليمي ، صنيعة مصر .و أخيراً الإتكاءة للذبح من بعد 1989، وشملت قصة التعريب بلا استعداد ، مؤسسات التعليم العالي فيما سميت بـــ " ثورة التعليم العالي "، الذي صرّح بطلها علناً بأنها تفتح أبوابها لكل مُسلمي العالم !!. * كان بطل قصتنااليوم، هو من الذين فعلوا الخير ، ولم ينتظر الثواب . كان " أحمد المرضي جُبارة " زميلاً ورفيق " نصر الحاج علي " ، أول مدير لجامعة الخرطوم. وتم تعيينهما في ذات العام 1958 م. ترافقا منذ الثانوية ، وافترقا طويلاً ، ثم جمعتهم خدمة جامعة الخرطوم ، أيام الحكم العسكري الأول .
(6)
أول يوم ألتقيه ، يوم تم تعييننا كمهندسين بجامعة الخرطوم في سبعينات القرن الماضي . كان المكتب الهندسي برئاسة المهندس " عبد الوهاب إبراهيم ". وهو من الرعيل الذين قامت على أكتافهم الأعمال الهندسية التي صاحبت نهضة مشروع القرن : " مشروع الجزيرة والمناقل " في ستينات القرن الماضي . كان الأستاذ " أحمد المرضي جُبارة " يعمل في وظيفة " مُقرر التنمية بجامعة الخرطوم " بعد أن انتهت خدمته إلى التقاعد عام 1969 ، وعمِل بالمشاهرة ، حتى السبعينات .ومعروف أن المُشاهرة هو عقد سنوي تجدده المنشأة الحكومية التي في حاجة إلى خدمة من بلغوا سن التقاعد (60 ) عاماً . * مكتبه يقع ضمن قاعة الاجتماعات برئاسة المكاتب الهندسية بجامعة الخرطوم .وتمت تبعية ميزانية التنمية لإدارته بمشاركة الإدارة الهندسية بالجامعة . وكانت فصول الميزانية الخاصة بصرف المرتبات والأثاث والخدمات تتبع الوحدة المالية بالجامعة ، بينما صيانة المباني وأعمال الإنشاءات الجديدة والإضافات ،تتبع الوحدة الهندسية بالجامعة. والمشروعات تشمل المباني الجامعية المكونة من قاعات المحاضرات ، قاعات السمنارات ، المعامل ، المكتبات ، الداخليات ، مكاتب الأساتذة ومنازلهم التي تمتلكها الجامعة ومباني الخدمات :( تصميم وإعداد مستندات العطاءات ، والإشراف على التنفيذ ) .كان يمثل الجانب الإداري والمالي الأستاذ " أحمد المرضي جُبارة " . كنا معاً شركاء استراتيجيين .
(7)
قابلته كما ذكرت مع لفيف من المهندسين الجُدد. هو رجل مهيب . جالس على مقعده . يرتدي الرداء الإفرنجي الكامل ، وفي فمه " غليون ". في تلك الأيام لا أحد يُحظر التدخين في مكاتب الدولة . عرّفنا عليه مديرنا المهندس " عبد الوهاب إبراهيم ". وقف يحيينا . تبسم وحيانا بإقتضاب ، وتمنى لنا حياة مهنية طيبة . تحدث باختصار عن أننا سوف نجلس معه لإعداد ميزانية التنمية بالجامعة، إضافة إلى أعمالنا الهندسية و الفنية الأخرى . وأنه سوف يطلعنا على النُظم والقوانين الخاصة بالمشاريع وعلاقتها بالمالية والتخطيط والجامعة ، وعلاقاتها جميعاً بنُظم التصميم الهندسي وإعداد المستندات التعاقدية وإجراءات المناقصات : المُدخلات ، الوسائل والأساليب ، والمخرجات . في ذلك الزمان شهدنا الأيام الأخيرة للمُكاتبات الإنكليزية ،حيث تم استبدالها باللغة العربية . * يقوم الأستاذ " أحمد المرضي جبارة" بالإشراف على إعداد ميزانية التنمية. كان هو المرجع الإداري والقانوني لكافة نُظم وقوانين الجامعة ، الأكاديمية منها والإدارية والخدمية كافة .ويقدم لنا الدعم والخبرة الإدارية ، في تجنُب المعضلات ، وانتهاج السبيل الأمثل في معرفة متطلبات التطوير والتحديث في الوحدات الأكاديمية والأقسام الأخرى لخاصة بالجامعة ، ومن ثم تحليل نتائجها مع خطة الجامعة ، وتحويلها إلى رؤوس أقلام لمشروعات مستقبلية للتنمية ، وفق المقاييس الفنية الهندسية للمباني، التي تتحول بدورها إلى مقترحات هندسية ، ثم تصميمات أولية ، في مكان شاغر ، يناسب التخطيط العام للجامعة ، ثم تقديرات الكلفة ، وبرمجة أولويات تلك المشاريع المستقبلية بناء على الخطط والأولويات التي اختطتها الدولة.
* هي قصة ربما يطول الحديث عنها، لأن الموجهات التي تتقدم بها إدارة التخطيط في وزارة المالية ، هي التي تضبط إجارة مشاريع التنمية ووضع هيكلتها وفق توجيهات الدولة ، وميزانيتها المُخصصة للتعليم العالي .حيث يتم وضع هيكل للإستمارات وتعبئتها . ومن بعد يتم تحديد الموعد لمناقشة الميزانية مع الخبراء و المختصين في إدارة التخطيط في مقرهم ، وعرض مقترحات الميزانية المالية التي تحكُمها ظروف الدولة .وبناء عليه يتعين علينا أن نتقدم بالمشروعات وفق أولويات جامعة الخرطوم، وتقديم الدُفوع اللازمة لأهمية جدواها . وكذلك الحال يتم من الجهات المالية والإدارية والخدمية ، رفع الميزانيات السنوية الإعتيادية في الفصول الخاصة بالمرتبات والخدمات ....الخ . وهي قضية معقدة لأن الموازنة المالية تتوازن بالصادرات والواردات وهيكل الضرائب ، ولكن الإدارة الهندسية هي صاحبة الشأن في ميزانية التنمية ، التي أصبحت مؤخراً مُنحصرة في المُنشئات والمباني متعددة الأغراض ، بسبب الحالة الاقتصادية ، التي لم تتطور بشأن تخفيف أعباء الدعم ، وزيادة المرتبات وتشجيع الصادرات ، وتحفيز المنتجين . وهو الأمر الذي حاولت تغيير الإنقاذ ، ولكنها فشلت لأنها كان تعمل ضد الدولة الوطنية ، و لا يهمها تطوير الدولة .لا يهمها العلم أو الإقتصاد والتطور و العدالة والشفافية ،بل يهمها تمكين الجمَّاعة ، ودعم حلم دولة خلافة ، عابرة للقارات ، تحت قيادة التنظيم العالمي !!!.
(8)
و الآن في السودان تم تبسيط الموضوع ، بل إفراغه من محتواه . إذ يتم اتخاذ القرار وفق رؤى أناس يبدو أنهم غائبون عن المسرح العام ، ولكنهم حاضرون في السّر ،يقبضون على مفاصل الدولة ، ويفعلون ما يشاءون .جميع الدستوريين يملكون التفويض في عمل أي شيء .كل مسؤول امبراطور في مجاله . يفعل ما يشاء بلا حساب!. بسهولة يتم أي شيء. و قد تمّ الهدم المؤسس للدولة ونظمها والمؤسسات التابعة لها .وتحويل الدولة إلى مشروع لخدمة أجندة اتضحت للقاص والداني، تحقيقاً لحُلم بات مستحيلاً ، دخل العناية المُركّزة ، وينتظر سحب أنابيب التغذية ! . * لا أحد من القائمين على الأمر يريد أن يعترف بالأخطاء القاتلة، بل لا أحد يريد أن يُحاسَب . لا أحد يريد أن يتطهَّر . هو رُعب بأن المخالفات التي طوتها السنوات ، ليست جناية مال عام حولوه للمصلحة الخاصة وحده ، بل ولغت نفوس بعضهم في دم الأبرياء . فالخوف هو مما تتحدث به نفوسهم : " إن سقطنا سيتم سحلنا في الطرقات العامة " !؟ كيف تتحقق العدالة عند من يرغبون نسيان الماضي ، والبدء من جديد.والكتابة على ورقة بيضاء بالحبر الأسود ، وفعلياً هم يريدون الكتابة بالحبر الأسود على الورقة السوداء ، بحيث لا تُرى !.
(9)
كتب البروفيسور" جون الكسندر بوتر" منشئ ومؤسس قسم هندسة العمارة بجامعة الخرطوم 1957 عن " أحمد المرضي جبارة " مسجل الجامعة ،في سِفره: ( EVERY THING IS POSSIBLE – OUR SUDAN YEARS ) { على أحد الأطراف كانت تقع كلية القانون ، وعلى الطرف الآخر توجد مباني إدارة الجامعة ، وبها مكتب السيد " أحمد المرضي جبارة " وكان يدير الشؤون الإدارية والمالية للجامعة وبعض الأعباء الأخرى . لم يكن هناك من هو أفضل منه في معرفة المخاطر المتعلقة بالبناء . رجل ذو بصيرة نافذة رجل أسود ضخم الجسم وآخر أبيض ضئيله . كان كلانا يرتدي قميصاً أبيض مفتوحاً عند العُنق وشورتا أبيض وجوارب بيضاء طويلة . كان ينتعل حذاء بُنياً مصنوعاً من الجلد الإنكليزي ، بينما كنتُ أدس قدميّ في مركوبي الأثير المصنوع من الجلد البرتقالي. وقد اشتريته من سوق الخرطوم .} انتهى النص . * كان "أحمد المرضي جُبارة " قمحي اللون مُشرَّب بحُمرة ، ولم يكن أسوداً صرفاً كما وصفه البروفيسور أليك بوتر . فالإنكليز دائماً يعتبروننا سود إجمالاً ، وإن تنوعت ألوان بشرتنا . وتلك قضية اختلف فيها دارسي الأعراق وألوان البشرة باختلاف المراجع . وهو موضوع خارج عن نطاق موضوعنا الحالي .
(10)
" الأستاذ أحمد المرضي جُبارة " قائد له خبرة ودربة وأساس اكاديمي ليكون أهلاً للمنصب . صادف المنصب ، رجلاً على درجة عالية من الحِنكة والحزم الإداري . هو حافظ للنُظم والقوانين الإدارية والأكاديمية . وعلى جانب موثوق في معرفة اللغة العربية وآدابها ، فهو قد درس الآداب والثقافة في إحدى جامعات إيرلند في المملكة المتحدة ، لذا كان يتقن الإنكليزية كأهلها . يحفظ المدن والقرى البريطانية عن ظهر قلب. زار معظمها .اعتاد أن يُسافر سنوياً لزيارة الجامعات الإنكليزية ، في كل بقاع المملكة المتحدة ، ويطّلع على ملفات الأساتذة هناك . يقيم لجان لمقابلات أساتيذ الجامعات الإنكليزية ، الذين تقدموا بطلبات للعمل كأساتذة في جامعة الخرطوم ، ثم يرجع السودان حاملاً مستندات التقييم ، ليعرضها على اللجان الأكاديمية المختصة في جامعة الخرطوم ، قبل تصدير عقود الناجحين منهم توطئة للتعيين في الخدمة الأكاديمية في جامعة الخرطوم . * لقد استفادت جامعة الخرطوم من إرثها ، وكانت هي الجامعة الإفريقية الوحيدة من بعد الاستقلال ، وقد أصبحت أول كلية أفريقية مرتبطة بجامعة لندن تتحول إلى جامعة مستقلة تمنح شهادتها الخاصة. وكانت لها ميّزة خاصة ، إذ يتم تمويلها من صندوق خيري بدأ بتمويل كلية غردون التذكارية منذمطلع القرن العشرين . وأدى إلى إنشاء مباني الكلية وافتتاحها عام 1902 . وكانت فكرة قيام كلية غردون التذكارية ، كما هو معروف :عملاً خيرياً ، تذكاراً وتخليداً لغردون باشا ، الذي هزمه الوطنيون وتم اغتياله في 26 يناير 1885 في القصر بالخرطوم .
توقف التمويل الخيري ، بطلب من حكومة السودان أوائل السبعينات ؟!. ولاحقاً ببضع سنوات ، اختلّ ميزان المدفوعات عام 1976 ، وبدأ الانهيار الإقتصادي الأول . ثم وصلنا ركضنا سريعاً إلى الدرك الأسفل من القاع، وهو ما نشهده اليوم! .