أحمد علي الإمام والقصور عن تدبر القرءان .. بقلم عمر محمد سعيد الشفيع
22 May, 2009
الحركة الإسلامية ـ عليها شآبيب الرحمة ـ لم تهتم بإنتاج متفكرين وهي أصلاً كانت حركة سياسية سنية سلفية لم تبتعد كثيراً في العلوم الإنسانية عن مصادر المعرفة الآبائية التقليدية، والأدهى من ذلك أنها كانت تدعي التفقه في القرءان والواقع يقول أنها كانت في هذه النقطة مثلها مثل غيرها في الجمود وحمل القرءان جملةً وتفصيلاً على ما قاله السلف البعيد أو القريب. وقد يبرز منها شخص متفكر بجهد فردي وللأسف فحتى في هذه الحالة فإن الحركة لم تكن تستفيد منه ولا تخضع تفكره لنقاش عصري يفيدها ويفيده ويفيد المجتمع ولذلك فالغالب في هذا المتفكر أن يدور في فلك المناهج الآبائية ولا ينتج من الجديد إلا بعض ومضات لا يجمعها منهاج ولا تقود إلى شرعة. ومن الذين برزوا أخيراً في الإهتمام بالقرءان العظيم الدكتور أحمد علي الإمام وقبله كان الدكتور حسن الترابي ومن العجيب أن الدكتور أحمد يرى أن ما كتبه الترابي لا يعتبر تفسيراً كما صرح بذلك لأحد أصدقائه الكبار. ومدار قولنا اليوم سوف يكون حول ما سمعته مرتين من أحمد علي الإمام أما الترابي وتفسيره التوحيدي فسوف نفرد له مقالاً لوحده.
دعاني أحد أقربائي قبل عامين أن نصلي المغرب في المسجد الذي (يفسر) فيه الدكتور أحمد علي الإمام القرءان. وصلنا المسجد وصلينا ثم رأيت أجهزة التصوير تنصب لينقل (التفسير) في حلقة تالية للجمهور وهذا ما سرني أن ينقل العلم بكتاب الله للجمهور ولكن خيبتي كانت كبيرة في (المفسر) الذي كان مدار قوله حول مقطع (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) من الآية 28 من سورة فاطر وهي الآية التي تقول (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور). وألفيت الدكتور يحوم حول الآية مثله مثل أي خطيب جمعة يبدأ خطبته بآية ثم يتركها ويتكلم في كل موضوع إلا الآية التي استفتح بها. وتأكد لي أن الدكتور لم يكن قوله تدبراً للآية وإنما نقلاً لما ورد عنها في بطون كتب التفسير القديمة والحديثة رغم بعد الزمان والمكان بيننا وبين هؤلاء الأجلاء الذين أوفوا عصرهم بعض حقه، ورغم الإدعاء العريض أن القرءان صالح لكل زمان ومكان. وبهذا النهج الآبائي الذي إتبع فيه الدكتور أسلافه من المفسرين فقد فات عليه علم جمّ كان يمكن له أن يتحصله من هذه الآية وينقله للجمهور ليتفاعل معه تأثيراً وتأثراً.
التفسير والتدبر
أولاً ـ الدكتور لا يميز بين التفسير والتدبر. وهو كغيره يدعو ما يقوم به نحو القرءان من فهم وشرح ـ جزاه الله خيراً ـ بـ(التفسير) ولا يعلم أن التفسير ليس مطلوباً منه ولا مني ولا من غيرنا لأن التفسير الأحسن الذي ورد مرة وحيدة في القرءان جاء قولاً من قوى التدبير الربانية (ومنها الملائكة) إلى النبي محمد صلى الله وملائكته عليه (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ـ الفرقان 33) بدلالة ضمير الجمع المتكلم في الفعل "جئناك". لاحظ في هذه الآية ضمير المتكلمين الجماعة ولا تنخضع بالمقولة الواهية التي تدعي أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بضمير الجمع دلالة على العظمة مثل الملوك كما تدعي المقولة والعجيب أن كل الملوك المذكورين في القرءان تكلموا بالضمير المفرد مثل سليمان وملكة سبأ. وللأسف لم يفطن حسن الترابي أيضاً ـ رغم تقدمه على أحمد علي الإمام بمراحل بعيدة في تدبر القرءان ـ إلى خصوصية ودقة ألفاظ لسان القرءان فسمى تدبره للقرءان بـ(التفسير التوحيدي) وكان الأجدى به أن يدعوه (التدبر التوحيدي). ومن الذين انتبهوا إلى أن المأمور به هو (تدبر القرءان) وليس تفسيره العالم الجليل أمين أحسن إصلاحي تلميذ العالم الجليل عبد الحميد الفراهي فسمى تدبره للقرءان العظيم بـ(تدبر القرءان) ونشره باللسان الأوردي (تدبرِ قرآنِ) في ثمانية مجلدات ويقوم تلاميذه الآن بترجمته إلى اللسان الإنجليزي. والتدبر هو أن تجعل ما تريد تدبره سواء آية أو سورة أو مقطع من الكتاب أو الكتاب كله أَمامك وإِمامك وتتبع منهج القرءان في تدبر القرءان وهو تلك الطريقة المنتظمة الهادئة التي أمرنا بها القرءان لتدبره وهي متابعة الألفاظ في تشابهها وعلاقاتها وإقتراناتها مما يتضح بعضه في الفقرة القادمة.
وثانياً ـ علينا أن نميز بين المنهج التسويري والمنهج الترتيلي في تدبر القرءان العظيم. القرءان العظيم هو مرحلة التيسير الأخيرة من مراحل تيسير القرءان للذكر التي قامت بها قوى تنفيذ إلهية لا ندري عنها شيئاً كما أخبرت الآية (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ـ أربع مرات في سورة القمر). وهذه المراحل التيسيرية الأربعة بدأت من القرءان الحكيم في أم الكتاب الذي جُعل عربياً مروراً بالقرءان المجيد في اللوح المحفوظ والقرءان الكريم في الكتاب المكنون وخُتِمت بالقرءان العظيم الذي نَزَل (النزول) به الروح الأمين على قلب محمد ونزَّله (التنزيل) جبريل على قلب محمد أيضاً. واسم السورة جاء من الله سبحانه وتعالى (الله هو الذي سماها سورة) لننتبه إليها في وحدتها أولاً وعلاقاتها الداخلية ثانياً ثم علاقاتها بالسورة السابقة والسورة اللاحقة لها وببقية السور في القرءان العظيم. وتدبر السورة في وحدتها وعلاقاتها الداخلية يشكل عناصر المنهج التسويري (سورة تسوِّر موضوعها) في تدبر القرءان العظيم. أما المنهج الترتيلي فهو تدبر موضوع في القرءان مثل قضية الموت أو قضية التَّوفِّي وترتيل كل الآيات التي تخص الموضوع وتدبرها. والترتيل يكون إما على مستوى الفرقان أو على مستوى القرءان أو يكون حسباناً حراً يختار فيه المتدبر الترتيب الذي يراه. والترتيل على مستوى الفرقان يكون حسب ترتيب مناسبات التنزيل (وليس أسباب النزول) من أول سورة إقرأ (العلق) ترتيباً تنازلياً حتى آخر سورة متفق عليها وهذه الطريقة صعبة لسببين: أولهما أن هذا الترتيب الفرقاني غير متفق عليه وثانيهما أن المطلوب منا هو ترتيب القرءان الحالي، ومن الذين طبقوا هذه الطريقة الفرقانية في التدبر الترتيلي الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (أبي آدم: قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة). أما الترتيل على مستوى القرءان فيكون حسب ترتيب السور في المصحف المكتوب ترتيباً تنازلياً من سورة الفاتحة وحتى سورة الناس. والطريقة المستخدمة هي الطريقة الحرة التي يختار فيها المتدبر كيف يرتب الآيات التي تختص بالموضوع الذي يريد تدبره. وسواء أردنا أن نتدبر القرءان بالمنهج التسويري أو المنهج الترتيلي فلا بد من الإلتزام بالطريقة التي هدى إليها القرءان نفسه في التدبر وهي التشابه والمثاني (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ـ الزمر 23). ونستخدم اليوم منهج التشابه ـ بإبتسارٍ مقصود ـ عسى أن نرجع إلى منهج المثاني في يوم آخر، مع أن المنهجين متلازمين ومتداخلين في الكتاب كله. التشابه هو تتبع اللفظ في جميع صياغاته التصريفية في القرءان وإمساك إقتراناته من الدرجة الأولى وأحياناً من الدرجة الثانية. ونأخذ مثالاً على ذلك لفظ "العلماء" الذي ورد في سورة فاطر ونضع الآية المعنية مع سابقتها ولاحقتها (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ / وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ / إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ). ونستحضر بديهية أن القرءان خطاب قبل وأثناء وبعد أن تكوَّن نصاً وعليه نرى أن المتكلم في هذه الآيات هم مجموعة (فأخرجنا ـ ضمير جمع) وتتكلم هذه المجموعة عن الله سبحانه وتعالى (غائب في خطاب هذه الآيات) وتخاطب مجموعة أخرى هي مجموعة الناس المخاطبين بهذا القرءان. وما يهمنا من محتوى خطاب هذه الآيات هم "العلماء". بدايةً نلاحظ أن مركب (مختلفاً ألوانها) قد ربط بين الثمرات والجُدُد من الجبال وبين الناس والدواب والأنعام. والقرءان يميز في الدلالة والمعنى بين الجمع التصريفي (العلماء) الذي ورد في الشعراء 197 وفاطر 28 والجمع التركيبي (العالمون) الذي ورد في العنكبوت 43 والأنبياء 51 و81 والروم 22. وهنا أمامنا في هذه الآيات العلماء من عباد الله وهذه أول صفة لهم وثاني صفة أنهم علماء الثمرات وعلماء الجبال وعلماء الناس وعلماء الدواب وعلماء الأنعام ؛ أي أنهم علماء عالم الخلق (...ألاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ـ الأعراف 54). وثالث صفة لهم أنهم يخشون الله رب العالمين. والآية قالت أنهم يخشون الله ولم تقل أنهم يخشون الرب لتدل على عمق الخشية التي انتقلت بهم من عالم الخلق (رب العالمين) إلى الله سبحانه وتعالى بصفته إلههم الذي يعبدونه فهم من عباده، ويخشونه فهم من علماء خلقه. والآية أوضحت كيف يخشى هؤلاء العلماء الله بلفظ "كذلك" الذي يربط بين عملية تكون وتكوين الخشية وبين عملية تكوين الثمرات والجبال والناس والدواب والأنعام. وأشارت الآية الأولى السابقة أن الخشية مرئية لأن "كذلك" تربط أيضاً بين الخشية وبين "ألم تر أن الله ...".
هذا جزء يسير وقليل جداً ـ ألم أقل أنه إبتسار مقصود ـ من تدبر مقطع (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) أما الدكتور أحمد فلم يوضح ماذا يقصد لسان القرءان بلفظ العلماء وما الفرق بينه وبين لفظ العالمين ولماذا يخشى العلماء الله ولماذا قالت الآية الله ولم تقل الرب وما هي العلاقات الداخلية في هذه الآية بين الله والخشية والعلماء. ولحظتها ظننت أنه لا يعرف شيئاً عن منهج التشابه في القرءان ولا منهج التثاني (والمثاني) حتى يستعين بهما في تدبر الآية وليس (تفسيرها). ويبدو عليه أنه لا يفرق بين النهج التسويري في تدبر القرءان على مستوى السورة بصفتها وحدة قائمة بكينونتها والنهج الترتيلي على مستوى الكتاب وبالطبع فلا نطالبه أن يوضح للمستمع السوداني أو غيره المنهاج الفرقاني تبعاً لترتيب التنزيل والمنهاج القرءاني طبقاً لكتابة النبي صلى الله وملائكته عليه للقرءان.
التوفي والموت
ثم إنقطع ذكر الدكتور عني للأسف فلم أستمع إليه إلا قبل أيام حيث كنت في أيام شم النسيم في فرنسا وبقدر من أقدار الله استمعت إلى الدكتور أحمد علي الإمام في الإذاعة السودانية (أو راديو سوداني آخر) وهو يشرح الآية 60 من سورة الأنعام التي تقول (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). وبصفته عالماً تقليدياً ينقل مافي بطون الكتب فقد (فسر) التوفي المذكور في هذه الآية بالموت الأصغر فقلت ما بال عالمنا هذا لا يحسن تدبر القرءان العظيم رغم الإمكانيات المتوفرة له، ولحظتها تذكرت الدكتور حسن مكي الذي نصحني ألا أسجل للدكتوراة في جامعة القرءان الكريم لأنهم لن يقبلوني وسمعت نصيحته وأنهيت الفكرة من أصلها. ما علينا نعود إلى الدكتور أحمد علي الإمام و"تفسيره" للآية التي قال فيها أن التوفي (هو قال الوفاة) تعني الموت الأصغر ونسأله ألم يكن المتكلم في هذه الآية قادراً على أن يقول (وهو الذي يميتكم بالليل بدل يتوفاكم المذكورة في الآية)؟ وأين ورد مركب "الموت الأصغر" في القرءان وألا يجدر بالقرءان أن يذكر هذا المركب ما دام مهماً لدرجة أن يتمسك به (مفسرو) القرءان في حين أن القرءان ذكر "الموتة الأولى"؟ ولماذا الإصرار على جعل ألفاظ القرءان تتبادل فيما بينها لنجعل أن التوفي هو هو الموت والمنسأة هي هي العصا مع أن القرءان يفرق بين هذه الألفاظ التي لا تلتقي في جذورها أصلاً، ويفرق بدقةٍ متناهية بين جذوع الجذر الواحد في كل مستويات تصريفها وصياغاتها؟
الآية من سورة الأنعام التي تحتوي على أسرار عجيبة في عملية الخلق وإنزال الأنعام وألفاظ هذه السورة وكل ألفاظ لسان القرءان يوضحها لسان القرءان بنظامه الدقيق في العلاقات بين ألفاظه من غير حاجة إلى ترادف ولا مجاز (بالمعنى الشائع لهذه المصطلحات). ولنأخذ المقطع من الآية الذي حام حوله الدكتور أحمد الإمام (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ...).
القرءان ـ كما ذكرت سابقاً وأكرر ـ خطاب قبل أن يكون نصاً وفي الخطاب لا بد من تحديد المخاطِب والمخاطَب قبل أن ننظر في دلالة الخطاب. المتكلم في هذه الآية ليس الله سبحانه وتعالى وإنما (أحد) قوى التدبير الإلهي وقد يكون (أحد) الملائكة التي تمثل مجموعة جزئية من مجموعة قوى التدبير الإلهي وقوى التنفيذ الرباني والمخاطَبون هم الناس على إمتداد المعمورة (قد يضاف إليها جزء آخر من الكون يسكنه الناس مستقبلاً) وإمتداد الزمان وقد يدخل في مجموعة المخاطبين هذه يوماً ما خلق آخر لا نعلم عنه الآن شيئاً.والمجموعة المتكلمة تريد أن تلقي رسالة على المجموعة المخاطبة عن فاعل التوفية (غائب في خطاب هذه الآية) وجاءت الرسالة دقيقة حسب لسان القرءان. وللإقتراب من دلالة هذه الآية علينا الإنتباه لدقة الألفاظ في تصويتها (نظام الأصوات) وتصريفها (نظام بناء اللفظ) وتركيبها (نظام بناء الجملة والنص) حتى نصل إلى بعض أعماق تدليلها دلالةً وتداولاً. وأول ما يحسن بنا أن ننتبه إليه أن لفظ "يتوفاكم" لا يطابق لفظ "يميتكم" ولا علاقة بينهما من حيث الأصوات إلا في الصائت الواوي وإنما العلاقة بينهما هي علاقة تزامنية في سيرورة الموت كتاباً مؤجلاً المستمرة من النفَس الأول حتى بلوغ الأجل المسمى وتقطع التوفي المرتبط بالليل وفي المنام. وثاني لفظ يحسن بنا النظر إليه هو أداة "الباء" إذ أن الآية قالت (بالليل) ولم تقل (في الليل) وفرق كبير في لسان القرءان بين أداة (الباء) والأداة (في). وأرجو أن تنظر معي أخي القاريء إلى جزء يسير وقليل من تدبر موضوع "التوفي" في القرءان العظيم من غير أن نلم بكل تصريفات اللفظ وعلاقاته وإقتراناته التي سوف توفر لنا علماً نافعاً حول الإيفاء والاستيفاء والتوفية والتوفي إن نحن قصدناها بمنهج القرءان في تدبر القرءان. التوفية ارتبطت بإبراهيم الذي وَفَّى (النجم 37) وبتوفية الأعمال في الحياة الدنيا لمن يريدها (هود 15) وبتوفية الأجور وتوفية الدين الحق وتوفية الكسب وتوفية الإنفاق من الخير. أما الإيفاء فقد جاء مرتبطاً بعهد الله وبالعقود وبالنذور وبالكيل وبالكيل والميزان وبالمكيال والميزان. والتوفي يكون للأنفس حين موتها وفي منامها (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ـ الزمر 42). ورغم أن في هذا التفصيل ـ من إرتباط "حين" بالموت وإرتباط "في" بالمنام وإرتباط الإمساك بالأنفس التي قضى عليها الموت وإرتباط الإرسال بالأنفس التي لم تمت وذكر "الأنفس" وليس "النفوس" ـ آيات لقوم يتفكرون، فإننا للأسف لا نمارس التفكر في هذه الآيات. وفي هذه الآية (الآية 60 من سورة الأنعام) فالتوفية للأعمال يقوم بها الله سبحانه وتعالى في جملتها بواسطة الليل وليس في الليل وهذا يعني أن الليل هو وسيلة للتوفية وليس مكاناً لها إذ مكانها المنام. وقلنا أن الله يقوم بالتوفية في جملتها لأن بعض تفاصيل التوفية تقوم بها قوى "رسلنا" كما توضح الآية اللاحقة (...حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) أو تقوم بها الملائكة (إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ...) أو يقوم بها ملك الموت الذي وكل بنا (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ).
والسؤال من أين جاء الخلط بين الموت والتوفي؟
حقيقة الموت في كتاب الله القرءان العظيم لم يتدبرها المسلمون تدبراً قرءانياً ويعتقدون أن الموت هو مرحلة خروج "الروح" من "الجسد" خالطين بين النفس التي تموت والروح التي لا علاقة لها بالموت وخالطين بين الجسم والجسد والبدن. والموت يبدأ مع النفَس الأول حيث تتذوقه النفس في حياتها (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ـ آل عمران 185). وإنما التذوق للحي أم هل سمعتم بميت يتذوق؟ والإماتة والإحياء مرتبطتان في حياة الإنسان كما يرتبط الإبكاء بالإضحاك (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى / وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ـ النجم).والموت يدركنا في حياتنا ويجيء ولا يمكن أن ندرأه عن أنفسنا (ميِّت وميِّتون وموتى) حتى تكتمل شروط كتابه المؤجل فيتغلب على الحياة ويحضر (ميْت وأموات). أما علم المحيا والممات وعلم الحياة والموت وعلاقة الموت بالله وبالرب وبالملائكة وبالقتلى في سبيل الله فأدعوك عزيزي القاريء أن تتدبرها في كتاب الله مباشرةً ولا تظن في نفسك ظناً سيئاً أنك لا تحسن لسان القرءان الميسَّر وعليك أن تستيقن أن هذا القرءان خطاب حي مباشر (Live) لأحياء أمثالنا. ودعني أحاول أن أوضح لك من أين جاء الخلط بين الموت والتوفي.
التوفي يرتبط في مرحلته الأخيرة بالموت وهي آخر مرحلة للتوفي الكامل لجميع ما عملته الأنفس في الحياة الدنيا وتكون هذه المرحلة حين الموت، ولذلك نخلط بين التوفي والموت في لحظة التزامن هذه رغم وضوح كثير من الآيات في التفريق بينهما مثل (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) ولاحظ في هذه الآية التفرقة بين مجيء الموت والتوفية. وملك الموت يقوم بالمهمتين (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم) ولا حظ في هذه الآية أيضاً التفرقة بين التوفية والموت. ولكن أحياناً يتحدث القرءان عن التوفي (حين الموت) ويكون معنى الموت متضمناً في الآية ومسكوتاً عنه ومن هنا جاء الخلط من جانبنا بين التوفي والموت في الآيات التي تركز على التوفي أو التوفية مثل (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم...) لأن المهم هنا تَوفيتهم ما عملوا من ظلم لأنفسهم وقد كانت أرض الله واسعة أمامهم ليهاجروا فيها. وظالمو أنفسهم هؤلاء نوعان نوع تحصل معه التوفية (تَوَفَّاهم ـ النساء 97) ونوع يحصل معهم التَّوَفِّي(تَتَوَفَّاهم بزيادة التاء في البداية ـ النحل 28 ). ومن الآيات التي تزامن فيها التوفي مع الموت الآية 117 من سورة المائدة التي يتحدث فيها عيسى وهي (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
والله أعلم.
أتركك عزيزي القاريء في عناية الله وقد نلتقي وشكراً.