أدوار العمال والمزارعين في التحضير لثورة ٢١ أكتوبر ١٩٦٤

 


 

 

استهلال:
اكتسبت الحركة العمالية في السودان شرعيتها بعد الحرب العالمية الثانية، ففي عام ١٩٤٦ تكون أول تنظيم عمالي في عطبرة والتي بها مقر رئاسة عمال السكة حديد في السودان، أطلق عليه اسم هيئة شؤون العمال، والذي واجه تعنت الحكومة في عدم الاعتراف به فخرجت جموع العمال في موكب ضخم في الثامن من يوليو ١٩٤٧ لاجبار الحكومة الاعتراف بالهيئة وانتزاع قانونيتها، وترتب على هذا الموكب اعتراف الحكومة بحركة العمال النقابية واصدرت في عام ١٩٤٨ قانون تنظيمات نقابات العمال، وفي أغسطس ١٩٤٩ تكون مؤتمر العمال من هيئة شؤون العمال وأربع عشرة نقابة عمالية، والذي استبدل في عام ١٩٥٠ بالاتحاد العام لنقابات عمال السودان، وظل الإتحاد العام لنقابات عمال السودان يساهم في مجرى الحركة الوطنية ويعمل على محاربة الاحتلال البريطاني منددا بسياساته ومناديا بحق تقرير المصير ووحدة الشعب السوداني في جبهة موحدة لنيل الاستقلال.
بينما بدأت الحركة المطلبية لمزارعي مشروع الجزيرة مع إجراء التجارب الأولية له عندما تقدم المزارعون بعريضة إلى مدير مديرية النيل الأزرق احتجاجا على قرارات الشركة الزراعية المتعلقة بعلاقات الإنتاج، وفي عام ١٩٤٦ وقع أول إضراب منظم للمزارعين بسبب اموال الاحتياطي، فامتنعوا عن زراعة محصول القطن في موسم ١٩٤٦، ونتيجة لهذا الإضراب اضطرت الادارة البريطانية إلى تكوين الهيئة التمثيلية للمزارعين في عام ١٩٤٧ واستبدلتها في عام ١٩٥٢ بهيئة المزارعين، وغاية تلك التنظيمات امتصاص غضب المزارعين وتحركهم، ولكن هذا الحراك أطلق العنان لتكوين كيان نقابي للمزارعين، وانعكس أثره في مولد حركة نشطة وسط المزارعين طالبت بقيام تنظيم نقابي لهم فكان مولد إتحاد مزارعي الجزيرة في مطلع عام ١٩٥٤.
مقاومة العمال:-
في يوم الثالث من ديسمبر ١٩٥٨ أي بعد اسبوعين فقط من وقوع الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق ابراهيم عبود صدرت القرارات الخاصة بحل إتحاد نقابات عمال السودان وجميع النقابات المهنية، وتعطيل الصحف ومن بينها صحيفة الطليعة الناطقة باسم الإتحاد العام لنقابات عمال السودان، وهاجمت قوات البوليس(الشرطة) مكاتب الإتحاد واعتقلت عددا من القادة النقابيين على رأسهم الشفيع أحمد الشيخ السكرتير العام للإتحاد وآخرين ووجهت لهم الحكومة تهما، وكونت لهم محكمة عسكرية لمحاكمتهم ، وكانت التهم التي وجهت للقادة النقابيين تتمثل في عقد اجتماع غير مشروع في مكاتب صحيفة الطليعة، والاتصال بجمعية غير مشروعة وهي إتحاد النقابات العالمي، وفي بداية الأمر وضعت القضية امام القضاء المدني ،ولكن سرعان ما حولت إلى القضاء العسكري، ونقل القادة النقابيون إلى السجن الحربي، واحيطت المحكمة بسرية مطلقة، وواصلت إجراءاتها وأصدرت احكامها في التاسع والعشرين من يناير ١٩٥٩ بالسجن خمس سنوات للشفيع احمد الشيخ وآخرين.
ووجدت المحاكمة صدى عالميا إذ ارسل إتحاد النقابات العالمي برقية إلى الحكومة السودانية ندد فيها بالاحكام، ودعا إلى احترام حقوق العمال في التنظيم النقابي الحر،وفي إقامة العلاقات الخارجية مع الاتحاد العالمي للنقابات وكل نقابات العالم وفقا لارادتهم واستقلاليتهم لقد كانت تلك المحاكمة أول محاكمة عسكرية تقام لمدنيين، وادت إلى فضح النظام وتعريته وكانت الشرارة الأولى لمواجهة العمال للنظام العسكري.
وشكلت المحاكمة العسكرية للعمال معلما من معالم المقاومة السودانية للنظم الاستبدادية، وأمام هذه الضغوط تراجعت الحكومة وسمحت للنقابات إعادة تكوينها وفقا لقانون ١٩٦٠.
وبعد اكتساب العمال لحق الانتظام في نقابات، اخذو من جديد يتحفزون للصدام مع الحكومة العسكرية، فجاء الإضراب التاريخي الذي اعلنته نقابة عمال السكة حديد في الفترة من ١٧__٢٤ يونيو١٩٦١ رافعا مطالبهم المتمثلة في إلغاء قانون العمل والعمال لسنة ١٩٦٠ والعودة إلى قانون ١٩٤٨،وزيادة الأجور، وتعديل الكادر العمالي، ورفع حالة الطواري.
وادرك النظام العسكري مدى الآثار السياسية التي سوف تترتب على هذا الإضراب، فبذلت الحكومة جهدها للحيلولة دون وقوعه مستخدمة مختلف الوسائل وعندما تأكدت من تصميم العمال على تنفيذ الإضراب، قامت بحل نقابة عمال السكة حديد قبل ثلاثة أيام من موعد الإضراب، واشهرت سلاح الإرهاب والتخويف،ورغم كل ذلك نفذ عمال السكة حديد اضرابهم المعلن باجماع كامل تحت شعار(لا تراجع عن الإضراب لا خطوة واحدة للوراء)،ومن الآثار التي ترتبت على هذا الإضراب ان تحركت الأحزاب السياسية لمواجهة النظام مواجهة مباشرة مما دفع الحكومة لنفي زعماء تلك الأحزاب إلى جوبا في الثاني عشر من يوليو ١٩٦١.
وشهدت حركة العمال النقابية صعودا مستمرا لمواجهة النظام فاتسعت الإضرابات للمطالبة بتحسين الأحوال المعيشية وارتفع سقف المطالب والحكومة تراقب ذلك الصعود في خوف ووجل ولجات الحكومة للاستعانة بالمؤيدين لها وسط العمال وعقد مؤتمر عمالي مفاجيء وانعقد ذلك المؤتمر في اغسطس ١٩٦٣ ولكنه تحول إلى مظاهرة ضد الحكومة وعناصرها وسط العمال، فكتبت صحيفة السودان الجديد في عددها رقم ٤٩٧٠ الصادر يوم السبت السابع عشر من أغسطس ١٩٦٣ (انعقد مؤتمر مجالس إدارات نقابات عمال السودان بنادي العمال بالخرطوم وحضر المؤتمر اكثر من ستمائة عضوا من مندوبي النقابات والمراقبين، كما حضره محمد عبدالحليم مدير مصلحة العمل وعدد من المسؤولين من مكتب العمل،ومثلت في المؤتمر ٤٣ نقابة، وطالب مندوبوا النقابات بقيام إتحاد عام لنقابات عمال السودان والسماح لنقابة عمال السكة حديد بتكوينها من جديد، كما طالب المؤتمر بتعديل قانون ١٩٦٠والمساهمة في تكوين إتحاد عام لعمال أفريقيا)ونتيجة لكل تلك الجهود تراجعت الحكومة واصدرت قراراتها في نوفمبر ١٩٦٣ الخاصة بالحركة العمالية إذ وافقت على عودة نقابة عمال السكة حديد، وعلى قيام إتحاد عام للنقابات، وعلى تعديل قانون العمل والعمال لسنة ١٩٦٠. فكانت هذه القرارات انتصارا للحركة العمالية ونضالاتها المتراكمة. وحددت الحكومة الخامس والعشرين من مايو ١٩٦٤ موعدا لانتخابات نقابة عمال السكة حديد والتي حدث فيها تدخل سافر من قبل الحكومة أدى إلى تزييف ارادة العمال، غير انها كانت تجربة مفيدة للعمال اقنعتهم بأن الصراع داخل الحركة النقابية ليس صراعا بين تيارات عمالية فحسب بل هو صراع بين العمال وبين النظام العسكري وتوالت الأحداث وقررت الحكومة في اغسطس ١٩٦٤ إنعقاد المؤتمر العام لنقابات عمال السودان فاستعد العمال لهذا المؤتمر ونظموا صفوفهم،غير أن الحكومة تراجعت عن هذا في اللحظات الأخيرة واصدر وزير العمل والاستعلامات قرارا بحل اللجنة التمهيدية للإتحاد وتعطيل إجراءات الانتخابات.
وهكذا تراجعت الحكومة امام الضغط العمالي الصارم وفشلت محاولاتها في تصفية الحركة العمالية، بل على العكس ظلت حركة العمال في صعود مستمر وتماسك متين والبلاد على أعتاب ثورة ٢١ أكتوبر والتي كان العمال في طليعتها.

مقاومة المزارعين:-
كانت نظرة الحكومة العسكرية لاتحاد مزارعي الجزيرة نظرة مغايرة لما اتخذته تجاه الإتحادات والنقابات المهنية الأخرى، وذلك لطبيعة علاقة الشراكة بينهما ،فلم تحل السلطة العسكرية الإتحاد بل عملت على احتواء نشاطه وتحجيم دوره الوطني، وازاء هذا الموقف المهادن تحركت القيادة التاريخية المؤسسة للإتحاد متجاوزة اللجنة التنفيذية وتقدمت بمذكرة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وذلك في عام ١٩٦١ وطالبت المذكرة بحل الإتحاد وإجراء انتخابات جديدة بعدما فقد الإتحاد شرعيته وتجاوز دورته المنصوص عليها في دستوره ،كما طالبت المذكرة بتحسين أحوال المزارعين، وكفالة الحريات العامة، وفور إستلام المذكرة قامت السلطات باعتقال القادة التاريخيين للإتحاد الأمين محمد الأمين ويوسف أحمد المصطفى، والطيب البشير الدابي،وعبد الله محمد الأمين برقاوي، وعبد الرحمن الماحي، وقدموا إلى محاكمة عاجلة بالحصاحيصا شهدت تجمعا شعبيا كبيرا، واصدرت المحكمة حكمها بتبرئة ساحة المزارعين لعدم كفاية الأدلة واعتبار ان المذكرة مذكرة مطلبية فقط.
وللحد من تنامي المعارضة للحكومة في أوساط المزارعين تم اعتقال كل من يوسف احمد المصطفى، وعبد الرحمن الماحي بوصفهما اكثر عناصر المزارعين نشاطا اعتقالا تحفظيا بسجن كوبر.
وتفاعل المزارعون في مشروع الجزيرة مع مذكرة الجبهة الوطنية المتحدة والتي تكونت من احزاب الأمة والوطني الاتحادي والشيوعي السوداني، المناهضة للنظام والتي طالبوا فيها بتكوين حكومة مدنية، وعودة الجيش إلى ثكناته، فأرسل المزارعون برقية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة استنكروا فيها اعتقال قادة الجبهة الوطنية، وجاء رد الحكومة سريعا باعتقال كل من وقع في المذكرة ومحاكمته.
ونتيجة لاتساع المد المناهض للحكومة العسكرية وسط قطاعات الشعب السوداني وجد إتحاد مزارعي الجزيرة نفسه معزولا، فعقدت اللجنة التنفيذية للإتحاد اجتماعا في فبراير ١٩٦١ تمخض عنه إعداد مذكرة ضافية تقدم إلى وزير المالية والاقتصاد تتضمن مطالب المزارعين المهنية، وتمثيلهم في مجلس ادارة المشروع واوفد الإتحاد ستة من أعضائه إلى الخرطوم للتفاوض مع وزير المالية حول بنود المذكرة وانعقد اجتماع مشترك مع الوزير نتج عنه تكوين لجنة لدراسة مطالب المزارعين.
ولتردي أحوال المزارعين المعيشية وبؤسهم الناتج عن تدني اسعار القطن عالميا ومماطلة الحكومة في الاستجابة لمطالبهم، بدأت ارهاصات الثورة تدب في وسطهم متجاوزة لاتحادهم فتكونت اللجان السرية على مستوى المشروع تحت قيادة وتنظيم حركة المزارعين الديمقراطية، وفي أغسطس ١٩٦٣ توقف المزارعون في تفاتيش فطيس واسترحنا والعمارة كاسر عن التوجه الى حقولهم ومزوالة اعمالهم فحدث إضراب جزئي في المشروع ،قابلته الحكومة بموجة من الاعتقالات لقيادات المزارعين، ونتيجة لتدهور الأوضاع ومعاناة اهل الجزيرة فقد توفرت الاسباب والمبررات لوحدة المزارعين وتماسكهم فتقدمت مجموعة منهم وأعدت مذكرة قدمت إلى اللجنة التنفيذية للإتحاد مطالبة بعقد المؤتمر العام للمزارعين وذلك لإختيار عناصر جديدة تتولى زمام الامر،ولكن قيادة الإتحاد ومن خلفها الحكومة رفضت فكرة إنعقاد المؤتمر مما حدا بالمزارعين جمع توقيعات للمطالبة بانعقاده،وترتب عن هذا الضغط الاستجابة لمطالب المزارعين، وتقرر إنعقاد المؤتمر العام في الثلاثين من ديسمبر ١٩٦٣، وسرعانما تناقل الناس خبر قيام المؤتمر العام للمزارعين، فاعدوا أنفسهم لهذا الحدث الكبير، وانتهزت الأحزاب السياسية هذه السانحة وتحويلها الى معركة سياسية لمناهضة النظام، وبالفعل توافدت اعداد كبيرة من المزارعين حاولت السلطات منعهم من حضور المؤتمر، ولكن بسالة وجسارة المزارعين وتصميمهم فاقت كل تصور فقد تمكنوا من تهشيم أبواب قاعة الإجتماع مندفعين لدخول دار الإتحاد وعلت هتافاتهم منادية بالإضراب ما لم تلبي الحكومة مطالبهم، وأمام هذا الزخم الثوري أجبرت قيادة الإتحاد على إعلان الإضراب، وسارعت الحكومة باعتقال الأمين محمد الأمين، مما نجم عنه اندلاع المظاهرات المنددة بمسلك الحكومة تجاه المزارعين وقادتهم، وطالبوا بإطلاق سراح الأمين كشرط لإنهاء الإضراب، وأمام تعنت الحكومة واصرارها انتظم المزارعون في مشروع الجزيرة والمناقل في إضراب مفتوح، واصدرت قيادة الإتحاد بيانا اوضحت فيه ان الإضراب هو طريق الخلاص وأنه الأمل الوحيد لمستقبل زاهر للمشروع ومزارعيه وهو الطريق الأفضل لحياة كريمة لمزارعي المشروع، وتجاوب المزارعون مع الإضراب، فانعقدت اللقاءات السرية والعلنية التي خاطبها وأشرف عليها نفر من القادة التاريخيين لحركة المزارعين الديمقراطية، ففي قسم وادي شعير خاطب داؤود عبدالجليل لقاءا جماهيريا حث فيه المزارعون على التمسك بمطالبهم وحي نضالهم وكفاحهم، وفي تفتيش الركن مارس المسؤولون ارهابا لكبح جماح المزارعين، إلا أن تصميمهم وتماسكهم كان كبيرا، وأخيرا استجابت الحكومة لمطالب المزارعين وقررت إجراء الإنتخابات عقب الانتهاء من جني محصول القطن لموسم ٦٣-١٩٦٤، والتي اكتسحتها قائمة حركة المزارعين الديمقراطية بقيادة الأمين محمد الأمين.
وصفوة القول عن أدوار العمال والمزارعين في التحضير لثورة أكتوبر أكد صحة مقولة ان الحركة الجماهيرية إذا ما توحدت تستطيع أن تحقق مكاسب عديدة،وأن النضال والكفاح الذي شنه العمال والمزارعين في وجه النظام العسكري من أجل المطالب الفئوية والحريات العامة هو السبيل الوحيد لرص صفوف الشعب السوداني ووحدته في جبهة وطنية ديمقراطية وتجميع كفاحه والتدرج به حتى يصل إلى مستوى الإضراب السياسي العام ،وأكدت تجارب اضرابات العمال المتعددة واضراب المزارعين في عام ١٩٦٣ ونضالاتهم وما تحقق فيهما من مكاسب صحة هذا القول.

 

adilali62@gmail.com

 

آراء