أراضي الجزيرة: هكذا بدأت فلسطين
أراضي الجزيرة...
هكذا بدأت "فلسطين" ... وهكذا بدأت رحلة "النعوش الطائرة" من بغداد!!! (*)
Elsidieg Abashera [siddiq01@gmail.com]
اخذت الأوضاع والصراع في منطقة مشروع الجزيرة منحاً مختلفاً بعد ان قامت سلطة الإنقاذ بتطبيق قانون المشروع المعروف بـ"قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005م". وهو قانون إنطوت مادته ونصوصه، ومن ثم الأفكار التي كمنت وتكمن من ورائها على اسبابٍ من الكفاية بمكان لإشعال فتنةٍ قد تحول مسار التاريخ وبكل جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ليس بالنسبة لمنطقة الجزيرة وحسب وانما لبلادنا كلها.
إن من بين اكثر ما ميز هذا القانون عما سبقه هو سؤال الارض وملكيتها في المشروع. هذا القانون لم يكن القانون الاول الذي يتناول مسألة "نزع الاراضي"، إلا انه الأول من حيث الجمع بين "نزع الاراضي" وتمليكها كـ"حواشات"، ومن ثم النص على حرية التصرف فيها بـ"البيع او الرهن أو التنازل"!!!. وهذه الأرضية ذات الثلاثة اعمدة، النزع والتمليك وحرية التصرف، تضمَّنها الفصل الرابع في القانون ، والذي استحق ان يطلق عليه إسم "الفصل الذهبي"، لانه، اي الفصل الرابع، لخص روح وهدف ذلك القانون. فمبدأ نزع الأراضي من مالكيها ومبدأ تمليكها للآخرين بمنْ فيهم المستثمرون الأجانب ومن ثمّ مبدأ التصرف فيها، كلها مبادئ تعمل في إتساقٍ وثيق، حيث أنه لابد من ملاحظة حقيقة انه ومنذ صدور "قانون أرض الجزيرة لسنة 1927م"، والذي صدر في يوم 15 يوليو 1927م، لم تجرأ اي سلطة، وبما فيها سلطة الاستعمار، على وضع هكذا مبادئ ومن ثم الجمع بينها، وذلك لا لاي سببٍ آخر سوى أن ملكية الارض كانت تُعامل على الدوام بحسبها حقاً مقدساً لا يفت من عضده إلا مبدأ سامي واحد ألا وهو مبدأ "المصلحة العامة". ولكن في حال موضوع قانون سنة 2005م وأراضي الجزيرة هل بيّنَ ذلك القانون طبيعة تلك المصلحة؟ وهل يمكنه، في الاساس، ان يصيغ مبدأ للمصلحة العامة؟. لن يستطع المشرعون الافصاح بذلك، لأنهم يعلمون أن بيع أرض الوطن للمستثمرين الأجانب لا يصب في خانة "المصلحة العامة" ولو كانت تلك الارض في غفار "بيوضة"، دعك عن ان تكون اراضي الجزيرة التي يرجع تاريخ امتلاك الكثير منها، وبشكلٍ معروف، إلى ما قبل العام 1560م!!!.
لفهم ما يجري بخصوص اراضي مشروع الجزيرة لابد من الوقوف ولو حيناً للإستزادة بإضاءة تاريخية يسيرة لما قد حدث وقت التحضير لقيام مشروع الجزيرة. كانت الادارة الاستعمارية تتداول وفي تبصرٍ عميق مسألة الاستعانة بشركات خاصة أوروبية وذلك لاجل توفير التمويل اللازم لقيام المشروع لان الاهالي والمواطنيين ملاك الأراضي بل والدولة نفسها ليست لديهم الوفورات المالية اللازمة للاستثمار. كانت الادارة مقتنعةّ بضرورة إستقدام شركات القطاع الخاص الاوروبية، إلا انها كانت تخاف مغبة استمرار تلك الشركات في امتلاكها للارض ورفض إعادتها لملاكها الاصليين من اهالي المنطقة، وفي هذا الشأن كتب اللورد "إدوارد سيسل" الذي كان متحمساً لاشراك الرأسمال الاوروبي، قائلاً/ " إن السياسة الرائدة للحكومة يجب ان تكون مشجعة لشركات الاراضي وذلك وفق شروطٍ عادلة تساعد على تحقيق ارباحٍ معقولة مع مراعاة حفظ حق الملاك المحليين في التعويض الضروري والعادل المترتب على اخذ أراضيهم في سبيل إنشاء مزارع واسعة وفاعلة إقتصادياً. ولكن على سياسة الدولة المستقبلية ان تسهل إعادة نقل تلك الأراضي من الشركات إلى أصحابها الاصليين من المواطنيين". ولكننا نجد، أنه وبالرغم من هذا القول المقرون بتوفير الضمانات فيما يخص الأرض وملاكها، نجد أن مدير الزراعة في الادارة الاستعمارية يبدي شكه وريبته نحو تلك الشركات المشار إليها وليكتب قائلاً/ " ومن تجربتي في البلدان الاخرى....لا يمكننا ان نعوِّل على إرجاع تلك الاراضي المُشتراه بواسطة الراسماليين الاوربيين إلى المواطنيين. إن مساحاتٍ واسعة من الاراضي العقارية في كلٍ من الهند وسيلان قام الاوربيون والادارات في تلك البلدان بالاحتفاظ بها وليس هناك من بارقة امل في ارجاعها للمواطنين الاصليين... وبهذا فلديَّ قناعة بان صغار المزارعين المحليين سيختفون، ثمَّ ان الاراضي المروية ستذهب في حيازة الرأسماليين المحليين وقد ينتهي بها المطاف لتكون في أيدي الاوربيين كذلك"( كتاب المستر آرثر جتسكل "الجزيرة...قصة تنمية في السودان"، الصادر في عام 1959م، ص 46).
هذه الاشارة التاريخية تفصح عن طرفٍ من ارث الفلسفة التي قامت عليها سياسة التعامل مع سؤال الأراضي وملكيتها في الجزيرة. وبالنظر مليئاً إلى هذه الإشارة، يشعر المرء بالأسى حين المقارنة بين "الطريقة الاستعمارية" في التعامل مع ملكية الاراضي وبين "الطريق الإنقاذية" في ذات الشأن!. إن موقف الادارة الاستعمارية حيال سؤال الاراضي كان محكوماً بالنظر البعيد فيما يخص الاستقرار، وبالفعل فلقد كان ذلك عاملاً ذا اثر في استقرار وتطور النشاط الزراعي في البلاد وخاصةً في مشروع الجزيرة. وبالمقارنة، فإن موقف سلطة الانقاذ الحالي جاء محكوماً بقصر النظر وبسوء التقدير لمآلات فتح الابواب دون حجر امام الملاك الاجانب!!!.
إن السؤال الذي سيظل قائماً هو ما المعنى في ان تُنتَزع الاراضي من مالكيها باسم الصالح العام ليتم تأجيرها او بيعها للاجانب؟ ألا يمكن وبنفس المنطق ان تتم إجارة الارض من مالكيها مباشرةً للمسثمرين، إن كانوا محليين او اجانب، وتحت إشراف الدولة إن هي ارادت، بدلاً من ان يتم نزعها من اهلها وبشكل نهائي؟!.
على ملاك الاراضي في مشروع الجزيرة ان يتمسكوا بارضهم لان ليس هناك من مصلحة عامة واضحة تبرر نزعها منهم. وعليهم ان يتمسكوا بمبدأ اجارتها فقط مع تاكيد مطالبتهم بحقوق الاجارة التي لم يتم دفعها طيلة العقود الماضية. فمن العدل بمكان ان يعطى الملاك حقوقهم، كما وانه من الظلم بمكان مصادرة ذلك الحق.
وفي مقام فرض إستقدام الاجانب للاحلال بدلاً عن مزارعي مشروع الجزيرة لابد من التذكير بحقائق ماثلة يصعب غض الطرف عنها. إن الإغتصاب، كما هو معلومٌ، ليس وحده هو الذي تسبب في صياغة المأساة التاريخية لشعب فلسطين وإنما الثابت وثوقاً أن عدداً من الفلسطينيين انفسهم قاموا بتمليك أرضهم لـ "الغير" و"الاجانب" عن طريق "البيع والرهن والتنازل"!!!. أوليس ذلك هو عين ما يوصي به ويحرض عليه، باسم "حرية التصرف"، قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005م؟. إن سلطة الانقاذ تود ان يسلك الناس في الجزيرة الطريق ذاتها، تلك الطريق التي، نحن نعلم بل والكل يعلم انها لن تؤدي إلى نهايات غير التي "ينعم" بها الفلسطينيون الآن، إن كان بالفعل ما يعايشونه الآن نعمة؟!!!.
وفي السياق نفسه لابد من التذكير ايضاً انه قد حدث ان عنَّ للرئيس صدام حسين، في سبعينات القرن الماضي، ولاسبابٍ تتعلق بنظامه وبفهمه لتوازناتٍ وهمية لا علاقة لها إن كان بتاريخ الشعب العراقي أو بإرثه، عنَّ له ان يستقدم ما يقارب المليون مصري إلى ارض العراق، ومن ضمن ما خُطِّطَ لهم لاجل القيام به العمل في الزراعة!!!. أي نعم، ان يعمل المصريون في مجال الزراعة في العراق، في بلاد الرافدين التي ترجع حضارتها تلك التي قامت على النشاط الزراعي اصلاً إلى الآلاف من السنين قبل الميلاد!!!، تلك الحضارة التي انتجت للبشرية اول قانون مكتوب على إطلاقه!!!. سمح لهم النظام ليس فقط بالتمتع بالحقوق مثلهم والمواطنين العراقيين بل انه سمح لهم بالتجنس أيضاً. ولكن الذي حدث فيما بعد قد كذب تلك الاوهام، وتسبب في حدوث ما يشبه الكوابيس، حيث إنداحت المذابح واخترقت انباء "النعوش الطائرة" جدران التستر والكتمان. فيا ترى، هل هناك من عظةٍ في هذه الحقائق الماثلة يمكن التمسك بها؟!!!.
ــــــــــــــــــــــــــ.
(*) جريدة الأيام 1 نوفمبر 2010م.