أزمة اليقين في المجتمع السوداني وارتباطها بالصراع علي السلطة والثروة!!

 


 

 

تواجد قدر من اليقين بما هو آتي في المستقبل، بعد الحياة، أو أثناء الحياة في المحيط الاجتماعي المباشر من الرغبات الأساسية عند الإنسان. ويعبر الإنسان عن هذه الرغبة في تطلعه الدائم لإحقاق وللحصول علي الموثوقية، وعلي الثقة، وفي نشاطه الدؤوب لتقليل المخاطر علي حياته، وجعل ما يصعب التنبؤ به محدوداً في حياته. لذلك تعتبر رغبة الحصول علي اليقين من المكونات النفسية المرتبطة بدافع الفعل من أجل تحقيق شروط حياة آمنة وميسرة في ظل شروط وإطر قانونية وسياسية واقتصادية مستدامة.
وبينما يعتبر تواجد اليقين من الرغبات الأساسية عند الإنسان والإحساس به مكون ثابت في تركيبتة النفسية، تعتبر العوامل الإجتماعية والثقافية والسياسية المؤثرة في تواجده غير ثابته. هنالك حقبات في تاريخ المجتمعات تلبي تطلعات وسعي الإنسان في الحصول علي قدر من اليقين في حياته اليومية وفي الستقبل القريب والبعيد، وهناك أوقات تفقده الإحساس به. ويرتبط قدر تواجد اليقين والإحساس به بإستقرار الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي وازدهارها الثقافي، وإحقاق العدالة القانونية والاجتماعية، واستتباب الأمن المجتمعي.
سياسياً تؤدي سيادة حالة عدم اليقين بالمستقبل في المجتمع الي نتائج سلبية على الواطن والدولة: وذلك لأن اليقين عند الإنسان بما هو آتياً في المستقبل يمثل جزءاً اسياسياً في تركيبته النفسية، ويتأثر إقباله علي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بمقدار ما يحس به من يقين بمستقبل حياته. في هذا السياق يحمل فقد اليقين بمجري المستقبل في طياته دينماكية خطيرة، خصوصاً عند الأجيال الناشاءه: تتمثل من جانب في الإحساس بالعجز المرتبط بالإستسلام للامر الواقع واللامبالة بما قد تصل إليه الأمور في مجتمعة، أو تجعله فريسة سهله للاغواء السياسي من قبل المجموعات المتطرفة، مثل مجموعات الاسلام السياسي أو المجموعات التي تستغل "سياسة الهوية القبلية والجهوية الجماعية" للحصول على مكاسب سياسية ومادية، والتي توعد بحلول سهله لقضايا معقدة، ومن جانب آخر في أحتمال لجوء مجموعة أو مجموعات لسلك طريق العنف المسلح لتغير مجري الأمور.
جذور أزمة اليقين في المجتمع السوداني تمتد الي فجر الإستقلال السياسي بتفجر الصراع بين القوي السياسية والمجموعات الاثنية والقبلية والجهوية المختلفة علي السلطة والثروة. وبعد العيش منذ الإستقلال السياسي في حالة عدم اليقين مثلت الفترة الزمنية المحددة بعد إسقاط نظام المؤتمر الوطني في 10 أبريل 2019 الي حين حدوث الإنقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 وضع وفرصة منقطعة النظير لتحقيق الاطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والثقافية اللازمة لتحقيق الشروط اللازمة لإحداث قدر من اليقين في المجتمع السوداني وإعادة الإحساس به عند المواطن. وألان، وبعد سبعة أشهر من أنقلاب 25 أكتوبر العسكري على السلطة المدنية وإيقافه لعملية تحول الدولة الي نظام الحكم المدني الديموقراطي التعددي، وتحت الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، والقتل اليومي للمواطنين في دارفور، وممارسة قتل المتظاهرين السلميين، وأغتصاب النساء المشاركين في الإحتجاجات السلمية، والاعتقال التعسفي، والتفتيش والرقابة خارج القانون من قبل المنظومة الأمنية، وسيادة الإفلات من العدالة والمحاسبة القانونية لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، تتفاقم في المجتمع السوداني أزمة اليقين، وفقد المواطن في كل بقاع البلاد الإحساس بما هو آتي غداً.
في ذلك الوضع تلعب بجانب حالة الإنهيار التي تعيشها الدولة، أيضاً الأزمات العالمية، كجائحة كوفد- 19 (كورونا)، والإنتقال المناخي، والحرب في أوكرانيا دوراً ليس بالقليل. وهبطت جائحة كورونا علي البلاد وهي تعاني من اوضاع سياسية واقتصادية وأمنية في غاية الصعوبة. وينعكس هذا الوضع علي النظام الصحي في شكل فقده للحد الأدنى للموارد المادية والبشرية والادارة الفعالة. ولم تزيد جائحة كورونا فقط من عدم اليقين، بل أظهرت حجم انهيار النظام الصحي في البلاد علي مستوي الكوادر المؤهلة وقلتها، وضعف الإدارة والمؤسسات والمؤن. الأمر الذي يترتب علية أعتماد البلاد كلياً على المساعدات الخارجية لتأمين الحد الأدني من الرعاية الصحية، ولمكافحة الجائحة علي المدي البعيد.
وجاءت جائحة كورونا في ظروف يعاني فيها المواطنين، خصوصاً في المناطق التي ترزح تحت النزاعات القبلية المسلحة، ويعاني فيها النازحين واللاجئين من ضعف بدني ونفسي جراء إنعدام أبسط الشروط الغذائية والصحية والسكنية والأمنية لتزيد من العناء الجسدي والنفسي عندهم. بجانب الآثار الصحية مثلت (ولازالت تمثل) جائحة كورونا عائقاً للنمو الاقتصادي في الدولة. تراجع النمو الاقتصادي جراء القفل الداخلي والخارجي وحظر التجول والحجر الصحي أدا الي تزايد في ارتفاع العطالة وبذلك تذايد في مستوى الفقر، خصوصًا، لدي الطبقة العاملة في القطاعات الهامشية والتي تعتمد علي الدخل أو الأجر اليومي لشراء الآكل والشرب وغيره من مستلزمات الحياة. في هذا المضمار يشير كثيراً من الخبراء والباحثين في مجال الاوباء والأمراض المعدية الي تواجد البشرية في "عهد الجائحات" (century of the pandamics). الامر الذي يعني تزايد مواجهة البشرية لحديات الصحية في المستقبل، خصوصاً الدول الفقيرة. في ظل هذه التوقعات الصحية، وعجز النظام الصحي في السودان للقيام بالحد الأدنى من الإجراءات الوقائية والعلاجية تتزايد التحديات الصحية والاقتصادية علي المواطن وتفاقم من أزمة اليقين في المجتمع السوداني.
بجانب جائحة كورونا، وحسب آراء كثيراً من الخبراء والمراقبين يعتبر التغيير المناخي جراء تسببه في أرتفاع درجات الحرارة في كوكب الأرض، وفي تزايد مخاطر الجفاف والفيضانات والعواصف علي الإنتاج الزراعي والحيواني من المسببات الأساسية لأزمة اليقين عند المواطنين علي مستوي العالم. بجانب ظاهرة النزوح، وحسب تقرير لعلماء وباحثين من 40 مؤسسة علمية وجامعات ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة، والمنشور في Lancet-Countdown-Report لهذا العام، تساعد تغيرات المناخ، والآثار المترتبة عنه علي أنتشار الأمراض، وتهدد نجاح المجهودات المبذولة لمكافحة كثيراً من الأمراض، مثل الكوليرا والملاريا. كذلل يشير التقرير الي دور الجفاف وحرائق الغابات، في تهديد الأمن الغذائي، وبذلك أنتشار سواء التغذية. ومع تذبذب وتقلص هطول الأمطار، وتقلص مساحات الأراضي الزراعية والرعوية يتذايد في الأقاليم المتأثرة بهذه الظواهر، النزاعات بين السكان علي الماء والكلا، وتصل في بعض المناطق الي نزاعات مسلحة، كما يجري في دارفور. وبلغ عدد المتأثرين بهذه الظواهر علي مستوي العالم الي ما يقارب 2 مليار إنسان في عام 2019، مع توقعات بإذدياده في السنين القادمة. وذلك، ومع العلم أن 70% من المتأثرين بقلة الغذاء والجوع يعيشون في الأرياف ويعتمدون علي الزراعة والرعي وصيد الأسماك لإكتفائهم الذاتي ولايملكون مدخدرات لتجاوز النقص في الإنتاج الناتج عن تقلبات الطقس.
ويعبر فقدان اليقين في المجتمع السوداني عن نفسه تحت الأوضاع الأمنية والصحية والطبيعية الهشه في شكل: سيادة توقعات إنهيار الدولة السودانية الموحدة وإنضمامها الي معسكر الدول الفاشلة، مثل الصومال واليمن وسوريا وليبيا.. الخ، وفقدان الثقة في المنظومة الامنية والعسكرية والعدلية، وفي الاحزاب السياسية وفي الصفوه السياسية المدنية. ويعبر عن أزمة اليقين أيضاً أنتشار ظاهرة خطاب وسياسة "الهوية الاثنية والقبلية والثقافية والدينية والجهوية الجماعية" في المجتمع السوداني وتسود عند المواطن حالة التوتر النفسي بسبب الخوف من خفايا المستقبل، ويتزايد انحصار الأقبال على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وإستمرار هجرة الكوادر المؤهلة، وإنتشار ظاهرة مغامرات الشباب بأرواحهم من أجل الهجرة الي أوربا عبر البحار، وهجرة الطبقة الوسطى من أجل الإستقرار في بعض دول المحيط الإقليمي، وإنحصار تحفذ الشباب علي مواصلة التعليم او تأسيس أسرة .....الخ،. ويظهر إنعكاس حالة انعدام اليقين في المجتمع السوداني في الفقد المراقب للقيم التقليدية والدينية المتمثلة في الامانة والصدق والتعفف...الخ. ومن آثار عدم القين علي الاقتصاد إحجام رأس المال المحلي والأجنبي عن الإستثمار الإنتاجي، وهروب رأس المال المحلي الي الخارج، وتزايد النشاط الاقتصادي الهامشي والاحتكاري والمضاربة في العملة والأراضي والعقارات.
أرتباطاً بالنتائج والتحورات الاجتماعية الجذرية للمواطن السوداني في ظل عيشه في حالة عدم اليقين وتداعيات ذلك علي الدولة، يأتي السؤال عن أسباب "تفريط " الشعب السوداني في الوضع الدستوري الذي انقلب عليه المكون العسكري في 25 أكتوبر 2021، والذي قدم من أجله الآلاف من الأرواح والتضحيات لأكثر من نصف قرن لكسب حقه في أختيار الشروط والأسس السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية التي يريد أن يعيش تحتها. كذلك يأتي السؤال في هذا السياق عن آفاق تكثيف قوى الفعل من أجل إرجاع الوضع الدستوري الي ما كان عليه عشية الأنقلاب العسكري لتحقيق الشروط والأسس اللازمة لبداية عهد جديد يسود فيه الإحساس باليقين بمستقبل الحياة.
وترتبط الإجابة علي هذه الأسالة بوضع إعتبار للثوابة الآتية: عدم اليقين في مجتمع معين لا يعني عدم أمكانية حدوث لتوقعات، سواء ان كانت تغيرات سياسية او صحية أو طبيعية، وإن أزمة اليقين في المجتمع وضع تظهر فيه أن التغييرات والهداف المنشودة لا تأتي من تلقاء نفسها (أي لا يهبط من السماء)، وإن إستمرارية هذه التغييرات والآهداف غير مضمونة التحقيق من غير العملية الفعلية للإنسان. ويعني هذا ان الخروج من أزمة اليقين يتم فقط عن طريق الإعتماد الأساسي علي الفعل من أجل خلق شروط تلبي رغبة الحصول علي اليقين والإحساس به عند الإنسان. وللقيام بدوراً فعّالاً في التأثير علي شروط ومجري الحياة الذاتية والعامة يجب القيام بنظرة ناقدة للماضي الذي لعب دوراً في أزمة اليقين القائمة.
في حالة الدولة السودانية يستلزم الوضع الحالي المتمثل في غياب كامل للأطر والأسس التي تقوم عليها دولة المواطنة والقانون والحرية السياسية والفردية، وتهيمن علي سياسة واقتصاد الدولة فيئة محددة بقوة السلاح "تغييراً جذرياً". ويرتبط كيفية وشروط إحداث التغيير الجذري بعوامل سياسية عدة، بعضها داخلية وأخري خارجية. ويعني هنا بالكيفية: اليات أو ادوات التغيير، والأفق الزمني لإحداثه. في هذا الصدد حددت ثورة ديسمبر المجيدة أدواتها المجربة تاريخياً والمتمثلة في السلمية عبر المواكب والمسيرات السياسية، والإضراب السياسي عن العمل، والعصيان المدني. وذلك رغم تأثيرات ودور الكفاح المسلح في معارضته للنظام الاسلاموي في العقدين السابقين علي محتوي ونهج الثورة السودانية، والمرتبط بتوجيه النظر نحو قضايا الهامش السياسية والاقتصادية والثقافية، وعلي ظاهرة العنصرية، وشروط وشكل وحدة الدولة السودانية. وبينما يطغي التوافق بين قوي الثورة حول سلمية آليات التغيير، يعم الاختلاف -المعلن والغير معلن- حول الأفق الزمني لإحداث التغيير لهياكل الدولة لتلبي شروط الدولة المدنية الديموقراطية التعددية والعدالة القانونية والاجتماعية، وحول شروط وشكل الدولة السودانية الموحده وعلاقة الدين والدولة. حيث تري بعض قوي الثورة ضرورة إحداث التغيير الجذري فوراً (radical change) بموجب الشرعية الثورية، بينما تؤمن قوي أخري بالتغيير المتمرحل والمتدرج زمنياً وإرجاء القضايآ الدستورية التي تخص شروط وشكل وحدة الدولة وعلاقة الدين بالدولة لتبت فيها سلطة شرعية منتخبة.
ومن غير الخوض في تحليل وتقيم لواقعية وإمكانية تحقيق الرؤيتين نكتفي هنا بالاشارة الي بعض الشروط المهمة لإحداث التغيير الجذري: التغيير الجذري لمؤسسات وهياكل الدولة القائمة يستلزم وضع تقديرات واضحة لنتائج الفعل السياسي في ظل تواجد مجموعات وخلايا سياسية متعددة ومتناقضة الرؤية والأجندة والتوجهات السياسية، حتي لا ينهار "ما تبقي من الدولة ومن الأمن المجتمعي"، وتنزلق الدولة الي حالة الفشل الكامل. ويعني هذا ضرورة توضيح وتفهم أسباب وجذور أزمة اليقين في المجتمع، بما فيهم دور الصفوه السياسية في ذلك. ويجب في هذا السياق أتباع طرق واليات واقعية فعالة لإنها الأزمة، ووضع حسابات لردود فعل القوي المضادة للتغير. عموماً يجب أعتماد تنسيق منظم بين الفعل السياسي ونتائجه المرتقبة، تحت وضع إعتبارات لتأثير العوامل الداخلية والخارجية علي الفعل السياسي ونتائجه. في هذا الصدد تساعد الوسائل العلمية المجربة والمتوافق عليها علي خلق سناريوهات لمجري السياسة ونتائجها بهدف بلورة وأتباع سياسة ذكية لخلق شروط وأطر تؤدي الي عملية سياسة مستدامة لتحقيق التغيير الجذري المنشود في الانظمة السياسية والامنية والعسكرية والعدلية والاقتصادية وفي الخدمة المدنية لخلق شروط مستدامة لاعادة وترسيخ اليقين بالمستقبل القريب والبعيد عند المواطن.
بجانب أخذ الجدية في توفر الشروط اللازمة للتغير الجذري تكون هناك ضرورة قصوي لبث إحساس يقين بمستقبل أفضل في المجتمع من جانب قوي الثورة والتغيير الديموقرطي. وذلك بإظهار الجدية والنضوج والتوافق السياسي العريض، ومخاطبة جذور أزمة اليقين في المجتمع، والنأي عن السعي وراء المناصب وكراسي الحكم. وتنبع ضرورة التوجهات والسلوك الجدي والناضج والتوافق السياسي العريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي من الحوجة الملحة لتحفيذ وحشد أكبر قطاع ممكن من المجتمع لدعم ومساندة القوي القائدة للتغيير الجذري في الدولة والمجتمع. وذلك لأن النجاح في التصدي لآزمة اليقين في المجتمع يتطلب تواجد وعي وتوافق وقناعة بضرورة الفعل السياسي بهدف خلق الشروط والأطر اللازمة لتحقيق قدر من اليقين بالمستقبل في محيط حياتها.
خلاصة القول: أزمة اليقين بمستقبل الحياة ومآلاتها علي حياة المواطنين وعلي بقاء الدولة السودانية يوضح بجلاء حجم المسؤلية الواقعة علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي لتقديم أجوبة وحلول لإنهاء أزمة اليقين في المجتمع السوداني، والتي تمد جذورها الي فجر الإستقلال السياسي بتفجر الصراع علي السلطة والثروة.

shamis.khayal@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء