أزمة مياه أم أزمة تخطيط؟ … بقلم: هاشم بانقا الريح
18 September, 2009
hbrayah@yahoo.com
في الوقت الذي ظلت تشهد فيه مناطق كثيرة من العاصمة أزمة حادة في مياه الشرب، كانت الحياة تسير سيراً طبيعياً وكأنّ شيئاً لم يكن.. مؤسسات القطاع العام والخاص تقيم حفلات الإفطار الرمضانية، وبعض هذه الحفلات يُنقل على القنوات الفضائية، والمسؤولون يصرحون وما سئموا التصريحات، والناس تسير وكأنّ الأمر لا يعنيهم في شيء. وإن تعجب فعجب أن يأتي من يحدثك بانجازات ضخمة تشهدها البلاد!! وكان من الأولى أن يتحدث الناس ويكون همهم الأول توفير ضروريات الحياة.. فهل نصدق هذه الانجازات الضخمة وتشهد أحياء من عاصمة مقرن النيلين انقطاع يستمر لمدة أربعة أيام في إمداد المياه، ووجود خلل في تصريف مياه الأمطار يؤدي إلى خسائر بشرية ومادية ضخمة؟
ولعل ما يصيبك بالضيق أن تشعر أن تصريحات المسؤولين غير مقنعة أبداً وتحمل الكثير من الاستخفاف بالعقول. فهذا مدير مكتب مياه أم بده يعزي انقطاع المياه لتراكم الطمي في محطة المقرن. وهذه الإدارة العامة لهيئة مياه ولاية الخرطوم ترجع أسباب استمرار انقطاع المياه إلى ارتفاع تكلفة الكهرباء (صحيفة الرأي العام 17 سبتمبر 2009م). وتضيف الصحيفة أن العديد من المناطق بولاية الخرطوم قد شهدت أزمة حادة في إمدادات مياه الشرب، منها الكلاكلات والصحافة وجبرة وفي محلية بحري بشمبات، بينما شهدت أم بده بأم درمان أزمة حادة وصل سعر برميل المياه إلى (24) جنيهاً.. فتأمّل!!
وليس بعيداً عن سوء التخطيط واللامبالاة في أزمة مياه الشرب، ما حدث هذا الخريف من حدوث خسائر بشرية ومادية وبيئية كبيرة. نفوس أزهقت، وآلاف المنازل دُمّرت، وكثير من الأسر شُرّدت.. وكانت الحياة في بلادي تسير سيرها الطبيعي!! الحكومة والمعارضة جميعهم يتحدثون عن الانتخابات، وتطبيع العلاقات مع أمريكا، والعلاقة بين شريكي الحكم، ولا أحد يخرج ليقول كيف لنا أن نحل هذه المشكلات المستعصية المتمثلة في الانقطاع المستمر لمياه الشرب، والدمار الذي تسببه الأمطار خريف كل عام!!
صحيح أن ولاية الخرطوم، وفي أعقاب ما حدث من هلاك للحرث والنسل بسبب أمطار خريف هذا العام، قد خرجت علينا باعتراف مفاده وجود خلل في تصريف مياه الأمطار، لكن هل يكفي الاعتراف بالمشكلة؟ ماذا صنعت الولاية وهي توظف جيش من المهندسين يتقاضون مرتباتهم الشهرية ومستحقاتهم الأخرى ويدخلون في إضراب إذا تأخرت هذه المستحقات؟ ماذا فعلت الولاية وهي تعج بجيوش من المستشارين الفنيين، والأكاديميين والتقنيين الذين تلقوا تعليماً نوعياً وحصل بعضهم على تأهيل عالٍ خارج الوطن؟ أن تنهار 68 مدرسة بمحليات الولاية المختلفة - حسب الإحصائيات الأولية- فهذا وحده يكفي بأن يتوارى مسؤولو الولاية خجلاً من دافعي الضرائب الذين يسهمون بصورة رئيسة في تسيير أحول الولاية.
سعادة والي الخرطوم في تصريحاته، التي أعقبت ما سببته الأمطار والسيول من خراب ودمار وإزهاق للأنفس والثمرات، قال إن هناك خلل في كيفية تصريف المياه، وعلّل ذلك بقوله: "وذلك لأن بنيتنا الأساسية للصرف الصحي غير مكتملة". هذا واقع معروف ولا أظن أن هناك حاجة للإشارة إليه، ولكن ما يحتاجه الناس أن يقول الوالي ما هي الخطوات العملية التي اتخذتها الولاية، قبل وقتٍ كافٍ، لكي يعيش مواطنوها في مأمن من كوارث الخريف.
في مايو 2008م، أي قبل أكثر من عام من كارثة خريف هذا العام، كتبت مقالاً بعنوان: (أوقفوا الاحتفالات... الخريف قادم)، قلت في صدره:
"لو كنت من أصحاب السلطات لأصدرت قراراً فورياً بإيقاف كل أنواع وأشكال الاحتفالات على مستوى المركز والولايات ومهما كانت تكاليفها، قلّت أم كثرت، وتوجيه كل مخصصات هذه الاحتفالات والمناسبات لمجابهة المشاكل الكثيرة التي نُعاني منها وعلى سبيل المثال تلك المتعلقة بفصل الخريف ومخاطره، و الأخيرة – كما تعلمون – مشاكل ظلت تطل برأسها كل عام ولا نجد أي خطوات عملية أو حتى تحرك وأصوات إلا بعد أن تقع الفأس على الرأس و يحدث ما يحدث و ما خريف العام الماضي ببعيد. فقد تعودنا أنه بعد أن تهطل الأمطار تبدأ صيحات الاستغاثة من هنا و هناك و كأن الخريف يجيء فجأة هكذا!!"
واختتمت ذاك المقال بالفقرة التالية:
" هل يُعقل أن يظل هذا هو وضعنا وحالنا ونحن نروّج وبالفم العريض ومن منابر إعلامية للاستثمار الأجنبي؟ أي مستثمر هذا الذي يترك بيئات استثمارية توفر له كل شيء .. بيئة نظيفة و مريحة و تسهيلات جمة و يأتي يبحث عن الاستثمار في بلاد تتلذذ جهات الاختصاص فيها برؤية المياه الراكضة والبعوض المتفشي وتسير حياة أهلها بشكل طبيعي وسط كل ذلك؟!!"
المصيبة أنه لا تنقصنا الكتابات والتصريحات والخُطب التي تحدد المشكلة، ولكن ينقصنا التخطيط السليم والخطط الإستراتيجية المستقبلية، والهمم العالية التي تتفاني في تنفيذها.. فهل يأتي علينا الخريف القادم وقد أصبحت أزمة مياه الشرب، وسلبيات الأمطار والسيول من أحاديث الزمن الماضي؟
* مترجم وكاتب صحفي يعمل بالمملكة العربية السعودية