لم يكُن منتصف ستينات القرن العشرين يمُر علينا ، إلا ولياليها حلوة بأسمار الليل البريئة. كنت أخرج في الليل بعد رهق الاستذكار ، لأجد صفوة أصحابي وقد جمعهم ما يجمعهم كل ليلة . أصدقاء مُختلفين عن كل الصداقات التي يعرفها العامّة. أنا طالب في المرحلة الثانوية ، و "حامد" جندي في ورشة فنيي الميكانيكا في القوات المسلحة ، و" محمد سادة " عامل في ورشة الصيانة بجامعة الخرطوم . اختلاف في طبيعة العمل وتفاوت في سنوات العُمر ، واختلاف طبيعة التأهيل . لكل منّا مزاياه ، ولكن ما جمعنا هو عشق الغناء والسمر ، وحضور حفلات الأفراح.
(2)
في العاشرة مساء يخلو لنا الطريق من المارة . نلتقي تحت نور عمود الطريق على طرف شارع الأربعين بأبي كدوك ، جوار البقالة . تحت عمود الإضاءة كان " عبد الفضيل " بطبقه المملؤ لب التسالي ، وهي مُحمسة من بذور اليقطين ، ومملحة ، وتتكون من معادن شتى ، الزنك والمنجنيز والماغنسيوم والفسفور والنحاس والبوتاسيوم . يقضي صاحبها " عبد الفضيل " لبيعها فترة من الزمن ، يومياً منذ الغروب وإلى الساعة التاسعة مساء. كان يبيع القُرطاس الصغير بقرش صاغ . تجده واقفاً أمام طبقه الذي يستند على حاملة خشبية مُتحركة يحملها معه. المكان قرب البقالة ، ومكان بيع لب التسالي يمور بالمارة ، غدواً ورواحاً، ولا يخفّ أثرهم إلا من بعد العاشرة مساء. نجتمع عند هدوء المكان كل ليلة ، ننتظر بعضنا جلوساً على حواف الرصيف الخرساني الذي يحيط بطريق الأسفلت ، قرب المكان الذي كان يقف فيه " عبد الفضيل " ، أو نتجوّل حول المكان ونتسامر حول أخبار المناسبات وسيّر الناس.
(3)
عند الثانية عشر منتصف الليل ، نكون قد اصطفينا أنفسنا من عامّة الناس . وجلسنا إلى نديمنا الأكبر سناً " محمد سادة " ليترنم لنا ببعض أغنيات زمن الحقيبة ، فهو في الأصل من أهل " توتي " وقد رحل عنها لمنزلهم المُطل على " خور أبوعنجة " منذ خمسينات القرن العشرين . كان لأهله عظيم الأثر في تلك المرحلة الزمنية الغنائية ، إذ تتميز شطآن جزيرة " توتي " بالسمر الغنائي ليلاً ، بعد تمارين السباحة في النهر عصراً :
نردد نحن معه الأغنية ، ويغلبنا الضحك من طبيعة المُفردات ، وجرسها الموسيقي العجيب. عند الواحدة صباحاً ، نترقب مُصتنتين للأصوات القادمة من البعيد مع الريح وبعض الرطوبة . إيقاع " نُقارة النُوبة " هنا أو " الشُلُك " هناك. أصوات غناء حفلات الأعراس ، تأتينا تحملها الرياح مُتقطعة . نتحسسها بصمت ، ونتحرك لنتّبعها ، مشياً على الأقدام بين الأزقّة والدروب. كان مُكبر الصوت هو مُرشدنا . شمالاً لبانت شرقاً أو غرباً ، العباسية شرقاً أو غرباً ، الموردة ، حي الأمراء ، حي البوستة حتى حي السوق وحي العُمدة.
(4)
قادتنا الصُدفة مساء ذات خميس لحفل في حي السوق . البوابة فاتحة أذرعتها للضيوف من عامّة الناس. غرف مبنية من اللّبن متفرقة على أطراف باحة واسعة في منتصف الدار حيث موقع الحفل . جمهرة من النساء يجلسنَّ على الكراسي ، والرجال حسبما يتيسر لهم من المقاعد والبقية وقوف. يفصل النساء والفتيات عن الرجال بساطٌ ملوّن مفروش على الأرض، يقف ثنائي المطربَين الشعبيين ومجموعتهما الغنائية " الشيالين " الأربعة على الجهة الرجالية من الحفل في مواجهة النساء . يقف رجلٌ في منتصف العُمر يُدير رقص الفتيات والنساء يسمونه " مراقب الحفلة " وغالباً ما كان هو على علاقة بأسرة العروسين . يختار هو الراقصات من الشابات أو النساء لساحة الرقص على البساط المفروش . تتقدم كل واحدة منهُنَّ ،و بيديه يزيح الثوب عن عُنق الراقصة ، ويُخرج الشّعر المنسوج بضفائر رقيقة. الروائح العطرية السودانية تخرج فوّاحة إلى العلن . ويبدأ رقص الحمام ، وتعُم الزغاريد الحفل. يعلن "مراقب الحفلة" للعامّة بواسطة مُكبر الصوت الذي يتوسط الجميع أمام المُطربَين الشعبيين ، أن أخذ " الشبّال " من الراقصات ممنوع . وذلك وفق المُعتاد ،في حالة تواجد الكثير من العامّة والغرباء الذين سمعوا الغناء ، وجذبهم الطرب والحاجة للترفيه.
(5)
العريس يرتدي بدلة أفرنجية منتظمة الترتيب مع ربطة العُنق . يجلس العروسان على مقعدين وثيرين . العروس ترتدي قلنسوة مُرصّعة بالذهب على رأسها، وترتدي الثوب الزاهي تُرصعه دوائر صغيرة لمّاعة . امرأة طاعنة في السن تُحيط بالعروسين وتغمرهما بطيب البخور وهي تُردد الأدعية. تُحيط بالمقعدين مجموعة من الفتيات الصغيرات والأطفال، يتفرسون في هندام العروسين بإندهاش وفرح .نقف نحن في هدوء نُشاهد الحفل ، ونراقب كل شاردة وواردة فيه ، فقد جذبنا ما يجذب العامّة للمكان. هذه هي حصيلة اليوم المُظفّر الذي كُنا نرقبه.
الحفل يزخر بالجميع ، أقارب العروسين والأضياف، وعامّة الناس الذين جذبهم مُكبر الصوت . ضجّ المكان بجمهرة الحفل بعدد حضور يقارب المائتين إضافة للأطفال. نحن نصوّر و نُدقق على فعاليات الحفل : النساء في مقاعدهنَّ ، قسماتهُنّ وأزياءهُنّ، الرجال من الشباب ، ملبسهم المتنوع وطرائق مسلكهم في مشاهدة الحفل، طريقة " الشيالين " في مصاحبة المُطربَين " تيمان عطبرة " بترديدهم اللزمات الغنائية بأصوات تخرُج من الحُنجور. عند نهاية كل فاصل من الأغاني ، يذهب " الشيالون" مع المُطربَين للراحة ثلث الساعة ، يتناولون خلالها " عشاء الفنانين "، وهي مائدة مُميّزة فيها كل مطايب الطعام . وبعدها يتناول " الشيالون " قليلاً من ملح الطعام الذي يساعد قدرات الحبال الصوتية والحناجر في أداء الأغاني، ويقولون عنها إنها تعيد الحبال الصوتية لرونقها، ويدّعون سراً أنهم يبذلون جهداً يفوق المطرب ! . وبالطبع يتناولون الجّعة ما تيسر منها.
(6)
عند منتصف الحفل ، فجأة يدخل رجلٌ قوي البُنيان، طويل القامة ، يترنح من السُكر . يتوسط بُساط الرقص ، ويقترب من النساء الراقصات ، وهنَّ يجفلنَّ من ترنُحه ، ورائحة الخمر تطغي على كل شيء. يقترب منه "مراقب الحفل " يوسوس بهدوء في أذنه ، بأن يجلس في الكُرسي القريب من " السباتة " ليهدأ . يجفل الرجل فجأة كالملسوع ، ويحاول"مراقب الحفل" سنده بيده ، فينتفض ويتوسط "السباتة" يتمتم ببعض الكلمات غير المفهومة.
الجميع يرقب الرجل بحذر ، من أجل هدوء الحفل وسلاسة الاستمتاع بالغناء والطرب . لا يرغب أحد في معركة تقوم منتصف الحفل من لا شيء . يتباطأ الغناء ليسمح بحل القضية ، والبساط يخلو من الراقصات . والضيف الثقيل يترنّح ، لا يريد الجلوس ، ولا يريد أن نستمتع بمشاهدة الحفل وراقصاته مثل بقية الحضور. حاول "مُراقب الحفل" إخراجه من الحفل بالقوة ، ولكن تعذر ذلك فالرجل قوي وطويل القامة . تمنى الجميع أن ينتهي الأمر بسلام ، ولكن الرياح الباردة مع قدوم ساعات الفجر الأولى ، تُعقّد أمر السُكر.
أشار العريس لمراقب الحفل ، وهمس في أذنه . وذهب الأخير للرجل الذي أصبح يتوسط الحفل مُترنحاً ، ولكن لم تنفع جميع الحيّل في إزاحة هذا الكابوس . فجأة حلّ العريس ربطة العُنق ، وخلع جاكيت البدلة السوداء ، وهجم على الرجل ولكمه لكمة واحدة على فكه ، فسقط الرجل مغشياً عليه . علا صوت الأطفال من البهجة . حمل الرجل أربعة أشداء خارج الحفل . أعاد العريس ارتداء الجاكيت وربطة العُنق ، ودارت الحفل كأفضل ما يكون. علمنا من بعد أن الرجل ، بطل الفتنة كان من أصدقاء العريس . وشرب أكثر مما يتيسر ، وبدلاً عن المشاركة الايجابية في حفل صديقه بالعريس ، خرج ثعبان العقل الباطن إلى العلن ، وجعل من الرجل مُهرجاً كاد أن ينهي الحفل قبل موعده، ولكن جاءت خاتمة السعادة من حيث لا نحتسب .