نعلم أن الصحافة لا تمُد عُنقها لتسع "أشجار الأسئلة الكبرى" ، ونعلم أيضاً أن اختلاف المنهاج أوسع ، وأن لغة التخاطب تعسرت بيننا وبين الذين رءوا في السَّلف كل الحق ولا ينقصهم شيء سوى القداسة ويصبح السَّلف ممنوعين من الخطأ !، فصار في مِتن مراجعهم هم آلهةصغرى .لا أحد يجروء على الحديث المخالف حول رؤاهم . صار الخلاف إذن أكبر من الرتق . والمنهج الذي يسيرون فيه ،فرضوه علىالعامّة هو خط حديدي لا يقبل المناورة ، ولا يُعنى كثيراً بقضايا الفكر ، بل التلقين والحفظ ، وما علموا أنه أداة قديمة لا تَصلُح لعصرنا . وقد يتعجب هؤلاء إن سألهم طفلٌ سؤالاً بريئاً ، تحتار من جُرأته ألباب أهل التُراث ، والقيّمون على مؤسسة النقل والاتّباع !.
لكن الذين يختلفون معنا يستغربون أن نعيد دراسة مراجع السَّلف ، ونزيل عنها قداسة مُكتسبة ، أسهمت فيها آلية الفلكلور المنقول ، بل ونحن نُشكك في بعضها ، بل أكثرها ، ليس بمقاييس الزمان الماضي ، بل بمقاييس الحاضر الذي نحيا . لأنه لا حاجة لنا أن نُبعثهم من مواتهم الطبيعي ليكونوا أوصياء علينا في حاضرنا ، في الفهم وفي القناعات وفي منطق العصر .
(2)
يقول الذين يتّبعون قداسة أفكار السَّلف : { قد انقطعت أبواب التأويل والتفسير ، فقد وقف السَّلف على كل شيء في التفسير والتأويل وبالاجتهاد وبالقياس } . وحسب رأيهم ، أنهم نهلوا من كل معارف الدنيا عندهم حتى وصل اجتهادهم عصرنا !!. ونحن نقول لهم لا ، لن نتفق إلا مع الذي يدخل عقلنا المُفكر ، لا عقلنا النائم المُخدَّر . يبدأ السؤال : لمِ صار منهاج النقل من السَّلف خطاً أحمرَ ؟!
فمنهج النقل يقول لنا : إن الأقلام قد رُفعت وجفّت الصحائف ولا تقبل جديد التفسير أو التأويل ، وليس لدينا من سبيل سوى القياس على السَّلف ! أي نستبدل السيارة بالدابّة ، والصاروخ المُوجه بالمنجانيق ! .
قال المولى في مُحكم تنزيله : {...أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ..}
(3)
هذا هو أسّ الخلاف بيننا وبين الذين يعظِّمون السَّلف كأنهم لا يُخطئون . فلسنا نختلف على حديثٍ نبوي نبحث في تأصيله ونجري عليه آليات البحث والتنقيب عن صحة نسبته أو ضلال الاستشهاد به ، ولكنا نرفض مبدأ الوصاية ، ونبحث في أسئلة ربما يسألها " الأطفال " المُجنى عليهم في بلادنا بالتلقين ، إنه يوجد " الصحيح " وخلافه هو"الخطأ" !، والخطأ هو أن يكون هناك وجه آخر لكل شيء .ونحن نقول بخلاف ذلك : إن كل أمر يتعين أن يدخل قناعتنا عبر عقولنا الواعيّةالمُفكرة والمٌدبرة ، لا التي بينها وبين الإبداع بيدٌ دونها بيدُ . فصاروا يرون الجديد : كفراً صراح ، ونحن نراه قضية العصر ، وقضيةالطرائق الأمثل للخروج من النفق المظلم والحيرة التي لا تنتمي للعصر ، والتي نضيّع وقتنا فيها ، ويستعبدنا غيرنا الذين طورا أنفسهم بالعلم ، ونحن على هامش الدُنيا " ننعم بالجهالة " ! .
يقول المتنبي :
ذو العقلِ يَشْقَى في النَّعيمِ بِعقلِهِ ... و أخو الجَهَالةِ في الشَّقاوَةِ يَنعَمُ
نضرب مثلاً : إن الذين يتّهمون المصورين وصانعي التماثيل من الفنانين بالكفر لأنهم يحاولون الخلق بما يشبه الكائنات التي لها روح ! . ويتعين حسب زعمهم ألا يرسموا أو يصنعوا إلا نباتاً !.
لذلك امتلأت التصاوير في الماضي على تشكيلات النبات .
ونحن نسأل أليس النبات كائن حي ؟ . بل النبات يحيا ويحس ويتنفس ، وله مشاعر ، لا يعرفها السَّلف . ألم يرد في الذكر الحكيم :
وصدق من قال : إن القرآن لا تنقضي عجائبه . فمعانيه مفتوحة على القص من أحسن القصص. وفيه تتبرج لغة النص : في درجتها من البلاغة و الجزالة والفخامة حينا ، ومن التوسط فيها من الفصيح القريب السهل ، ومن الجائز المطلق المُرسل كما أسلفنا من قبل . وتدرج النص العقدي متقلباً من الفخامة إلى التقريرية ، وهنا كان لكل أمة مشربها ، بقدر ما وَسِعت الأذهان من معين المعرفة ، وفق ما تيسر لها من فهم . يظل النَقَلة يسبحون في سطح النصوص ، بلا هدي ، ويتجول الذي يرغب الغطس في أعماق النصوص ،الإبحار بينأصدافها الملونة وعجائبها التي تتكشف عند كل منعطف . وليس هنالك من سقوف للفكر .
وصدق المنقول عن الإمام علي " القرآن حمّال أوجه " فقد نفذ التعبير إلى لُب المسألة التي نحن بصددها .
(4)
لقد رضعنا من دروس السَّلف ، التي لا تخرج عن إطارها الزماني والمكاني ، لا تنظر في الفكر أو الحكمة من وراء النصوص التي وردت للتفكر فيها ، بل الحفظ والتلقين وقتل الإبداع الفكري بطقوس العادة ، ومنهاج الإتّباع .
هذا هو الفرق بيننا وبينهم . لا الاجتهاد انتهى وقته ولا التأويل انقضى نحبه ، فهنالك في داخل النص القرآني نصاً أحسن من نص ، وهنالك مراحل فيها تغيرت الأحكام مع الزمن :
هناك بفهمنا أن الآيات تتفاضل في الحُسن ، والخير ، وليست هي الخير الصّمدي المطلق ، لأن مشيئة المولى أن يكون الذكر الحكيم وفق مقدور البشر، لأنه موجه لهم وهم المخاطبين به.
والسؤال الذي ينبغي معرفته :
ما الحكمة من النصوص ، وما الحكمة في تغيّرها وتنوعها وتغيير بعض الأحكام في الزمان وفي المكان ؟
أيتغير الإنسان ليكون صالحاً للنص ، أم يتبدل النص لحاجة الإنسان والبشر ؟!
ولماذا تمّ تقييد نص النسخ على نصوص بعينها ثبّتها السَّلف دون غيرها !. ولم يتركوا لآية النسخ أن تكون منهاجاً ربانياً لتغير الإنسان مع الزمن .
أليس هو السؤال الوجيه الذي يقف في وجه الموروث مما يُطلق عليه " الثوابت " ؟
ألم يكن الإنسان في الزمان والمكان هو الأس الذي تغيرت النصوص لتوافق تطور حياته ؟
هذه هي "أشجار الأسئلة الكبرى ". ولن يستطع من ينقلون اجتهاد السَّلف كما هو أن يستأثروا بالمباحث التي تحتاجها الإنسانية ، بليطلقون العنان للصمدية المتصنّعة ، ألم يقرؤوا آياتٍ كُثر تتحدث :( أفلا يتفكرون ) ( أفلا يعقلون ) أو ، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }النساء82،
إنهم يتركون كل ذلك ليحوزوا شهادة حصيفة من مؤسسة النقل ، تلك المؤسسة صاحب إرث وتراث في تأسيس رجال الحرس القديم وعتاة أهل الفتوى ، الذين يفتون في كل شيء !. الذين يرون مناهج غيرهم خروجاً عن الملّة وكفر صراح !! . وها هم الذين تلبَّسوا سيرة السَّلف ونهضوا من قبور قرون خلت ، ليقيموا دولة الخلافة القديمة بأركانها: وقد أسسوا قواعد و أعمدةٍ وسقوف ، وبُنيان مُشيَّد ، فيه مؤسسة السبي والقتل داخلة في التكوين ، وهو تجسيد حيوي كامل لمؤسسة النقل ، التي يقف أمامها أصحاب الفتاوي ، يبكون أمام حائطها .
وذات الأسئلة نطرحها للذهن المُبدع ، لا ذهن النّقل الذي يخرج لنا غيلان التكفير من مخابئ تراث السَّلف . ولسنا في حاجة لمضاهاة المنقولات بالمسميات التي أكل الدهر عليها وشرب ، بل نطرحها لاستعمال الفكر الحر ، الذي ميزنا به المولى ، لنختار . وتلك هي "شجرة الأسئلة الكبرى "التي نريد أن تُفجِّر معارفنا من جديد ، لنترك التاريخ في قبره ، ونستخلص العبر منه ، لا أن ننقله بحذافيره إلى الحاضر . ومن بعد، نتفرغ لقضايا العصر : الإنسان وحقوقه والاقتصاد لنُطوعه ،لنلحق بالأمم الناهضة ،ونصبح شركاء النهضة والحداثة وروّادها ، وألّا نُصبح مستهلكين للحضارة ، بل من صناعها .