أشجان الدوحة
21 February, 2010
أقاصي الدنيا
أن تنشأ علاقة حب بينك وبين مدينة فذلك لا يمر بخطوات العشق التقليدية ( نظرة فابتسامة فموعد فلقاء ) ربما يتم اللقاء قبل الموعد وربما تكون الابتسامة هي التوقيع النهائي على بروتوكول العشق ، وهذا ما حدث بيني وبين الدوحة تأسيسا على معطيات جمالية فرضت علي خيارا عاطفيا لم أكن مهيئا ً له .
المدينة صغيرة جدا كجغرافيا لكنها مأهولة بالمعاني الكبيرة ومن هنا يبدأ التاريخ ، هي آسرة وشادة للوثاق ، ولا يبارحها من جاء إليها للعمل ، إنها تبدأ بعقد عمل وتنتهي بعقد أمل وربما لا تنتهي حتى نهايات العمر ، ألم يختار النور عثمان قبره في ثرى الدوحة ؟ !!
البارحة التقيت بكل أتراب صباي من ( أولاد الكلاكلة ) الذين هاجروا للدوحة في العام 1977م وظلوا هنا حتى ظهيرة الغداء الذي أمه كثيرون من زملاء دراستي .
اثنان وثلاثون عاما من الإقامة المتواصلة بالدوحة جاؤوا صبية وهم الآن على مشارف الستين وفي منتصف الخمسين ، إبيضت لحاهم وكبر أولادهم وبناتهم تزوجن بالدوحة لأنهن من مواليد قطر صار هناك طقس سوداني بكامله ( سمايات وختان ودق ريحة ) وخلافات وتنظيرات وأطر والدوحة إناء لكل هذا التنوع .
هكذا وجدت أن لي في الدوحة ذكريات وأشجان وصبابات وصداقات من قبل أن أزورها فاحترت كيف تكون أنت مقيما في مكان لم تزره من قبل ؟!!
كيف ينفصل تاريخك عنك فلا تكتشفه إلا حين تأتي مفاوضا ؟ أنا الآن أشارك في مفاوضات متعددة الأطراف مفاوضات دارفور ومفاوضات تاريخي ومفاوضات الدوحة !!
زارني هاشم كرار برفقة الصحفي فيصل خالد وكان هاشم طوال الحديث منهمكا في تسبيح من مسبحة تدلت من يده اليمنى وكان يهسهس سرا ولم تكن هذه العادة الجديدة من عاداته السابقة فسألته منذ متى هبطت عليه رحمة المسبحة فرد علي مبتسما ( من يوما ما جيت إنت هنا ) .
سبحان ربك قد كبرنا فمنذ ألفت هاشم في الثمانينات لم نكن سوى أن نمد أيادينا للشمس ونشوي عليها القصائد.
وأنا في الطريق راجلا في حي شبه شعبي داهمني رجل يرتدي العراقي اوالسروال الطويل ويحمل بين يديه صينية مغطاة بطبق أحمر وأسفل شفتيه (سفه) من تلك التي تذمها رباح وصاح بأعلى صوته ( اتفضل) وكان قاصدا جارا له فاعتذرت بكل صدق التمباك لأنني كنت على موعد مع صديق هاجر للدوحة منذ ربع قرن وليس في نيته العودة !
الصحفيون المبتعثون من قبل صحفهم وفضائياتهم لتغطية المفاوضات سودانيون . تجد الكتبي تلك الصيغة المليئة بالظلال وذلك الصوت الذي شده الله بحبال من عنده وأنعم به على " الجزيرة " وتجد تماضر من قناة الشروق وفريق كامل من صحيفة الشرق وعرفات وزوجته وفيص خالد ومن تلفزيون السودان تجد عبدالرحمن أبوشيبة كل هؤلاء تجاوزت إقامتهم العقد والعقدين أما أبوشيبة فقد قضى وحده ثلاثة عقود ونيف في الدوحة .
هذه هي الدوحة خليج هادئ وشجر خجول وشمس واضحة وضباب خفيف وهواء معرف النسائم وحكمة تتبدى في كل شيئ إنه سر تورطي العاطفي الجديد والبريئ.