أشعار هجاء
بابكر عباس الامين
6 November, 2013
6 November, 2013
babiker200@yahoo.ca
الهجاء نقيض المدح وهو ذكر المثالب، كذم قبيلة أو بطن أو شخص لعيب في النسب أو الخَلق أو الخُلق كالبخل؛ ومن الشعراء من هجا نفسه كالحطيئة. والواقع أن هجاء القبائل/البطون أساسه خلاف مع شخص، ثم يقوم الشاعر بإسقاطه علي قبيلته/بطنه، لأنها كانت الهوية في ذاك الزمان وذاك المكان. لذا، كانت القبائل والبطون تخشي الهجاءين فتكرمهم وتغدغ عليهم الأموال والهدايا لتحاشي الهجاء. ومن الشعراء من أدي الهجاء لمقتلهم، كدعبل الخزاعي وابن الرومي. معلوم أن هذا الباب الشعري قد انحسر بقدوم الإسلام؛ ومما يجدر ذكره أن عمرو بن العاص - قبل إسلامه - قد هجا النبي الأكرم، فقال: "اللهم إن عمرو بن العاص هجاني، وهو يعلم أني لست بشاعر، فاهجه اللهم وألعنه مكان ما هجاني". إلا أنه سرعان ما ازدهر - مع الفخر - بقدوم بني أمية حين استيقظت العصبية، وظهرت المذاهب والمعارضة السياسية (خوارج/شيعة/أنصار)، بلغ درجة فخر القبائل بإرثها الجاهلي. ووظّفت بنو أمية الأخطل لهجاء الأنصار. أما في العصر العباسي، فقد اتخذ الهجاء طابعاً آخرا، تجاوز النسب وركز علي الشخص، كما رفده المجون والزندقة بمادة خصبة.
إضافة إلي الأخطل، كان أشهر شعراء الهجاء في العهد الأموي الفرزدق وجرير. وقد دارت معركة هجائية بين الآخرين استمرت رحاها لنصف قرن، وأخطأ شاعر من نمير خطأ فادحا بالإنحياز للفرزدق في تلك المعركة، حين قال:
يا صاحبي دنا المسير فسيرا غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
فلقي نصيبه - مع قبيلته - من هجاء جرير الذي كان له أثراً مدمرا لبني نمير:
أنا البازي المطل على نمير أتيح من السماء لها انصبابا
فلا صلى الإلـه على نمير ولا سقيت قبورهم السحابا
ولو وزنت حلوم بني نمير على الميزان ما وزنت ذبـابا
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ، ولا كـلابا
ومن عقابيل هذا الهجاء يُـقال ان الرجل من نمير، إن كان في سفر أو حج، وسئل عن قبيلته، لا يذكر أصله ويجيب بذكر أية قبيلة!
ولا بأس من الإشارة للأبيات الشهيرة التي قالها الأخطل في هجاء تميم، قبيلة جرير:
ما زال فينا رباط الخيل معلمة وفي كُليب رباط الذل والعار
قومٌ إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي علي النار
فتمسك البول بخلاً أن تجود به ولا تبول إلا بمقدار
كذلك، قال الطرماح بن حكيم يهجو تميم:
تميم بطرق اللؤم أهدي من القطا ولو سلكت سبل المكارم ضلت
ولو أن برغوثا علي ظهر قملة رأته تميم يوم زحف ولّت
ولو أن عصفورا يمد جناحه لقامت تميم تحته واستظلت
وقال زياد الأعجم يهجو بني أشقر، بطن الشاعر كعب الأشقري:
قالوا الأشاقر تهجوكم فقلت لهم ما كنت أحسبهم كانوا ولا خُلقوا
وهم من الحسب الذاكي بمنزلة كطحلب الماء لا أصل ولا ورق
لا يكثرون وإن طالت حياتهم ولو يبول عليهم ثعب غرقوا
وأنشد دعبل الخزاعي يهجو الخليفتين المعتصم والواثق، عند موت الأول وتنصيب الثاني:
خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يفرح به أحد
فمرّ هذا ومرّ الشؤم يتبعه وقام هذا وقام الشؤم والنكد
وحين سئل الخزاعي أن يبايع المعتصم، رفض وقال:
ملوك بني العباس في الحكم سبعة ولم يأتنا في ثامن منهم الكتبُ
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة وثامنهم فيما أتى عندنا كلب ُ
وأني لأُعلي كلبهم عنك رفعة لأنك ذو ذنب وليس له ذنبُ
بيد أن هجاء الخزاعي وراءه دوافع سياسية إذ كان محباً لآل البيت، مؤمناً بحقهم في الحكم، مبغضاً لبني العباس، فكان مصيره القتل.
وقال عبدالله السميسر الأندلسي في عبدالله بن بلقين صاحب غرناطة، الذي كان من البربر:
رأيت آدم في نومي فقلت له أبا البرية إن الناس قد حكموا
إن البرابر نسل منك؟ قال إذن حواء طالقة إن كان ما زعموا
وهجا ابن الرومي شخصاً اسمه عمرو:
وجهك يا عمرو فيه طول وفي وجوه الكلاب طول
مقابح الكلب فيك طرّا يزول عنها ولا تزول
وفيك أشياء صالحات حماكها الله والرسول
فالكلبُ وافٍ وفيك غدر ففيك عن قدره سفول
وقد يحامي عن المواشي وما تحامي وما تصول
وإليك مبالغة ابن الرومي في وصف أنف ابن حرب:
لك أنف يا ابن حرب أنفت منه الأنوف
أنت في القدس تصلي وهو بالبيت يطوف
أيضاً، قال منصور الأصفهاني في أنف المغيرة:
وجه المغيرة كله أنف موفٍ عليه كأنه سقف
رجلٌ كوجه البغل تبصره من أجل ذاك أمامه خلف
أما الحطيئة، فقد هجا حتي والديه وزوجه، إذ قال يخاطب أمه:
جزاك الله شراً من عجوز ولقاك العقوق من البنينا
أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً علي المتحدثينا؟
تنحي فاجلسي مني بعيدا أراح الله منك العالمينا
حياتك ما عملت حياة سوء وموتك قد يسر الصالحينا
ظل الحطيئة يبحث ذات يوم عن شخص يهجوه، فقال:
أبت شفتايّ إلا تكلما بسوء فما أدري لمن أنا قائله
ولما لم يجد أحداً، نظر في حوض ورأي فيه وجهه فواصل يهجو نفسه في ذات القافية:
أري لي وجهاً شوّه الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله
أيضاً، هجا أبو دلامة نفسه قائلاً:
ألا أبلغ لديك أبا دلامة فليس من الكرام ولا كرامة
إذا لبس العمامة كان قرداً وخنزيرا إذا نزع العمامة
جمعت دمامة وجمعت لؤماً كذاك اللوم تتبعه الدمامة
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا فلا تفرح فقد دنت القيامة
بيد أن هجاء أبي دلامة لنفسه ليس من أجل الهجاء كما فعل الحطيئة، بل وراءه قصة طريفة؛ هي أن الخليفة المهدي طلب منه في أحد مجالسه أن يهجو أحد الحضور في ذاك المجلس، وإلا قطع لسانه. فكان يجول ببصره علي الحضور، وكلما وقع بصره علي أحد يغمز له بعينه بمعني "أتركني"، فلم يجد بداً من هجاء نفسه بتلك الأبيات، فكافأه المهدي بمبلغ كبير.
معلوم أن الجاحظ كان قبيحاً وقال: ما أخجلني قط إلا امرأة مرت بي إلي صائغ فقالت له: أعمل مثل هذا، فبقيت مبهوتاً ثم سألت الصائغ، فقال: هذه المرأة أرادت أن أعمل صورة شيطان، فقلت لا أدري كيف أصوّره، فأتت بك لأصوره علي هيئتك، وأنشد:
لو يُمسخ الخنزير مسخاً لرأيته في القبح دون الجاحظ
رجلٌ ينوب عن الجحيم بوجهه وهو القذي في عين كل ملاحظ
غير أن الجاحظ قد كان منسجماً مع وضعه ويتندر بقبحه، ربما لعلمه وثقافته، فقال: دعاني المتوكل لتأديب ابنه، فلما رآني استبشع منظري فأمر لي الخليفة بعشرة آلاف درهم وصرفني!
وتوجد المهاجاة وهي أن يقوم شاعران بهجاء بعضهما، كتلك التي دارت بين بشار بن بُرد وحماد عجرد، اللذين اشتهرا بالمجون والظرف، قال بشار عن حماد:
نِعم الفتي لو كان يعبد ربه ويقيم وقت صلاته حمادُ
وابيضّ من شرب المدامة وجهه وبياضه يوم الحساب سوادُ
فرد عليه حماد:
ألا من مُبلغ عني الذي والده بُـردُ
إذا ما نـُسب الناس فلا قبلُ ولا بعـدُ
هو الكلب إذا مات فلم يُوجد له فقـدُ
وأنشد الشاعر الجلي يهجو فم شخص اسمه يحي:
فمٌ ليحي ريحه منتن لم يُر مثله يوماً قط
لو أنه عضّ علي فأرة لعاف أن يأكلها القط
أثناء زيارته لأحد البخلاء، لاحظ الشاعر اضطراب البخيل خشية أن يأكل معه، فأشفق عليه قائلاً له انه صائم، فتفتحت أسارير مضيفه، وقال:
تغير إذ دخلت عليه حتي فطنت فقلت في عرض المقال
عليّ اليوم نذراً من صيام فأشرق وجهه مثل الهلال
وزار أبو نواس شخصاً اسمه أبو نوح، فأكرمه كما لم يُكرم أحداً قبله ولا بعده، فأنشد:
أبو نوح دخلت عليه يوما فغذانا برائحة الطعام
وقـدّم بيننا لحماً سميناً أكلناه علي طبق الكلام
فكان كمن سقي الظمآن آلا وكنت كمن تغذي في المنام
وعن البخل في أتفه الأشياء، قال أحدهم يهجو ابن يوسف:
لو أن بيتك يابن يوسف ممتلٍ إبراً يضيق بها فناء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ليخيط قد قميصه لم تفعل
وقال أبو إسحاق الصابي يصف شخصاً ذا رأس فارغ ارتدي عمامة بيضاء، أخالها شبيهة بعمامة نافع (المركوب):
يا من تعمّم فوق رأس فارغ بعمامة مروية بيضاء
حَسَنت وقبح كل شيء تحتها فكأنها نور علي ظلماء
لما بدا فيها أطلت تعجبي من شر شيء في أجلّ إناء
لو أنني مكّنت مما اشتهي وأري من الشهوات والآراء
لجعلت موضعها الثري وجعلتها في رأس حر من ذوي العلياء
ثمت شعر طريف ظاهره المدح وباطنه الهجاء، يحتوي علي التلاعب باللغة، يقوم فيه الشاعر بتغيير حرف في مفردة يفضي لتحويل معناها من مدح إلي ذم. يقول أحمد بن محمد يعقوب الملقب ب"مسكويه" هاجياً أحدهم:
أيا ذا الفضل و اللام حاءُ ويا ذا المكارم والميم هاءُ
ويا أنجب الناس والباء سين ويا ذا الصيانه والصاد خاءُ
ويا أكتب الناس والتاء ذال ويا أعلم الناس والعين ظاءُ
تجود على الكل والدال راء فانت السخي ويتلوه فاء
لقد صرت عيبا لدار البغاء ومن قبل كان يُعاب البغاء
وفي نفس الأسلوب يقول ظافر السيف مخاطباً أحدهم:
أيا كاتبا طاب فيك الرجاء وطابت مسـاعيك والطاء خاء
كتبت الرواية والراء غين وكان الثنـا منك والثاء خاء
بليغ كما قيل والغيـن دال خبير نعم أنت والراء ثاء
جميـل بلا شك والجيم عيـن كريم بفعلك والميـم هاء
كتبت سـطورك واللام قاف بفهم سـليم بغير انتـــهاء
عظيم المبـادئ والظـاء قاف سـليم العبارة والميم طاء
وتسعى دؤوبا لنشـر السطور بأرض الفضيلة والطاء فاء
ونكتفي بهذا القدر فالقصيدة طويلة شلمت كل حروف الهجاء كما قال في آخر بيت:
فقف عند حـدك إنا نثرنـا لكشـف الخبايا حروف الهجاء
وبغض النظر عن رأي المتلقي في الهجاء، فإنه دون شك يستحسن المجهود المبذول في المثالين المذكورين أعلاه، لأنه يتطلب إضافة للموهبة الشعرية حذق لغوي غير يسير.
ونظم إسماعيل بن أبي بكر المقري أبياتاً إن قرءتها من اليمين إلى اليسار تكون مدحا، وعندما تقرؤها من اليسار إلى اليمين تصير ذما. إليك هذا المقطع من اليمين إلي اليسار في المدح:
طلبوا الذي نالوا فما حُرمــوا رُفعتْ فما حُطتْ لهـــم رُتبُ
وهَبوا ومـا تمتْ لهم خُلـق سلموا فما أودى بهـــم عطَبُ
جلبوا الذي نرضى فما كسدوا حُمدتْ لهم شيمُ فـمـا كسبوا
وهذه ذات الأبيات حين تقرؤها من اليسار إلى اليمين فتصير ذما:
رُتب لهم حُطتْ فمـا رُفعتْ حُرموا فما نالوا الذي طلبُوا
عَطَب بهم أودى فما سلموا خُلق لهم تمت ومـا وهبُوا
كسبوا فما شيمٌ لـهم حُمدتْ كسدوا فما نرضى الذي جلبوا
أما هجاء أبي الطيب المتنبي لكافور الأخشيدي فآثرت ألا أشير إليه لانحطاطه، ولأنه ظل يتودد ويتذلل للخلفاء، ويمدحهم وحين لا يجد مآربه يقوم بشتمهم والتشفي فيهم. وصفه طه حسين قائلاً: كان يحب الغني والثروة مستعلياً علي الناس، ومدح من كان يحتقرهم أشد الاحتقار وباع نفسه للملوك والأمراء.
# # # #
وسأفسد عليك مزاجك، كما أفسدت مزاجي، أبيات غثة مشمئزة لرفاعة رافع طهطاوي:
وما السودان قط مقام مثلي ولا سلماي فيه ولا سعاد
بها ريح السموم يشم منه زفير لظي فلا يطفيه وادي
ولو لا البعض من عرب لكانوا سواداً في سوادٍ في سوادٍ
مثل هذه الأبيات المشبعة تفاهة وسفاهة وبلاهة لا تُصنف ضمن الهجاء، بل تندرج في باب قلة الحياء وسوء الأدب، إذ لم تصدر مثلها من شاعر في العصر الحديث. ولا يعنينا كثيراً إن نظم هذا الطنطاوي تلك الأبيات في ظرف نفسي خاص. وإن قارنا طنطاوي بالحطيئة، فإن المرء ليعذر الأخير إذ كان موعوس ومغموز النسب في مجتمع لا يرحم مثلبة كهذي؛ ووصفه الأصمعي قائلاً: كان جشعاً سؤولاً ملحفاً دنيء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيلاً، قبيح المنظر، رث الهيئة، فاسد الدين.