أشهر على تقرير المصير: إلى أين ستنتهي بنا التجربة.. وحدة أم انفصال؟ .. تقرير : خالد البلولة إزيرق

 


 

 

ثمانية اشهر تفصل مواطني الجنوب عن ممارسة حق تقرير المصير بشأن الوحدة أو الانفصال، بحسب ما نصت عليه اتفاقية السلام الشامل «2005م» وقد انقضت مدة اتفاقية السلام التي ضربتها لشريكي نيفاشا لجعل خيار الوحدة جاذباً، ولكن دلائل العلاقة بين الشريكين التي شهدت طيلة فترة تنفيذ اتفاقية السلام الشامل حالة من التشاكس وعدم الاستقرار السياسي، دفعت كثيراً من المراقبين الى ترجيح خيار الانفصال، بعد أن فشل الشريكان بإعتراف الحركة الشعبية في جعل الوحدة جاذبة، وبخلاف علاقة الشريكين التي لم تشهد أي نوع من الاستقرار بينهما، فهناك العامل الخارجي الذي بدا يلعب دوراً أكثر وضوحاً من ذي قبل بإتجاه دعم استقلال الجنوب عن الشمال عند ممارسة حق تقرير المصير خاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر اكبر داعم وراعي لإتفاقية السلام الشامل.

إذاً تعقيدات داخلية، وأجندة خارجية ستكون حاضرة بقوة عند ممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير في يناير القادم، بالإضافة الى وسائل تأثير أخرى ستتجاذب المواطن الجنوبي ما بين خياري «الوحدة والانفصال» فكيف ستكون التجربة القادمة والى أين تنتهي مآلاتها، الى وحدة تكذب بها كل تكهنات القائلين «بالانفصال» أم الى إنفصال تعزز به تجارب دولية كثيرة إنتهت في أغلبها الي حالة انفصال في الاقاليم التي أجري لها استفتاء نتيجة لمشاكل وتعقيدات مشابهة لحالة جنوب السودان.

مراقبون كثر يشيرون الى أنه برحيل مؤسس الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق الذي كان ينظر إليه الكل باعتباره رجل الوحدة، فبرحيله صعدت الى المسرح السياسي بصورة كبيرة نبرات الانفصاليين، خاصة بعد التعقيدات التي صاحبت عملية تنفيذ الاتفاقية، لتتجاذب الساحة السياسية قيادات الوحدة والانفصال، تجاذب دفعنا الى الوقوف على تجارب الوحدة والانفصال في العالم ومقاربتها بما تؤول إليه التجربة السودانية على ضوء المستجدات الراهنة التي ستحسم بعد ثمانية أشهر. وكان الدكتور عطا البطحاني قد قال قبل بضعة اشهر في المائده المستديرة لأساتذة العلوم السياسية بـ»طيبة برس» بصعوبة ترجيح أى من الإحتمالين «الوحده والانفصال» على ضوء التعقيدات التى تتسم بها القضية، وقال «ان الحديث عن الوحدة والانفصال لا يخلو من العاطفه، وأضاف ان الوحدة والانفصال بالنسبة للقوى السياسيه تعد مباراة لحصد المصالح «لخدمة مصالح قواعد التأييد في الشمال او الجنوب» وهذه المصالح هي التى تحدد موقف أى حزب من الوحدة أو الانفصال وفي هذه الحالة يتم التحدث عنها بدون قيود اخلاقيه، ولكنه قال «ان مجموع مصالح هذه القوى من الوحده أكثر من الانفصال ويمكن ان تعظم مصالحها بالوحده بدرجة اكبر من الإنفصال». وحمل البطحانى مسئولية تحقيق الوحده على الطبقة الحاكمة، التى قال إنها عجزت منذ الاستقلال عن ايجاد مشروع يوفق بين مكونات البلاد، مرجعاً ذلك الفشل الى ما اسماه بـ»الخاصية البنيوية» لهذه الطبقه التى قال انها تنتهج ذات التوجه السياسي العام في كل النظم، وكان نتيجة ذلك ان النسيج التراكمي للوحدة بدأ يتآكل ويتضاءل.

فبعد إنتهاء العملية الانتخابية التي شغلت المسرح السياسي كثيراً، تقبل الدولة السودانية خلال الاشهر القادمة الى اكبر امتحان تاريخي يتعرض له السودان عند ممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير، وهي ممارسة ينظر لها كثيرون من زوايا مختلفه بإختلاف زوايا نظرهم، فمن تعقيدات الوضع الداخلي ومساهمته سلباً أو إيجاباً في تحقيق الوحدة، يبرز العامل الخارجي كأكبر مؤثر في عملية الاستفتاء، وفي سياق العامل الخارجي تبرز الى السطح تجارب مماثلة لتقرير المصير في البعد الإقليمي المجاور والدولي البعيد، التي فيها العامل الخارجي دوراً كبيراً في نتائجها النهائية. فظاهرة الانشطار في الدول خلال العقود الماضية التي إنتهت إليها تجارب تقرير المصير شكلت عبئاً ثقيلاً على المحيط الإقليمي والدولي، نتيجة حالة عدم اللا استقرار التي سادت بين أجزاء الدول «المنفصلة» فيما كان القاسم المشترك بين كل حالات «تقرير المصير» هي «الاقليات» في تلك الدول التي لم تشهد حالة من الاستقرار، مما جعلها حواضن نموذجية للنزاعات الانفصالية. ويرجع خبراء ظاهرة الانفصال في الدول إلى عملية تشكيل الامم وبنائها والتي تنقسم إلى امم تاريخية وامم متأخرة نشأت في القرنين الماضيين تحت ظروف سياسية واجتماعية وجغرافية معينة، وهناك امم لم تشكل بعد، بالرغم من وجود افرادها داخل دولة واحدة كما هو الحال بالنسبة للسودان الذي يصدق عليه وصف دولة بلا أمة. وتذهب جملة من العوامل باتجاه تهيئة المناخ لاحداث عمليات الانفصال في كثير من دول العالم التي شهدت هذه الظاهرة، وبالرغم من تشابه تلك العناصر في كثير من البلدان التي تشهد استقراراً ايضاً، إلا أن قضايا الوحدة والانفصال تتداخل فيها عوامل كثيرة بوضوح من خلال تجربتي المانيا وتيمور الشرقية، ففي العام 1986م كانت السياسة الدولية ترمي الى انهيار سور برلين باعتباره العلامة المادية الواضحة لنهاية الحرب الباردة واعلان توحيد المانيا الشرقية والغربية، كبداية فعلية لتفكيك الاتحاد السوفيتي والذي وصل نهايته في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. ولكن موازنات المجتمع الدولي التي ذهبت باتجاه الوحدة لألمانيا، اختلفت كلياً بخصوص تيمور الشرقية ذات الأهمية الاستراتيجية والتي اعلن انفصالها رسمياً من أندونيسيا في العشرين من مايو 2002م بعد ان لعبت استراليا دوراً كبيراً في ذلك، «للمقارنة فقد طلبت الحركة الشعبية الاسبوع الماضي من دولة استراليا ان تكون مشرفة على عملية الاستفتاء في الجنوب يناير القادم» ولكن تجدد اعمال العنف بين فصائل «تيمور» المتحاربة عده مراقبون مؤشراً لعدم استقرارها نتيجة عملية انفصال لم تدرس معالمها جيداً، ويشير كثير من المحللين في السودان الى خطورة التصويت على الانفصال دون اعمال النظر في النتائج، برغم ترجيحهم للانفصال بنسبة «90%» مرجعين ذلك إلى ان الجنوبيين الذين عاشوا حول الخرطوم خلال الـ «21» عاماً الماضية لم تجذبهم الوحدة نحو الشمال رغم ارتباط مصالحهم به، كما ان اللاجئين الموجودين بمعسكرات شرق ووسط افريقيا في «كينيا ويوغندا والكنغو الديمقراطية» ليست لديهم فكرة عن السودان الموحد بعد أن انقطع بهم الوصل بالسودان، وصارت بينهم اجيال لا تعرف السودان بعد أن هجرته منذ اكثر من «25» عاماً.

ويضيف محللون إلى العامل الخارجي في عملية الوحدة والانفصال العامل الديمغرافي، مشيرين إلى ان التركيز الديمغرافي لجماعة متجانسة لم تحدث لها عملية انصهار في المجتمع يوفر ارضية خصبة لتخليق مجتمع مضاد يتجابه في بعض الحالات مع الدولة، ويتجلى هذا العامل في حالة الاكراد الذين ينتشرون في تركيا وسوريا والعراق، والذين حرصوا على تشكيل دولتهم إلا ان عوامل خارجية عديدة وقفت ضدهم، عكس التجربة النيجيرية التي نجحت في امتصاص هذا العامل بتجربة تحول ديمقراطي مبنية على فيدرالية اثنية اقليمية حيث تم تفريق الاثنيات على الاقاليم المختلفة. وكان الاستاذ عبد الوهاب الطيب الاستاذ بمعهد البحوث والدراسات الافريقية بجامعة افريقيا العالمية، قد قال لي سابقاً، ان مؤشرات التحول المستقبلي في السودان ذاهبة باتجاه الخصوصية الاثنية في الجنوب باتجاه الانفصال في ظل حركة تكتل الشمال في اطاره العربي الاسلامي. ويتفق معه عدد من المراقبين الذين يشيرون الى تشابه التجربة النيجيرية والسودانية، حيث ان جنوب السودان وشرق نيجيريا اللذان اندلع بهما التمرد يتشابهان بوجود ثروات بهما وعانيا من التهميش، الا أن الصراع في جنوب السودان اتخذ شكل العصابات، اما في نيجيريا فقد كانت حركة فصل كاملة. وبرغم كثرة العوامل التي تدفع باتجاه الانفصال في الدول إلا ان العامل السياسي يعتبر من اقوى المحفزات، وترتبط به محاور ذات صلة وثيقة تتمثل في المؤسسات السياسية التمييزية.. والآيدولوجيا الوطنية الاقصائية القائمة على الإثنية والسياسة الداخلية غير المتوازنة بين الاقاليم والتكتيكات المستخدمة من قبل النخب ورجال السياسة في الصراع السلطوي.

ويذهب المحللون إلى ان العامل الاقتصادي لا يقل أهمية عن السياسي ان لم يتفوق عليه في تعزيز خيارات الوحدة والانفصال في الدول، فقد اشارت دراسات عدة إلى ان الدول ذات المصادر الطبيعية الوفيرة والغنية تواجه خطر الحرب الأهلية بدرجة اكبر من الدول ذات المصادر الفقيرة، وقد اعتمدت هذه الدراسات على النزاعات العسكرية في افريقيا وجنوب شرق آسيا وامريكا اللاتينية، والتي يلعب فيها العامل الدولي دوراً كبيراً خاصة الصراع الدولي على النفط والمعادن. فيما يشير آخرون إلى ان تأثير هواجس الانفصال يتضاءل حال وفرت الدولة اطاراً نشطاً للاندماج بحيث يكون التمثيل السياسي متعادلاً وتوزيع السلطة متكافئاً خاصة بالنسبة للجماعات ذات التوجهات الانعزالية وغير القابلة للانسجام مع الثقافات الاخرى، مما يشعر الجميع بالمصلحة المشتركة ويجعلهم شركاء في الدفاع عن الوطن وحمايته.

ومع مواجهة السودان «يناير القادم» بخياري الوحدة والانفصال ولكل منهما آلياته وطرقه ووسائله، فقد شهدت العقود الماضية نماذج انفصالية عديدة كان ابرزها اعادة رسم خارطة اوروبا الشرقية بشكل جديد على ضوء انهيار الاتحاد السوفيتي، ونتيجة لحرب الخلافة اليوغسلافية حيث ظهرت اكثر من «دستة» بلاد جديدة للوجود معظمها جاء بمبادرة من الولايات المتحدة الامريكية التي تلعب الآن دور الفاعل الرئيسي في تقرير مستقبل السودان على ضوء خيار الوحدة والانفصال، خاصة وأن الموقف الامريكي قد إستبان مؤخراً بدعم مشروع استقلال جنوب السودان حسبما عبر مبعوث الرئيس الامريكي أسكود غرايشن امام الجالية الجنوبية بواشنطون الاسبوع الماضي الذي قال فيه «عن علم بلاده بالتزوير والصعوبات التى واجهت العملية الإنتخابية فى السودان وقال إنهم سيعترفون بها من اجل الوصول لإستقلال جنوب السودان وتفادى العودة الى الحرب» بما يوضح أن الهدف الامريكى من العملية الانتخابية برمتها كان ينحصر فى كونها خطوة ضرورية على طريق التقدم نحو الاستفتاء على حق تقرير المصير وفصل جنوب السودان، فالدعم الدولي وخاصة الأمريكي لمشروع الانفصال قد يشكل أكبر مؤثر على الناخب الجنوبي عند ممارسته للاستفتاء.

وليس بعيداً عن السودان فقد استقلت اريتريا عن اثيوبيا التي ضمت لها العام 1953م بعد استفتاء اجرى بواسطة الامم المتحدة في العام «1991م»، وبحسب مراقبين فإن التجربة السودانية لن تمضى باتجاه التجربة الاثيوبية الاريترية، نسبة للهوة الكبيرة في العلاقة بين الاريتريين والاثيوبيين، برغم مؤشرات الانفصال الماثلة لدى الكثيرين لأن جنوب السودان مصلحته في الوحدة لعوامل اقتصادية وسياسية وأمنية، فيما يرى آخرون ان جنوب السودان جزء من الدولة عكس اريتريا التي كانت دولة ضُمّت إلى اثيوبيا. وغير بعيد عن التجربة الاريترية، فقد مثلت الوحدة اليمنية مطلع التسعينيات كذلك دليلاً شاهداً على التقلب على عملية الانفصال، وحيث يشير كثيرون الي ان النموذج السوداني قابل إلى وحدة اشبه باليمنية حال ادركت النخب الجنوبية مصالحها الحقيقية وكان ذلك خيار المجتمع الدولي. ولكن تجربة كوريا التي انقسمت الى دولتين لاسباب آيديولوجية رغم وحدة الشعب وثقافته وتسعى الآن لتوحد في شكل كونفدرالية، تبدو أبعد عن النموذج السوداني الذي يزخر بتعدد ثقافي واسع عكس الوضع الكوري الذي يعتبر شعباً واحداً لغةً وديناً مما يرجح خصوصية الفيدرالية التي منحت للجنوب خيار الانفصال عكس التجربة الكورية التي تدل مؤشراتها نحو الوحدة.

 

khalid balola [dolib33@hotmail.com]

 

آراء